إرث طويل من الدماء المسفوكة والحروب والصراعات يحمله الإنسان على عاتقه ويستمد منه طاقات هائلة من البغض والكراهية وعذابات النفس..
إرث طويل من الدماء المسفوكة والحروب والصراعات يحمله الإنسان على عاتقه ويستمد منه طاقات هائلة من البغض والكراهية وعذابات النفس.. مكبل بأغلال جماعية تربطه بجماعات وأفواج تتدافع فيما بينها.. تثور وتحقد وتبكي وتتساءل حول المستقبل وهي تندفع في انفجارات بشرية ثم تهدأ محاولة منها أن تفهم ماذا يحدث؟ وكيف يحدث؟ ولماذا هم على وشك الموت في تلك الخنادق الضيقة الكئيبة بعيدًا عن بيوتهم وعائلاتهم وأسرّتهم الدافئة؟ وقبل أن ينتابهم الشك في معنى الحياة وفي معنى الوجود تكون الحمى البشرية قد عاودت الكل من جديد فأخذت تحصد أرواح الجميع لتعيدهم إلى أرضهم المستوية المنبسطة المتسامحة.. المشترك الوحيد الذي لا يمكنهم الخلاف حوله.
“أنا في نضارة الشباب.. أنا في العشرين من عمري.. لكني لا أعرف من الحياة غير اليأس، والموت، والخوف، والأحزان”. هكذا يخبرنا “بول باومر” بطل رواية “كل شيء هادئ على الجبهة الغربية” من تأليف الكاتب الألماني “إريك ماريا ريماك“. الرواية التي صدرت في التاسع والعشرين من يناير عام 1929 وحُوّلت إلى ثلاثة أفلام سينمائية. الأول: في عام 1930 وحاز على الأوسكار. والثاني: صدر في عام 1979 وهو أفضلهم فنيًا وتمثيليًا. والأخير: وهو فيلم ألماني صدر في عامنا هذا بعنوان All Quiet on the Western Front ، وإن كان هو الأقل تشابهًا مع الرواية في بعض أحداثها الفرعية ومساراتها السردية.
في رواية كل شيء هادئ على الجبهة الغربية يصحبنا بول باومر الفتى ذو الثامنة عشر عامًا في أجواء الحرب العالمية الأولى، حيث تطوّع مع زملائه –من نفس الفصل- حديثي التخرج من المدرسة الثانوية للقتال على الجبهة مفتونين بالخطب الرنانة التي كان ينشدها عليهم معلموهم وأقاربهم عن فضل القتال من أجل الوطن وعن الطريقة التي سيصبحون من خلالها رجالًا أشداء مبجّلين من قِبَل شعبهم ومن قِبَل وطنهم الذي ينتظرهم ليبذلوا له كل الأرواح وكل الدماء، لتتكشف لهم بعدها الحقيقة المريعة على جبهة القتال وتتداعى أنفسهم بما تحمله من رؤى حماسية تغذوا عليها طيلة فترة دراستهم في أول ليلة لهم على الجبهة، حيث القنابل والجثث المتساقطة تباعًا بلا تمهل أو رحمة، وحيث وجه الموت المحتمل هو الزائر الوحيد لهم في وحدتهم في الخنادق. “كانت أدمغتنا محشوة بأفكار غامضة كانت تسبغ على الحياة وعلى الحرب لونًا خياليًا صرفًا. فلما أمضينا في الجيش عشرة أسابيع للتدريب اكتسبنا في هذه المدة ما لم نكتسبه بدراسة عشر سنوات في المدارس. في الوقت الذي كانوا يكتبون ويتكلمون فيه، كنا نرى الجرحى والقتلى، وبينما كانوا يلقنون الناس أن واجب الإنسان لوطنه هو أجلّ شيء في الحياة، كنا ندرك أن سكرات الموت أجلّ وأعظم”.
طيلة الرواية نرى من خلال عيني باومر وأصدقائه مأساة الحرب وفظاعتها. فهؤلاء الشباب يمتلكون أحلامًا وطموحات ويرغبون في الوظائف العالية والنساء الجميلات والبيوت الدافئة والطعام الوفير. شباب في مقتبل عمره يرغب في اجترار ن الحياة قطرة قطرة، لكنهم بدلًا من كل ذلك يجدون أنفسهم محاصرين في معسكرات التدريب يعانون من قمع قادتهم يُعبّؤون كالذبائح إلى جبهات القتال حيث لا خندق يمكنه أن يعطيهم نومة هانئة ولا طعام شحيح فاسد يمكنه أن يشبع بطونهم الجائعة لأيام ولا صحبة غير صحبة الجثث والأشلاء المتطايرة وأصدقاء العمر الذين يتساقطون أمام عينيك على أنغام القنابل المدوية وروائح الغاز الخانقة. في كل مرة يكونون فيها في ميدان القتال تتلاشى الحياة من أعينهم ومن أذهانهم يتلاشى المعنى والفهم والنظرة ويصبح أكبر همهم هو كيفية تفادي الطلقة القادمة.. القنبلة القادمة.. كيفية الصمود حيًا ساعة أخرى، بل قل ثانية أخرى، مجرد آلات تتفادى التدمير وتروم إلى الدمار “إن الحرب قد دمرتنا ولم نعد نصلح لشيء. فقد طار الشباب منا وفارقتنا الحياة، كنا في الثامنة عشرة من أعمارنا وبدأنا نحب الحياة والعالم، فإذا نحن نمزقها إربًا ونحطمها تحطيمًا، انفجرت القنبلة الأولى في قلوبنا، وانتزعنا من عالم النشاط والجد والتقدم، فلم نعد نؤمن بهذه الأشياء، وأصبحنا نؤمن بالحرب فحسب”.
عداوة الشعوب: عندما يتلاعب العالم بنفسه
“في رأيي إن المسألة لا تعدو أن تكون لونًا من الحمى. فكل إنسان راغب عن الحرب، وفجأة تشب نارها. نحن لا نريد الحرب، وكذلك يقول الآخرون، ومع ذلك فنصف العالم غارق فيها”.
بعد مرور ما يقرب من 43 عام على الفيلم البريطاني من الرواية ما الذي يمكن أن تخبرنا به النسخة الألمانية الجديدة من الفيلم في ظل أجواء الحرب الروسية الأوكرانية التي نعيشها والحروب التي تشهدها المنطقة العربية منذ ثورات الربيع العربي؟ إن الفيلم ليس سوى تذكرة بأنه بعد كل الدماء والحروب التي شهدها العالم القرن الماضي لم يستطع الإنسان أن يتعلم شيئا واحدا على شرف تلك الدماء المسفوكة .. فمشاهد المعارك في الفيلم كانت باللون الأزرق الجليدي الشاحب وكأن أبطال الرواية قد قاموا من الموت –أكثر ضعفًا وأكثر شحوبًا- ليخبرونا أنه لا شيء قد تغير حقًا فقصتنا صالحة لكل زمان ومكان. سننهض من الموت في كل مرة، من أرواح المعذبين والكارهين للحرب في كل عصر وفي كل زمن لنذكركم بأن تنظروا حولكم وإلى أنفسكم، فنحن منكم ثم اسألوا أنفسكم: ألن يكف الإنسان عن صراعه أبدًا؟
إن الفيلم والرواية هما إيحاء أيقوني بارز. فطالما ما زلنا نحن الأبطال ضيوف دائمة في صفحات الكتب وعلى شاشات السينما، فذلك لا يعني سوى أنكم ما زلتم تعانون وتنزفون بشدة. هذا يعني أن الحروب مستمرة وستظل قائمة طالما كنا معكم هنا نشارككم آلامكم، بل إن الفيلم لا يكتفي بأن يكون مجرد دعوة يوتوبية مثالية في نبذ الحرب و التخلي عنها وبيان فظائعها .. ولكنه دعوة للتفكر من أجل من؟ ولماذا تقوم تلك الحروب من حولنا ؟ من المتسبب فيها؟ ولماذا علينا أن نحارب حقًا؟ “إن الغالبية العظمى منا أناس سذج بسطاء، وغالبية الشعب في فرنسا كذلك مؤلفة من العمال والصناع وصغار الموظفين فما الذي يدفع إذًا حذّاءً أو حدادًا فرنسيًا للاعتداء علينا.. لا.. الحكام هم السبب.. إني لم أر في حياتي فرنسيًا واحدًا قبل مجيئي إلى الميدان، وكذلك الشأن فيما يخصهم. إن الشعب الفرنسي لا ضلع له في الحرب كالشعب الألماني. لا بد من وجود أناس معينين يفيدون من الحرب”.
نعم انظر حولك وقل لي من المتسبب في كل ذلك غير هؤلاء؟ كل القادة والرؤساء وصناع الأسلحة وأصحاب المطامع والنفوذ و ذوي الزهو والعبث والكبرياء الطفولي والغباء الفكري والغشاوة العقلية التي تجعلهم يتلاعبون بالشعوب ويحركونها فيما بينهم كدمى المارنيت. إنهم أناس ملأتهم شهوة السيطرة والاستعباد والتمرد والطغيان، فبنوا صروحهم العالية على عواطف الجماهير والتلاعب بها، يقول تشارلز بوكوفسكي في روايته “هوليوود”: “إن كثيرًا من المشاهير هم مجرد حمقى وأوغاد وجبناء، ربما ربحوا صفقة ما أو مقامرة ما رفعتهم إلى أعلى أو أصبحوا أغنياء بسبب غباء الجماهير. فهم أشخاص عديمو الموهبة،عديمو الأعين، عديمو الأرواح. لكنهم في نظر الجماهير أنصاف آلهة”.
لا يتطلب الأمر سوى مهرّج واحد يتراقص على حبال الوطنية والشرف والفخر والنصر ، أن يصوغ المبررات ويلفق الأقاويل ويوهم العقول ويكذّب في الحديث.. يقول نيتشه: “في السياسة لا وجود لإيمان المرء بحقه أعني البراءة.. ما يسود فيها هو الكذب، والعبودية للحظة”. كل هذا ليصنع لنا الطاغي منتوج فكري فاسد يستشري في المجتمع تلقائيًا ويسلب عقول أفراده ويجعل كل منهم مُنظِّرًا مزايدًا على الآخر.
وعندما ينشر القادة أمراض الوطنية الزائفة والشرف والولاء لتراب الأرض بين المجتمع وعندما يستخدمون محبة الإنسان لوطنه كسلعة ترويجية وعندما يلقون بالوعيد ويهتفون في الخطابات ويحذرون من العدو المشترك.. يرضخ الإنسان في النهاية لمصير الأمة المشترك ووعيها الجمعي ويساق الإنسان إلى مصيره المظلم بقيود فكرية وعاطفية فُرضت عليه وفرضها هو على نفسه.
في زمن الدكتاتور المحاط بالأعداء من كل الجهات ، أبدينا الكثير من الليونة وطيبة القلب غير الضرورتين.
– رواية أرخبيل غولاغ للكاتب ألكسندر سولجنيتسين
الحرب: ما بين الدمار العدمي والرابطة الإنسانية
أين يمكن أن يجد الإنسان الخلاص على أرض المعركة؟ وأي هدف يسعى إليه بداية؟ وكيف يمكن أن يقبل على المعركة بنفس راضية وهو على علم بأنه قريب من أن يلقى حتفه؟ فلا شفاعة ولا شعور يُرجى سواء كسب الحرب أو خسارتها إذا ما لقى هذا الإنسان حتفه في ميدان القتال. يقول الرافعي في كتابه المساكين: “وأنا يابني في خاصة نفسي أكره الحرب، لأني أراها تصور بكل ألوان الهلاك والخراب فكرة العدم المبهمة على قطعة من أديم الأرض”. أو كما يقول محمود درويش في ديوانه “حالة حصار“: “في الحصار تكون الحياة هي الوقت بين تذكر أولها ونسيان آخرها”.
ففي المعركة لا يعبأ أحد بك سوى نفسك لا شئ سوى العجز والضآلة وقلة الحيلة ولا منجى لك سوى بالاعتماد على عشوائية الحياة والطبيعة وعلى كونك عنصر منها قد يتحكم في حظه ومصيره من خلال خبرته الإنسانية بعشوائيتها وقدرته على التماهي معها .. يقول الفتى الشاب بول باومر : ” والواقع أن الأرض على الخصوص في نظر الجندي هي كل شيء ..فهي منه بمثابة الصديق والأخ والأم حينما ينام فوقها ويحتضنها ، وهي تهيء له ثوان معدودات تحميه في أثنائها ريثما يجرى وينجو بحياته أو تقبره في طياتها إلى الأبد…ولا يكاد صفير القنبلة يشق الفضاء حتى يعود الإنسان ٱلاف السنين إلى الوراء، فإن الغريزة الحيوانية المندسة في طبائعنا تتيقّظ فجأة وتحمينا من الهلاك… وليست هذه الغريزة هي الوعي بل هى حاسة أشد وأرهف إدراكا.. ومحال أن يصل الإنسان إلى تفسيرها”
وهو ما يختصره محمود درويش في قصيدته حالة حصار
نقيس المسافة ما بين أجسادنا والقذيفة .. بالحاسة السادسة”
ولا يوجد أفضل من ذلك المشهد الذي جمع بين بول باومر وبين جندي فرنسي قام بول بقتله أثناء اختبائه في خندق وأخذ يراقب احتضاره طيلة الليل ومن ثم شرع في التخفيف من ألمه أثناء احتضاره ليدلل بذلك المشهد إلى أي مدى يتشابه هؤلاء الملايين من البشر في ساحات المعركة .. فجميعهم يمتلكون أسرا ومنازل ووظائف وزوجات وأطفال ، وكل منهم يملك نفس الألم والمعاناة والخوف والضعف على أرض المعركة.. وهم لا يعرفون لم يقتلوا ذاك أو ذاك ممن يقال عليهم أعداء لهم ، بل جل ما يعرفونه أنهم مساقون إلى تلك الحرب مأخوذين على حين غفلة من أنفسهم يقاسون العذاب لنهايته حتى بعدما تلقوا صدمة الحقيقة على أرض المعركة ” إن القدر يسومنا العذاب لعلمه أننا مذعنون على الدوام “
فهم يحاربون ويقتلون باسم الجماعة وجميعهم يتجرع من نفس كأس الألم السيزيفي بلا فكاك كما يخاطب باول باومر الجندي الفرنسي الصريع : ” أيها الزميل.. لم أكن أنوي أن أقتلك.. ولو وثبت إلى هنا مره ثانية فلن أفعل شيئا يضرك إذا أمسكت يدك عني.. لكنك كنت فكرة تجسمت في خيالي قبل مجيئك.. وشغلت فراغ ذهني.. وكان لابد لها أن تلقى نهايتها المحتومة.. أنا لم أطعنك وإنما طعنت هذه الفكرة المخيفة التي تسلطت عليّ.. فكرة المباغتة والمفاجأة ..لكني أرى الآن و للمرة الأولى أنك إنسان مثلي.. كنت أفكر من قبل في قنبلتك اليدوية وفي حربتك وفي بندقيتك أما الآن فلست أرى إلا زوجتك ووجهك وزملاءك… اغفر لي أيها الزميل واصفح عني فنحن لا نفتح أعيننا إلا بعد فوات الأوان…. لما لا يقال لنا أنكم بؤساء مثلنا.. وأن أمهاتكم يتلهفن لوعة و جزعا مثل أمهاتنا.. و أننا جميعا نشترك في الخوف من الموت وأننا سواء في الاحتضار والنزع ؟ …اصفح عني أيها الزميل.. كيف يمكن أن تكون عدوا لي… لو أننا طرحنا هذه البنادق والكسا العسكرية ، لما كنت إلا أخا لي مثل كات وألبرت “
ولو أدرك كل هؤلاء عبث وعدمية ساحات معاركهم وأنهم يقتلون بعضهم البعض بلا جدوى ومن أجل لاشيء لكانت تلك المقطوعة الشعرية على الأحرى هي نشيدهم الجنائزي المشترك:
“جهدك يا بني ضائع في الهواء
فعبثا تضني قدميك
لن تجني من جهدك شيئا
سوى الهلاك “
متى يحين موعد الإنقاذ الإلهي؟!
إلهي إلهي لماذا تخليت عني
ومازلتُ طفلا .. ولمَ تمتحني
محمود درويش- حالة حصار
وماذا عن الإله من كل هذا ؟ ” مات الإله ونحن من قتلناه ” نعم بحروبنا الدموية أمتنا الإله في قلوبنا وعقولنا قبل أن يتخلى عنا طواعية وينبذنا .. ” قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ” لقد تركتنا العناية الإلهية مع أنها تعلم مدى هواننا وضعفنا وظلمنا بعضنا البعض ” قال إني أعلم ما لا تعلمون “
لم تعد ترانا ولم نعد نراها وكأنها انفصلت عن طبيعة عالمنا الأرضي تماما..وحيدون نحن بلا أي إنقاذ أو بارقة أمل كما يقول الشاعر ألكسندر بوب:-
” لم يعد الوهج العام ولا الخاص يجرؤ على السطوع ..
لم يبق أي نور بشري .. ولا أي لمحية إلهية “
ازدادت الهوة بين العقل والقلب، وبين القلب والضمير، وبين الضمير والإنسان، وبين الإنسان والأرض، وبين الأرض والسماء.. وبدا أننا قد خرجنا من مدار رؤية الإله ورعايته مطرودين منبوذين من الرحمة والشفقة حتى صرنا غرباء مع وحدتنا وبؤسنا المهين.. يقول سورس بطل رواية “الرسام تحت المجلى” للكاتب أفونسو كروش :- ” من الأعلى كانت الخنادق تبدو مثل أفاعٍ .. تلك الخنادق التي يموت فيها من حين إلى آخر عشرات أو مئات أو آلاف من الجنود .. أما في الأعلى دون رائحة الخنادق ودون الدم ودون الغازات ودون الطين والدخان فلا شيء يبدو مستهجنا.. فالمشهد عبارة عن نقط وأشياء صغيرة تظهر وتختفي.. إن الله يرى الأشياء كذلك ولو أنه ينزل فسوف يرى أشياء أخرى”
إذاً ما الذي يبرر تلك الوحدة الإنسانية التي نقاسيها وذلك الدمار الذي يعصف بنا دون أن نرى بادرة أمل أو معنى يعيننا في ذلك الطريق ؟!
بإمكان الرافعي في كتابه “المساكين” أن يوضّح لنا تلك الرؤية الدينية والفلسفية للحرب كونها عنصر فعّال وهام للتغيير والتطوير وتحديث الأفكار والتيارات المجتمعية وهدم وبناء الحضارات .. وإن الحرب ألم لا بدّ من دفعه نحن البشر المذنبون الناقصون في سبيل تغيير الفكرة والحكم السائد وفي سبيل البحث الدائم عن الكمال الذي لن يتواجد أبدا سوى في جنة الله الخالدة .. فهو ثمن يجب أن ندفعه حتى نستحق بمعاناتنا الانسجام الإلهي الأبدي : ” الحرب هى عقاب الجماعات وهي كذلك ضروره اجتماعية.. ولن يخلو منها تاريخ الإنسان إلا إذا رجع الناس أمة واحدة في تركيب مستحيل لا يتهيأ معه أبد الدهر ما يقسم هذه الأمة على نفسها… ولعمري إن ذلك التركيب الاجتماعي الذي يخلو من الحروب ليزهِّد الناس في جنة الله …ولا يدع للأديان محلا على الأرض…. ويحسبون أنه صلاح في الطبيعة وهو يفسد الطبيعة كلها فما هو إلا خيال شعري في تاريخ الحقيقة الإنسانية ..وما أرى الحرب إلا البرهان الذي تقيمه الطبيعة أحيانا على فساد ذلك الخيال كلما أوشك الضعف الانساني أن يتوهمه حقيقة .. فالحرب شر لابد منه لأنها من عوامل التحليل والتركيب في تاريخ الإنسانية وهي بذلك سبب من أسباب استمراره وكل شر لا بد منه فهو خير لا غنى عنه”
وهو ما يوافقه عليه سورس بطل رواية” الرسام تحت المجلى ” أنتم أيها الفنانون لا تعرفون أي شيء .. من دون قتل لا يتم إحراز أي تقدم.. نحن نبني ببقايا ذاك الذي ندمره ..نبني بما نلتهم ..بالحجارة التي نكسرها..بجثث الأفكار القديمة..بخشب الأشجار..كل الجدران مبنية بالعظام والدم ..والموت هو الدرج إلى القمة “
لكن فيودور دوستويفسكي على لسان بطله إيفان فيدورفيتش في رواية “الإخوة كارامازوف” يرفض كل التبريرات تلك مُعللا : ” قد يحدث أن أصيح أنا أيضا مع الجميع إذ أرى الأم والجلاد والطفل يتعانقون ويتصالحون : ” أنت على حق يا رب” ولكنني لا أريد أن أفعل ذلك عندئذ و أحرص على أن أحمي نفسي سلفا من ذلك الاستسلام ،ولهذا السبب تراني أتنازل تنازلا حاسما عن الانسجام الأعلى.. إن هذا الانسجام لا يعدل في رأيي دمعة واحدة من دموع ذلك الطفل المعذب حتى الموت.. الذي كان يلطم صدره بقبضتيّ يديه في مكان موبوء ويتضّرع إلى الله الرحيم من خلال دموعه التي لا يكفر عنها شيء … سيهتف جميع من كانوا أحياء قائلين أنت على حق يا رب وقد فهمنا طرقك ،سوف تعانق الأم عندئذ الجلاد الذي أمر بتمزيق ابنها و ستنجلي عندئذ جميع الأسرار وسيكون ذلك اليوم هو يوم تمجيد المعرفة. ولكن ذلك بعينه هو العقدة لأنني لا أستطيع أن أقبل حلاً كهذا الحل “ ويستطرد قائلا : ” هل تألمت أنا من أجل أن أمهد الطريق بخطاياي وآلامي لانسجام مقبل لن ينتفع به إلا آخرون … إنني في حاجة إلى قصاص وعدل وإلا دمرت نفسي، وهذا القصاص الذي أطالب به أنا لا أريده في ” لانهاية ” لا يمكن الوصول إليها وفي ” أبدية ” تفوقني ..وإنما أريد أن أراه على هذه الأرض ..أن أراه بعيني … إن الثمن المطلوب للانسجام باهظ جدا وهو فوق ما نطيق أن ندفع من ثمن .. إن بطاقة الدخول غالية مسرفة في الغلاء ..لذلك أسارع فأرد بطاقتي ..إنني لا أجحد الرب يا إليوشا وإنما أقتصر على أن أعيد إليه بطاقتي بكثير من الاحترام”