صحيفة لندنية : هل ثغرات الوثيقة الدستورية وراء اندلاع الحرب
هل عبدت ثغرات الوثيقة الدستورية الطريق لحرب السودان؟
عدم استفادة الأحزاب والقوى السياسية من المساعدة الدولية في صياغة دستور جديد أسهم في هشاشة الدولة وسقوطها في براثن الحرب الحالية
منذ توقيع الوثيقة الدستورية في السودان بصيغتها الأولى للاتفاق في الـ17 من يوليو (تموز) 2019، بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير، لم تهدأ الانتقادات والآراء السلبية حولها ووصفت بأنها مليئة بالثغرات، وأنها لم تكن جاهزة عند الإعلان عنها، ولكن لإسكات صوت الشارع الذي أبدل باحتجاجاته ابتهاجاً وقت التوقيع عليها. ولهذا أسست لخلافات سريعة ومتلاحقة، ولم يكن الاتفاق الأولي إلا مظهراً شكلياً. وبدا بعد ذلك أنه حتى الموقعين عليها لم يكونوا على قناعة تامة بها، إذ إن تياراً كان يرى أن تطبيقها لن يتسنى له التحقق إلا بعد استعادة أجهزة الدولة من أعضاء النظام السابق الذين يديرون الدولة العميقة، وقامت بذلك عملية “لجنة إزالة تمكين نظام الـ30 من يونيو”، وتبع تنفيذ خطتها خروقات كبيرة ونشأت تظلمات من عدد كبير من الناس. وهناك تيار آخر كان يرى أن إدارة الفترة الانتقالية تتطلب نضالاً مدنياً للحصول على ما لم تأت به الوثيقة الدستورية، أي إنها في مجملها فتحت الباب لخلافات انتهت بالحرب المستمرة منذ الـ15 من أبريل (نيسان) الماضي.
طوال سنوات فترة الحكم الانتقالي في ما بعد ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، ومع اقتراب موعد تسليم السلطة للمدنيين الذي وضعت له تواريخ عدة وأجلت مراراً، ظلت إشكالية وضع دستور دائم للسودان في واجهة الأحداث السياسية. وخلال مناقشة إحداث تغييرات مهمة في ترتيبات السودان الدستورية، برز هذا التحدي الذي فرضته حالة الانتقال من حكم النظام السابق الذي جثم على صدور السودانيين لثلاثة عقود، إلى الحكم الديمقراطي، ولم يصل النقاش الدستوري إلى رفاهية البنية الديمقراطية المأمولة حتى تحول البحث بشكل متزايد حول عمليات الانتقال الدستوري إلى بحث عن السلام والاستقرار.
أصوات إقصائية
قبل اندلاع الحرب بأيام قليلة، كان الرهان حول مدى نجاح اللجنة المكونة من 40 خبيراً قانونياً وأساتذة جامعات وممثلين عن القوى الموقعة المدنية والعسكرية التي نشطت في صياغة دستور الفترة الانتقالية. وقد انطلقت أعمال تلك اللجنة في الـ10 من أبريل ضمن المرحلة النهائية للعملية السياسية، واستندت في أعمالها إلى مشروع الدستور الانتقالي الذي أعدته اللجنة التسييرية لنقابة المحامين السودانيين، والتوصيات حول ورش الدستور، وتوصيات ورش القضايا الخمس في الاتفاق الإطاري، وعلى المسودة الأخيرة للاتفاق السياسي النهائي.
وكانت لجنة تسيير نقابة المحامين والخبراء القانونيين قد أعدت مشروع الدستور الانتقالي في ورشة عقدت بدار المحامين بحضور ممثلين عن القوى السياسية والمهنية وأسر الضحايا والحركات المسلحة في أغسطس (آب) 2022. والمشروع الذي عد رؤية قابلة للتعديل، كان من المفترض أن يؤسس لدولة مدنية بتمثيل واسع، ولكن إحدى العقبات تمثلت في إحاطة بعض الأصوات الإقصائية به حتى للمشاركين في الثورة، من باب تعظيم المصالح السياسية حيناً والكيد السياسي أحياناً أخرى. وهو إقصاء متداول بين الأحزاب المركزية الطائفية والليبرالية والأيديولوجية. وعلى ذلك، فإن قضية الدستور خرجت من كونها فكرية قانونية وسياسية إلى اختزالها في كونها معركة سياسية وأحياناً أيديولوجية.
ولهذا، فإن صياغة دستور دائم من شأنها أن تعكس ديمومة نظام سياسي في بلد مستقر حتى عند تغيير النظام وفقاً للمنافسة والممارسة الديمقراطية المباشرة، بأن تكون نقاط قوته ابتداء من صياغته مستندة إلى الوفاء بأهدافه، شرطاً لأي صلاحيات قادمة وبعيداً من التسويات والمحاصصات السياسية.
عدم توافق
ولا يقتصر أمر دستور السودان على الفترة الانتقالية وحدها، بل على ما يقارب سبعة عقود من عمر السودان قبل استقلاله عام 1956 بأعوام قليلة، وخلال فترات حكمه ما بين ثلاث ديمقراطيات قصيرة وفترات انتقالية، وعسكرية، لم يشهد خلالها توافقاً على دستور دائم.
وغير الوثيقة الدستورية الأخيرة، التي علقت عدداً من موادها، الإجراءات التي فرضها رئيس مجلس السيادة الفريق عبدالفتاح البرهان في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، هناك ثمانية دساتير حكمت البلاد. أولها قانون الحكم الذاتي الذي صدر عام 1953 بغرض تنظيم إدارة السودان خلال فترة الحكم الذاتي، التي كان من المفترض أن تنتهي بتقرير السودان لمصيره بين الوحدة مع مصر أو الاستقلال. وثانيها، دستور السودان الموقت لعام 1956، بعد إدخال تعديلات عاجلة على قانون الحكم الذاتي. وعند تنفيذ الفريق إبراهيم عبود انقلابه في 17 نوفمبر (تشرين الثاني) 1958، علق العمل بدستور عام 1956 وأصبحت البلاد تحكم بأوامر عسكرية سميت “الأوامر الدستورية” يصدرها المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي أعطى نفسه السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في السودان. وتواصل ذلك إلى أن قامت ثورة أكتوبر 1964 وعادت حكومة الثورة للعمل بدستور 1956 كثالث دستور للسودان، وسمي “دستور السودان الموقت لعام 1964” واستمر العمل به حتى تعطيله عندما نفذ جعفر النميري انقلابه في 25 مايو (أيار) 1969، وحكم البلاد بما سماه “الأوامر الجمهورية”، ثم أصدر الدستور الرابع للسودان في عام 1973 وسمي “الدستور الدائم للسودان”.
واستمر العمل بدستور عام 1973 حتى اندلاع انتفاضة أبريل 1985 ليتم تجاوزه، وصياغة دستور السودان الخامس بواسطة المجلس العسكري الانتقالي الذي ارتكز على دستور عام 1964. وبعد انقلاب عمر البشير في 30 يونيو (حزيران) 1989 علقت الحكومة العسكرية العمل بدستور عام 1985، وحكمت بالأوامر العسكرية حتى عام 1998 إذ صاغ حسن الترابي الذي كان رئيس المجلس الوطني آنذاك الدستور السادس للسودان.
فراغ دستوري
واستمر العمل بدستور عام 1998 حتى توقيع اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) في يناير (كانون الثاني) 2005، فأسس الدستور الانتقالي تزامناً مع الاتفاقية في التاسع من يوليو (تموز) 2005، وأجيز دستور السودان السابع من البرلمان ليضم القوى السياسية والحزب الحاكم بجانب قوى معارضة شككت في شرعية الحكومة من بينها الحزب الشيوعي.
وظل السودان قبل الحراك الثوري يحكم بما تبقى من دستور عام 2005، وكانت تجرى عليه تعديلات دائمة أبرزها التعديل بعد انفصال جنوب السودان. وقام رئيس المجلس الوطني في عهد الرئيس السابق عمر البشير في فبراير (شباط) 2011، إثر إعلان نتيجة الاستفتاء بانفصال جنوب السودان وصياغة حكومة الجنوب الجديدة دستورها الخاص، بحذف المواد التي تشير إلى الإقليم والحركة الشعبية لتحرير السودان ليعد ذلك الدستور الـ8.
وفي عام 2015، أجرى البشير تعديلات دستورية وضعت كل السلطات في يده، وكانت تلك الخطوة إشارة واضحة إلى المدى السلطوي الذي بلغه حكمه، نتيجة عدم الإحساس بالأمان إثر المحاولات الانقلابية التي تمت في تلك الفترة ونفذها قادة في الحركة الإسلامية وفي حزبه. وظل الخوف مسيطراً عليه، فزاد صلاحيات جهاز الأمن وأنشأ جهاز الأمن الشعبي بصلاحيات مطلقة، فكانت هذه القوات تعتقل وتنفذ أحكامها على كل من تشك في ولائه للنظام، وتطارد الأحزاب المعارضة، بينما الدولة تغوص في فراغ دستوري امتد حتى اللحظة.
إجراءات استثنائية
ثلاثة تواريخ حددت في الأسبوعين الأولين من أبريل الماضي للوفاء بإجراءات جدية لالتزامات الفترة الانتقالية ولم يتم أي منها. مر السادس من أبريل من دون التوقيع على مسودة الدستور، كما مر 11 من أبريل الذي كان يفترض أن يكون موعداً لإعلان هياكل السلطة، لعدم حسم الخلافات السارية في مفاصل المكون العسكري حول القيادة ودمج القوات بسبب تعذر التوقيع على الاتفاق النهائي الذي كان مقرراً له الأول من أبريل. أما الجلسات التي عقدتها لجنة صياغة الدستور الانتقالي فكانت تنطوي على مهمة رئيسة وهي الوصول إلى المسودة النهائية للدستور الانتقالي. ووجد مشروع الدستور الذي ضم بنوداً ظهرت من خلال استعراض المسودة الأولى تأييداً من كيانات عدة، أمنت على أهم بنوده، وهي استقلال مفوضيات العدالة، وتعديل اتفاق جوبا للسلام بموافقة الحركات المسلحة، ودمج قوات “الدعم السريع”، وعدم تقاسم السلطة مع العسكر. أما أبرز من اعترض على مشروع الدستور فهو الحزب الشيوعي، إذ رأى أنه لم يستفد من عيوب الوثيقة الدستورية، خصوصاً الشق المتعلق باتفاق السلام الذي أظهر هذه المستجدات بقوة، وعدم وجود حدود واضحة بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية. وبما أن التعديلات كانت منوطة بالمجلس التشريعي، ومع عدم تشكيله كان يمكن العهد بمهام المجلس إلى مجلس الوزراء برئاسة عبدالله حمدوك، والمجلس السيادي بقيادة الفريق عبدالفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي) لإجراء بعض التعديلات الضرورية لتسيير الفترة الانتقالية، ولكن في ظل الفرقة والشتات والانقسامات، لم يتم أي من ذلك. ولم يشكل المجلس التشريعي، كما لم يتم اختيار حكام للولايات، ومرت سنتان ولم يتحقق السلام الذي وقع عليه في أكتوبر 2021.
هناك مأخذ آخر هو أن صيغ الدستور عادة تشترط موافقة غالبية الطيف السياسي وممثلين للمواطنين في برلمان البلاد، بينما مسودة المشروع الانتقالي وفي غياب المجلس التشريعي، كلفت بها “لجنة مصغرة” صورتها وكأنها تنطوي على إجراءات استثنائية في وضع شديد الخصوصية.
عوامل العجز
على رغم الانشغال بوضع دستور دائم للسودان تؤهله للعمل على اشتراطات الاستقرار السياسي الأخرى، فإن عجز السودانيين عن إكمال هذه المهمة قبل الحرب، يعود إلى عوامل عدة، الأول، انشغال الأحزاب بالصراع حول السيادة وليس تحقيق العدالة كمطلب شعبي، وفشلها في التمرين الديمقراطي في الفترة الانتقالية.
والعامل الثاني، أن هو صياغة دستور دائم تحتاج إلى لجنة قومية محايدة، ولكن لم تستفد لجنة صياغة مسودة الدستور من تجارب اللجان السابقة منذ استقلال السودان، فاللجنة التي صاغت دستور 1956 غلبت الطابع اليميني ونظام الدولة المركزية على الفيدرالية التي وعدت بها الجنوبيين، مما أفرز خلافاً أدى إلى انسحابهم من اللجنة، وبسبب الخلافات لم تتم إجازته. وفي فترات أخرى من تاريخ السودان، فرض الإسلاميون رؤيتهم بالتركيز على خيار الحركة الإسلامية، ثم ركزت اللجنة الأخيرة على رؤية أحادية لمشروع الدستور من أقصى اليسار من دون النظر في اتفاقه مع أطراف أخرى.