الأخبار

استمرار القتال يلوح بسيناريو حكومتين والانشطار في السودان ،

منى عبدالفتاح
البداية الطبيعية لدولة تهددها الاضطرابات الداخلية والإقليمية مثل السودان، كانت في إنهاء نظام حكم جثم على صدر الشعب مدة ثلاثة عقود، وتم له ذلك في 11 أبريل (نيسان) 2019، عندما أسقطت الانتفاضة التي بدأت في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018، نظام الرئيس السوداني السابق عمر البشير. كانت الأمور في طريقها إلى إقامة الدولة، أو هكذا كانت تبدو، بتوقيع قوى مدنية مؤيدة للانتفاضة مكونة من الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وجمعيات نسوية، اتفاقاً لتقاسم السلطة مع الجيش خلال فترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات تنتهي بإقامة انتخابات، وكان متوقعاً أن تفضي إلى إقامة حكومة مدنية.

وفي 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، أعلن قائد القوات المسلحة رئيس مجلس السيادة الفريق عبدالفتاح البرهان حل مجلسي السيادة والوزراء والمؤسسات الانتقالية، وأعلن حالة الطوارئ وتعليق العمل بمواد من الوثيقة الدستورية. نتيجة لتلك الإجراءات، تواصل مسلسل انهيار مؤسسات الدولة، إلى أن وصل إلى تأجيل التوقيع النهائي على “الاتفاق الإطاري” الذي وقع عليه مبدئياً في الخامس من ديسمبر 2022، وبعد أشهر قليلة من الخلاف حول التوقيع، اندلعت الحرب في السودان بين الحليفين السابقين، الجيش السوداني بقيادة الفريق عبدالفتاح البرهان، وقوات “الدعم السريع” بقيادة نائبه الفريق محمد حمدان دقلو في الخرطوم ومدن أخرى نتيجة خلافات حول دمج “الدعم السريع” في الجيش، وقضايا أخرى، ليتزلزل تصور الدولة السودانية، وتتهدد وحدتها بترائي شبح يلوح في الأفق عن تكون حكومتين يترأسهما قائدان متنافران.

وحتى لو تحقق هذا، فإنه في الوقت الذي يقصد منه الخروج من حال الحرب، لكن الوضع الجديد لن يلبي طموحات السودانيين بعد كل هذه التضحيات، كما أنه لن يجنب السودان الوقوع في حرب أخرى محتملة، فالمكاسب على المستوى الشعبي صغيرة، والتحرر من الديكتاتورية إلى أخرى يعود بالبلاد إلى وضع أشد بؤساً من حاله السابقة.

تعهدات مثقلة

ومع استمرار الحرب، وعدم القدرة على حسمها، أو معرفة إلى أي من الطرفين تميل الكفة، ظهر أخيراً سيناريو الحكومتين، كان مكونا الحكم من المدنيين والعسكريين يعلنان باستمرار تأييدهما العملية السياسية، وسط ادعاء الجميع بمن فيهم العسكر بأنهم ضد عودة حكم العسكر، بل صرحوا في خطابات جماهيرية بضرورة عودتهم إلى الثكنات، وفي الحقيقة، فإن حرص العسكر على الحكم الذي ظل مثار قلق السودانيين، ظهر بقوة بعد الحرب، وكشفت كذلك أهداف تمسكهم بأهداب منظومة مدنية لا تؤمن إيماناً مطلقاً بالحكم الديمقراطي، وظلت في حال هرب مستمر من أي نقاش حول الانتخابات، أما القوى الحزبية التي كان من المفترض أن تكون ممثلة للنموذج المدني انقسمت وتوزعت في تأييدها، بعض باتجاه الجيش، وآخرون باتجاه “الدعم السريع”.
وكلا الطرفين تحيط بهما تعهدات مثقلة قطعاها بضرورة عملهما على استمرار العملية السياسية، ولم يكن ذلك ممكناً لأنه طغت على الفترة الانتقالية شرعية الثورة ونبهت إلى أن الفترة الانتقالية ستطول، وتأسس على إجراءات البرهان، ضمن أسباب أخرى، التباعد الواسع بين القوى المدنية والعسكرية، ورفض قوى الثورة أية حلول لا تتضمن العودة إلى ما قبل الـ25 من أكتوبر، ومنذ البداية، كان واضحاً أنه لن يكتب أي استمرار للعملية السياسية، ثم يوماً بعد يوم تأكد أنه لن يتم الإيفاء بها، خصوصاً بعد الحرب التي اندلعت وفق غرض بائن هو إقصاء الآخر، إضافة إلى أن أية حكومة تتشكل بعد الحرب أو خلالها تنقصها الشرعية الدستورية والشعبية.

خلافات متجذرة

وما لم تتوقف الحرب حتى لو بوقف إطلاق نار طويل المدى، يبعد احتمال انعقاد المفاوضات حول شكل الحكم، وتتضاءل فرص أية تسوية سياسية بين الطرفين، ومع وجود عنصر التوافق بين الجيش وحلفائه من المدنيين المنشقين عن قوى إعلان الحرية والتغيير وبعض الحركات المسلحة من جهة، وبين قوات “الدعم السريع” وحلفائها من منشقي قوى إعلان الحرية والتغيير وبعض الحركات أيضاً من جهة أخرى، لا يستبعد أن يجر هؤلاء السودان إلى انقسامات على مستوى مؤسسة الحكم، كما أن اتجاه الجيش إلى تكوين حكومة طوارئ أو تصريف أعمال، عارضتها قوى إعلان الحرية والتغيير، بينما أيدت رؤية “الدعم السريع” بتأسيس الدولة الجديدة على النظام الفيدرالي غير التماثلي كونه الأنسب لحكم السودان.
وصحيح السودان مهيئا نظريا للحكم عن طريق اتحاد فيدرالي بحكم الضرورة، وكان ينظر إلى الفيدرالية على نطاق واسع باعتبارها النموذج الأفضل، إن لم يكن النموذج الممكن، لاستيعاب التنوع في البلاد من دون تعريض الشعور بالوحدة الوطنية الذي تشتد الحاجة إليه للخطر، وذلك نظراً لحجمه وتنوعه الإثني والجغرافي، باستخدام النظام مصفوفة سياسية في محاولة للحفاظ على جميع المجموعات والمناطق معاً، لكن هذا التصميم يميل إلى إعاقة السلم الأهلي في البلاد نظراً إلى الخلافات المتجذرة حول الموارد الطبيعية من مرعى ومناطق زراعية بين المجموعات السكانية المختلفة. أضيف إليها حديثاً الخلاف في مناطق الإنتاج حول مخزون النفط والذهب الذي تتمتع به البلاد مع موارد أخرى، كما أنها تتمتع بموقع متميز في القارة الأفريقية، مما يجعلها لاعباً مهماً في الديناميات السياسية والأمنية الإقليمية، ومع ذلك، فإن النظام الفيدرالي “الهجين” والقيادة الضعيفة بشكل عام يشكلان عائقاً أمام التنمية، إذ لا تزال البلاد تشهد نمواً ديموغرافياً سريعاً مصحوباً بالركود الاقتصادي.

إن التناقضات والقيود التي تعيب النموذج الفيدرالي السوداني المتخيل، تعود إلى التاريخ السياسي منذ الاستعمار، فقد بدأت الفيدرالية كبناء استعماري عندما تم دمج أقاليم الغرب وتمثلت في دارفور وتحويلها إلى وحدة سياسية واحدة، على رغم كثير مما يفرقها وفي مقدمتها الاختلافات الإثنية، ثم فككت وعهد بها إلى الإدارات الأهلية، وكان الترتيب الفيدرالي الأول لا مركزياً ويقوم على تقسيم دارفور إلى خمس ولايات، وهو ما عادت إليه الحكومة السابقة، ولكن بعد أن تعمقت جذور الخلافات وتعذر التعايش السلمي في ظل الحرب المستمرة إلى الآن.

تصور الفيدرالية

وتصب أنواع الفيدرالية في التصور المشار إليه، بانقسام الحكومة إلى كيانين هما الحكومة الفيدرالية، من جهة، وحكومة أو حكومات الولايات، من جهة أخرى، ولكل منهما اختصاصاتها، وأحياناً تتفق على واجبات مختلطة، وتقسم الحكومة إلى السلطات الثلاث الرئيسة، وهي السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية بمحاكم فيدرالية.

والمؤيدون للنظام الفيدرالي ينطلقون من أنه يوازن بين الأقاليم بتأسيس عملية حكم متساوية، بتوزيع السلطة على أفرعها، ويحمي ذلك من الفساد والاستبداد، كما يزيد من نسبة مشاركة الأفراد، ويشجع التعاون، ويتيح للحكومة صياغة مؤسسات حكم تلبي حاجات كل إقليم وتوفر الحلول وفقاً للقوانين والقواعد المنصوص عليها في الدستور، ويستدلون على نجاحها بالولايات المتحدة.

أما المعارضون للنظام الفيدرالي، فإنهم ينطلقون من أن تطبيق الفيدرالية، تنعدم معها المساءلة لتداخل الحدود بين الحكومة الوطنية وحكومات الأقاليم، كما يراعي هذا النظام إرادة الغالبية بينما يتجاهل الأقليات، ويخلق حالة من المظلومية، وتؤدي تصورات التهميش والحرمان إلى تفاقم تآكل شرعية الدولة، ثم تتطور إلى أن تعلن حكومات الأقاليم الحرب على قوانين الحكومة الفيدرالية، ويستدلون على فشلها بتجربة إثيوبيا، ويضيفون أن الفيدرالية يمكن أن تخلق حالاً من عدم اليقين بسبب وجود طبقات حكومية كثيرة، ما يصعب على المجتمعات معرفة من أين يمكنهم تلقي المساعدات، خصوصاً في حالات الكوارث الطبيعية أو غيرها.

معايير أساسية

وبينما تتساوى مزايا ومآخذ النظام الفيدرالي، فإن كثيرين خلصوا إلى أن التجربة هي الحاسم الرئيس، فبالنظر إلى توفر مقومات الفيدرالية في السودان، مع وجود معوقات لتطبيقها فلن تكون المقاربة مع دول أفريقية شبيهة مثل إثيوبيا ونيجيريا حاسمة أيضاً، لأن الفيدرالية الشكلية في البلدين تم الترويج لها، ولكن عندما فشلت نسبت إلى عوامل أخرى، إثنية كما في حال إثيوبيا وهي ما نتج منها حرب “تيغراي”، والعنف القادم من إقليم الأمهرة أيضاً ومناطق أخرى، أما في نيجيريا، فقد نسب فشل الفيدرالية لعوامل اقتصادية، إذ تعتمد الدولة على الحكومة الفيدرالية، مما خلق استياء بقية الأقاليم، وظهر ذلك في الصراع في المناطق المنتجة للنفط، مما أنتج تفاوتات اقتصادية مرتفعة بين الشمال الفقير والجنوب الأكثر ثراءً.

ومع ذلك، فإنه ليس هناك قالب حكم معين يحقق النجاح التام، إذ لا بد من استصحاب الظروف المحيطة، والتأكد من مدى التزام الحكومة الفيدرالية بالمساواة ومراعاة المعايير الديموغرافية، وعدم تعرض الفيدرالية المالية للاستغلال، ووضع مخطط توزيع للموارد وغيرها.

ونظراً لتجارب الحكم المختلفة السابقة في السودان، فإن هناك معايير أساسية لم يتم الالتزام بها في كل الظروف، ويمكن استنتاج ما ستؤدي إليه الفيدرالية في بلد شديد التنوع مثل السودان، بأنها ستعمل على تبلور الكتل السياسية المهيمنة على أساس معايير إثنية وجهوية، وسيتم استخدامها لأغراض سياسية مثل الولاءات أو الصراعات، مما يؤدي إلى زيادة حالات التنافس السياسي والتطرف والتمرد المسلح.

شرارة التقسيم

الواقع الآن يظهر أن السودان انقسم فعلياً إلى أجزاء يسيطر عليها الجيش، وأخرى تسيطر عليها قوات الدعم السريع، وإذا استمرت الحال على ما هي عليه فستتسابق الدول إلى الاعتراف بكل طرف باعتباره الممثل الشرعي للبلاد، كما ستتواصل الهجمات من كل جانب ضد الآخر في سبيل بسط السيطرة على أهم المناطق، وستدخل مناطق الموارد مثل الذهب والنفط في هذا الصراع، خصوصاً أنه حتى الآن، ليست هناك ضغوط دولية حاسمة توجه إلى طرفي النزاع.

وإذا كان الضغط الشعبي والاحتجاجات والتظاهرات التي تمضي باتجاه التفاوض وإيقاف الحرب والحفاظ على وحدة السودان، هو أحد السيناريوهات التي تتطلب جهداً كبيراً ومساندة دولية، حتى لا تنزلق البلاد في أتون حرب أهلية مزلزلة، فإن هناك سيناريو مخيفاً يتمثل في انتقال الحرب إلى أقاليم أخرى، إضافة إلى دارفور، ومنها تنطلق شرارة تقسيم البلاد، وهو سيناريو غير بعيد التحقق، ترجح إليه حال الحرب، ولا تقلل من التفكير فيه حال السلم، فقد كان التقسيم خياراً لحل مشكلة جنوب السودان بانفصاله عام 2011، حتى بعد أن انتهت الحرب بالتوقيع على اتفاقية “نيفاشا” عام 2005، كذلك، منذ بداية حرب دارفور كانت هناك أطراف ترى أن التقسيم هو الحل لإنهائها، ولن يقف عند ذلك الحد، فهناك اشتعال في جنوب كردفان والنيل الأزرق، وشرق السودان بدرجات متفاوتة، وكل ذلك يعتمد على إعادة الهيكلة السياسية والمخاوف الأمنية التي تهيمن على الأجندة الوطنية، كما تعتمد على الإصلاحات التشريعية والاقتصادية.

المصدر إندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى