تقرير : فاغنر مستمرة لتعزيز استثماراتها في إفريقيا
بعد أربعة أيام من محاولة التمرد المسلح الفاشلة التي قادها، زعيم مرتزقة “فاغنر”، يفغيني بريغوجين، وصل مبعوث روسي إلى بنغازي للقاء المشير خليفة حفتر، قائد ما يسمى “الجيش الوطني الليبي”، الذي تسيطر قواته على جزء كبير من شرقي البلاد.
وبحسب صحيفة “الغارديان” البريطانية فإن الرسالة التي بعثها الكرملين إلى خليفة حفتر “القلق”، كانت مطمئنة، ومفادها أنه “سيبقى أكثر من 2000 مقاتل وفني وناشط سياسي وإداري من مجموعة فاغنر في البلاد”.
وأوضح المسؤول الروسي أن بقاء عناصر المجموعة العسكرية الخاصة لن يعترضه أي عقبات، مشيرا إلى حدوث بعض التغييرات في القيادات العليا، قبل أن يقول لمضيفه الليبي: “لا تقلق، لن نغادر إلى أي مكان آخر”.
وفي حال ثبتت تلك الواقعة، فإن المحادثة، التي نقلها مسؤول ليبي سابق رفيع المستوى إلى صحيفة البريطانية، تؤكد عدم تضرر “فاغنر” وشبكتها الواسعة من الشركات في جميع أنحاء إفريقيا من تداعيات التمرد الذي شهدته ؤوسيا.
“أهمية كبرى لأفريقيا”
ويرى خبراء أن مرونة العمليات التجارية لـ”فاغنر” ورغم من الاضطرابات في موسكو، تشير بقوة إلى أن نظام فلاديمير بوتين سيسعى إلى استغلال الشبكة المربحة لمئات الشركات التي أنشأها بريغوجين، بدلا من إغلاقها.
ففي ليبيا، لم يكن هناك تحرك غير طبيعي لعناصر مجموعة المرتزقة، باستثناء إعادة نشر مفرزة صغيرة من 50 فردا بالقرب من الحدود مع السودان، كما أن الوضع كان مشابها في أماكن أخرى من القارة السمراء، وفقا لمصادر في عدة بلدان أفريقية.
وفي هذا السياق، ترى ناتاليا دوكان، مؤلفة تقرير حديث عن عمليات فاغنر في جمهورية أفريقيا الوسطى التي نشرته “ذا سنتري”(The Sentry)، وهي منظمة تحقيق مقرها الولايات المتحدة. “إن عناصر فاغنر مثل الفيروس الذي ينتشر، ولا يبدو أنهم يخططون للمغادرة. إنهم يعتزمون البقاء”.
ورغم أن الاهتمام تركز بشكل أساسي على دور فاغنر القتالي، لا سيما في أوكرانيا في الأشهر الأخيرة، يقول محللون ومسؤولو مخابرات غربية إن الأنشطة الاقتصادية والسياسية للمجموعة في أفريقيا هي التي تحظى بأهمية كبرى لدى بوتين.
وتوضح جوليا ستانيارد، الخبيرة بشؤون فاغنر في المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية: “منذ نشرها لأول مرة في العام 2017، أصبحت فاغنر بالفعل أكثر انتشارًا ونفوذا”.
وأضافت : “الآن يبدو أن الكرملين يحاول التأكيد على استمرارية نشاطها، ناهيك عن الرغبة في التوسع السريع”.
“لا تقلقوا”
وفي الأسبوع الماضي، طمأن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، حلفاء الكرملين في أفريقيا، مشددا على أن مقاتلي فاغنر المنتشرين في القارة لن يُنسحبوا منها.
وفي مقابلة مع قناة “روسيا اليوم” الحكومية، تعهد لافروف بأن “المدربين” و “المتعاقدين العسكريين الخاصين” سيبقون في جمهورية أفريقيا الوسطى ومالي، وهما دولتان في أفريقيا جنوب الصحراء حيث تتمتع “فاغنر” بأكبر حضور لها في القارة السمراء.
وكانت العملية التجارية الأكثر تطورًا وتسرعا التي تديرها “فاغنر” تجري فصولها في جمهورية أفريقيا الوسطى، حيث وصل مرتزقة المجموعة في عام 2018 لتعزيز حكم رئيس البلاد، فوستان آرشانج تواديرا، الذي كانت قواته تكافح لصد هجمات المتمردين على نظامه.
ومن قواعد متعددة داخل وحول بانغي، عاصمة جمهورية إفريقيا الوسطى، أدارت فاغنر عملية تعدين واسعة النطاق في جميع أنحاء البلاد، وذلك قبل أن تبدأ تعمل في صناعة وبيع البيرة والمشروبات الروحية، ناهيك عن حصوله على امتيازًات مربحًا للغاية لاستغلال الغابات المطيرة في جنوب البلاد.
كما حازت المجموعة الروسية على رخصة استثمار منجم الذهب منجم الذهب (Ndassima) الهائل، والذي يُعتقد أن البنية التحتية الضعيفة قد حدت من إنتاجه، مما أجبر شركة فاغنر على السعي لتحقيق الأرباح من خلال الاستيلاء على مناجم أصغر على طول المنطقة الحدودية الشرقية النائية لجمهورية إفريقيا الوسطى.
وفي العام الماضي، شن مقاتلو فاغنر غارات على مناجم ذهب هناك أسفرت عن مقتل العشرات، بحسب ما قاله شهود عيان للصحيفة البريطانية.
ويُعتقد أن هذه العمليات كانت هي المهمة الأساسية لمفرزة صغيرة من مقاتلي فاغنر، والتي تشرف أيضًا على تهريب الذهب وأشياء أخرى كثيرة إلى السودان، حيث تتمتع مجموعة المرتزقة باتصالات وثيقة مع قوات الدعم السريع التابعة لمحمد حمدان دقلو حاليًا، بحسب خبراء.
عقوبات غربية
وفي الشهر الماضي، فرضت وزارة الخزانة الأميركية حزمة جديدة من العقوبات تهدف إلى “تعطيل الجهات الفاعلة الرئيسية في الشبكة المالية لمجموعة فاغنر وهيكلها الدولي”.
وتم استهداف ثلاث شركات، وجميعها منخرطة في أفريقيا، وأحدها كان مؤسسة “Midas Ressources”، وهي شركة تعدين مقرها جمهورية إفريقيا الوسطى مرتبطة ببريغوجين، والتي قالت وزارة الخزانة الأميركية إنها “تحتفظ بملكية امتيازات التعدين في جمهورية إفريقيا الوسطى وتراخيص التنقيب عن المعادن والمعادن الثمينة وشبه الثمينة والأحجار الكريمة واستخراجها”، بما في ذلك منجم نداسيما.
وكانت الشركة الثانية المستهدفة هي “Diamville”، التي وصفتها واشنطن بأنها “شركة مشتريات للذهب والألماس مقرها جمهورية أفريقيا الوسطى ويسيطر عليها بريغوجين”، والتي تؤكد الولايات المتحدة أنها تشحن الماس المستخرج، وهنا توضح الباحثة، ناتاليا دوكان أن الماس سيكون مفيدا للتهرب من العقوبات المفروضة على روسيا بعد غزوها لأوكرانيا، قائلة: “يمكنك شراء أي سلعة في أي مكان بالماس”.
اوستهدفت جولة سابقة من العقوبات الأميركية والأوروبية ممتلكات “فاغنر” في السودان، ولا سيما شركة تدعى “Meroe Gold”.
وأدرجت عقوبات الاتحاد الأوروبي الأخيرة شركات أخرى يُزعم أنها “تتاجر بشكل غير قانوني في الذهب والألماس المنهوب بالقوة من التجار المحليين” في السودان
وحتى اندلاع القتال بين الفصائل المتناحرة في الخرطوم في أبريل الماضي، كان عملاء فاغنر يديرون مكتبًا بالقرب من المطار في العاصمة، حيث كان يجري نقل سبائك ذهبية من قاعدة جوية على مسافة قصيرة في الصحراء، والتي يجري إرسالها، بحسب مسؤولين إلى منطة الخليج وموسكو لبيعها في الأسواق الدولية.
وتفيد بعض التقارير أن الصراع في السودان قد قيد – ولكن لم يوقف تمامًا – عمليات فاغنر الواسعة هناك، والتي تركز على تعدين الذهب وتكريره بالتعاون مع قوات الدعم السريع.
وكانت مفرزة فاغنر الصغيرة في السودان على اتصال متقطع في الأشهر الأخيرة مع قوات حمدان دقلو، وربما زودتهم بالأسلحة، وفقًا لمصادر محلية، لكنها بخلاف ذلك ابتعدت عن المشاركة الكبيرة في القتال.
وقال مصدر أمني غربي أجبر مؤخرا على مغادرة الخرطوم بسبب القتال “الأولوية هي في الأساس الحفاظ على نقل الذهب”.
“العمل كالمعتاد”
في نهاية الأسبوع الماضي، قال مراقبون من مصادر متعددة على الأرض في جمهورية أفريقيا الوسطى إنه لا يوجد دليل على تحرك أفراد فاغنر على أي من الطرق الرئيسية القليلة في البلد الذي يعاني من الفقر، ولا في مطارها الرئيسي.
وعلى الحدود السودانية، كان “العمل كالمعتاد”، بحسب إنريكا بيكو، مديرة شؤون وسط إفريقيا في مجموعة الأزمات الدولية.
وفي مالي، حيث العمليات التجارية لشركة فاغنر أقل تطورًا، ذكرت تقارير أن المجموعة كافحت لتحقيق أرباح كبيرة منذ نشرها في ديسمبر من العام 2021.
وأوضحت مصادر دبلوماسية لصحيفة الغارديان أن المجموعة الروسية قد واجهت صعوبة في الوصول إلى مناجم الذهب التي سُمح لهم باستغلالها بموجب أبرمت الصفقة مع نظام الحاكم العسكري، أسيمي غويتا، الذي استولى على الحكم في البلاد من الرئيس السابق، إبراهيم أبو بكر كيتا، في انقلاب وقع في العام 2020.
وقال المتحدث باسم الأمن القومي في البيت الأبيض، جون كيربي، للصحفيين الأسبوع الماضي. إن الحكومة الانتقالية في مالي قد دفعت أكثر من 200 مليون دولار لشركة فاغنر منذ أواخر العام 2021.
واستطاعت موسكو أن تحقق في الأسبوع المنصرم مكاسب سياسية أخرى في مالي، وذلك بعدما صوت مجلس الأمن الدولي على سحب قوات حفظ بعد عقد من تواجدها هناك، مما يضع ذلك البلد الأفريقي تحت نفوذ أقوى للكرملين.
وقال كيربي إن بريغوجين ساعد في التخطيط لخروج القوات الأممية، موضحا: “نحن نعلم أن كبار المسؤولين في مالي قد عملوا بشكل مباشر مع موظفي فاغنر لإبلاغ الأمين العام للأمم المتحدة بأن مالي قد ألغت الموافقة على بقاء بعثة الأمم المتحدة”.
وقالت مصادر محلية في مالي إن التناوب الروتيني لموظفي فاغنر اكتمل دون وقوع حوادث في الأيام التي أعقبت التمرد واستمر المرتزقة في عملياتهم مع القوات المالية التي تقاتل المتمردين في وسط وشمال البلاد.
“مئات الملايين من ليبيا”
وفي ليبيا، تنتشر مجموعة كبيرة أخرى من مرتزقة فاغنر في الجزء الشرقي من البلاد الذي يسيطر عليه حفتر.
وأدى هذا التواجد إلى حصول موسكو على مئات الملايين من الدولارات من المدفوعات المباشرة منذ أن شارك عناصر “فاغنر” في هجوم فاشل للسيطرة على العاصمة، طرابلس، في العام 2019، وذلك عن طريق عمليات تهريب النفط على نطاق واسع.
ومع ذلك، قال محللون إن أي عملية “تأميم” لفاغنر قد تؤدي إلى توترات، إذ قالت علياء الإبراهيمي، الخبيرة في شؤون المرتزقة في المجلس الأطلسي: “سوف يتعين على قادة في المجموعة (مثل إيفان ماسلوف المتواجد في مالي) التوفيق بين الدين الشخصي الذي يدينون به لقائدهم السابق، بريغوجين، وبين سيطرة أكثر مركزية من قبل الكرملين”.
ونبهت إلى أن الكرملين كان مرتاحا أكثر عندما كان قادرا على إنكار علاقته بفاغنر، ولكن الآن فإن أي جرائم وانتهاكات مروعة “سوف يكون عنوانها من الواضحات”.
ويشير المحللون إلى أن عمليات فاغنر كانت دائمًا متوافقة بشكل وثيق مع أهداف السياسة الخارجية طويلة المدى لروسيا.
ففي عام 2019، كشفت المذكرات المسربة التي حصلت عليها صحيفة الغارديان عن هدف الكرملين لاستخدام عمليات التأثير السرية في أفريقيا لبناء علاقات مع الحكام الحاليين، وإبرام الصفقات العسكرية، وتهيئة جيل جديد من “القادة” و”العملاء” السريين في القارة السمراء.
وبحسب الوثائق فإن أحد الأهداف منع حدوث الانتفاضات الشعبية “الموالية للغرب”.