معايشات
أسعدني الحظ أن أكون من الأوائل الذين حظوا بمقعد في الكنبة الملاصقة لنافذة البيع، فلقد حضرت مبكراً إلى المخبز الذي يبعد عن مقر سكني بمسافة كيلومتر تقريباً. جئت للمكان راجلاً لأن المشي أقل خطراً من استعمال أي مركبة في أجواء الحرب الخرطومية المجنونة.
سبقني للمكان بضعة أشخاص، ثم جاء بعدي العشرات الذين لم يكن أمامهم سوى الاصطفاف واقفين .. فتلوّى الطابور كالأفعى خارج العريشة التي تغطي النافذة والكنبة .. تحت شمس تتوعد الرؤوس بالمزيد من اللظى.
الشاب الذي جلس على يساري كان الأقرب إلى نافذة البيع .. ولذلك ظل مثل معلقي المباريات يصف لنا من وقت لآخر الأصوات التي يلتقطها من الداخل، فيقول تارةً إن الدفعة الأولى من الرغيف على وشك الانتهاء، ويصرح تارة أخرى بأن الطاولات قد تم إعدادها لاستقبال الخبز، ونحن مع حديثه نرسل أنوفنا لنكمل الصورة ونهنأ ببارقة للوعد الجميل.
الشاب كان يجلس بشكل مائل، تسهيلاً لسماع ما يجري داخل المخبز، وكنت أحس أن شيئا في خاصرته باتجاه ظهره يخاشن كلوتي اليسرى. لم أهتم للأمر كثيراً، فاهتمامي كان منصباً نحو أخذ نصيبي من الرغيف بأسرع وقت. وعندما جاءت البشارة بوصول الطاولة إلى النافذة وقف الشاب ليأخذ حاجته، فبادر بإنزال قميص ال (تي شيرت) الذي يرتديه والذي ارتفع قليلا بسبب الجلوس، وفي لحظة سريعة رأيت ذلك المسدس الجاثم والذي كان يضايق خاصرتي!
بعدها عرفت الحقيقة، وهي أن الكثير جداً من الجائلين في شوارع الخرطوم النازفة كانوا مسلحين، وهذا ما فسر لي ظاهرة التفتيش الشخصي التي يتعرض لها الشباب في الارتكازات، والتي كنت شاهداً عليها وأنا أغادر العاصمة لاحقاً في رحلة محفوفة بالمخاطر، ضمن الملايين الذين هجروها.
الآن ومع استمرار الحرب أضحت المسدسات سلاحاً متواضعاً قياساً بما انتشر من أسلحة الكلاشينكوف وغيرها بين الناس، فتوزيع السلاح سهل لكل راغب، والمتحاربون الذين يتم سحقهم بنيران القتال يتركون أسلحتهم نهباً لمن يحصل عليها، والذين يحصلون على السلاح أغلبهم من اللصوص، ليصبح من اليسير إبرام صفقات البيع والشراء في الأسلحة الخطيرة، والتي سيكون لها ما بعدها حين انقشاع ليل الحرب.
أخذت الرغيفات العشر بعد أن دفعت ألف جنيه قيمة مهرها، وعدت أدراجي إلى المنزل وقلبي يتوجس من كل ارتكاز أقابله، مثلما تتابع عيني طائرة كانت تحوم .. دون أن أدري أو يدري أحد أين سيصب مخزونها.
والحمد لله على كل حال.