بعد أن نصبت نفسها مدافعه عن الديموقراطية هل تظهر الحركات في الواجهة من جديد
بعد ان نصبت نفسها مدافعة عن الديمقراطية وعملية الانتقال المدني هل تعيد الحركات المسلحة تموضعها في الواقع السياسي السوداني؟
في كتاب الثائر الأرجنيتني- الكوبي المقاتل تشي غيفارا “حرب العصابات” عبر عن فكرته بأنها حركة سياسية ثورية “تضع مخططاً توضيحياً عن كيفية انتصار انتفاضة تقوم بها مجموعة رجال ضد قوى الجيوش الحديثة والتكنولوجيا، بوجود حد أدنى من الموارد وقليل من الدعم الشعبي والمواصلات المتواضعة، لتطيح جيشاً نظامياً ما دامت تضم إلى صفوفها كل يوم أفواجاً من المتطوعين
وبسيطرتها على المخيلة الشعبية في العالم الثالث خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات، استطاعت هذه النظرية من خلال نجاح الثورة الكوبية أن تؤثر في مناطق عدة بالعالم الثالث، وتأثر بها أيضاً زعيم “الحركة الشعبية لتحرير السودان” جون قرنق دي مابيور الذي كان متشرباً بالنظرية الماركسية، لكن عوامل سياسية واجتماعية إلى جانب الاستراتيجية العسكرية مكنت جيش الحركة من صد الجيش السوداني في أدغال جنوب السودان مرات عدة، وأوقعت عوامل أخرى الهزيمة به من دون أن يكون هناك مقياس ثابت لهزيمة الجيش أو انتصاره، لكن الاستناد كان دائماً إلى “القوى الشعبية” والمناطق الريفية التي وصفها غيفارا بأنها أفضل ساحات قتال للكفاح المسلح.
على هذا النسق نشأت الحركات المسلحة الأخرى المتولدة من “الحركة الشعبية” مثل “الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال”، والحركات المسلحة في دارفور منذ نشوء الحرب هناك عام 2003، وتوحدت هذه الحركات أحياناً وانشقت كثيراً، وتغيرت استراتيجيتها وتطورت من مجموعة ثائرين إلى ميليشيات قادرة على خوض معارك ضد الجيش بهدف إلحاق الهزيمة به.
لما اكتشف النظام السابق أن قوة هذه المجموعات تنجح في الأرياف والأقاليم البعيدة كانوا يجرونهم إلى حروب في المدن، لكن ميليشيات “الجنجويد” التي تحولت إلى قوات “الدعم السريع” وكانت جزءاً مسانداً للجيش أثناء نظام الرئيس السابق عمر البشير، ثم جزءاً منه بعد ذلك غيرت التكتيك ونقلت الحرب من معسكرات دارفور إلى حرب المدن، وأدارت المعارك في حواضر أقاليم دارفور، ثم تمكنت من العاصمة الخرطوم بمعرفة تامة لمنطقة عملياتها في مركزها ومدنها الثلاث.
ملامح ثورية
تمددت الحرب السودانية التي بدأت في أبريل (نيسان) الماضي بين الجيش وقوات “الدعم السريع” في الخرطوم والمستمرة منذ ما يزيد على ستة أشهر، لتشمل أقاليم أخرى في دارفور وكردفان، إلى منطقة جبال النوبة والنيل الأزرق، وتشمل أحداثاً متفرقة في شرق السودان، يمكنها كلها أن تشكل نواة لحرب أهلية شاملة.
ومع أن الحرب تديرها بشكل رئيس قوات الجيش في مواجهة “الدعم السريع”، إلا أن الحركات المسلحة ليست بعيدة تماماً من ميدانها سواء واقعياً على الأرض أو مؤيدة لأحد الطرفين، خصوصاً أن بين هذه الحركات من كانت تطمح إلى تأسيس “حكومة ثورية”.
ومع الاختلافات بينها إلا أن الحركات اتفقت جميعاً على استغلال الحرب وتحويلها لصالحها حتى تلك التي لا تستطيع شن حرب في المدن، فإنها أبدت في الفترة الأخيرة استعدادها لتوجيه الحرب من مناطقها إلى الداخل كنوع من المساندة لأي من الطرفين.
اندمجت الحركات المسلحة مع القوى السياسية المدنية، وأصبح بعضها مناصراً لقوى “إعلان الحرية والتغيير- المجلس المركزي”، وأخرى لقوى “إعلان الحرية والتغيير” المنشقة.
وبهذا يمكن أن يضمن كل منها موقعه في الحكومة المقبلة بما يعطيها ملامح ثورية ذات مضامين سياسية، وليست عسكرية، ولذلك نصبت نفسها، وهي حاملة السلاح، مدافعة عن الديمقراطية وعملية الانتقال المدني.
وعلى رغم أن بعض الحركات المسلحة تحولت إلى أحزاب سياسية، إلا أنها تحتفظ بقواتها في الخرطوم وغيرها من المدن، انتظاراً إلى تحقق بند “الترتيبات الأمنية” المنصوص عليه في اتفاق “جوبا لسلام السودان” في أكتوبر (تشرين الأول) 2020.
وبعض زعماء الحركات حصلوا على مناصب سياسية قبل أن يحدث الدمج الذي أصبح مثار خلافات قبل أن تعطله الحرب. ومنهم زعيم حركة “العدل والمساواة” جبريل إبراهيم في منصب وزير المالية، وزعيم “حركة تحرير السودان” مني أركو مناوي الذي عين حاكم عام أقاليم دارفور الخمسة، وزعيم “الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال” مالك عقار الذي عينه البرهان أخيراً ليشغل نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي، بديلاً للنائب السابق الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) بعد إعلان قواته “الدعم السريع” متمردة.
أما الذين رفضوا التوقيع على الاتفاق، فهم الزعيم المنشق في “الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال” عبدالعزيز الحلو، والزعيم المنشق أيضاً في “حركة تحرير السودان” عبدالواحد محمد نور.
صوت الحركات
بعد اندلاع انتفاضة ديسمبر (كانون الأول) 2018، وإطاحة نظام البشير في أبريل 2019، أقيمت حكومة الفترة الانتقالية، وبدأ التفاوض بين قوى “إعلان الحرية والتغيير” من جهة والمجلس العسكري من جهة أخرى إلى أن توصل إلى اتفاق سياسي وقع عليه في الرابع من أغسطس (آب) 2019، وعين مجلس السيادة السوداني الانتقالي عبدالله حمدوك رئيساً للوزراء، وتسلم منصبه في الـ21 من أغسطس.
وفي السنة الأولى من الانتفاضة تكونت حكومة مختلطة من المدنيين والعسكريين، لكن دخلت المجموعتان في خلافات واسعة، ثم تعرضت كل منهما لانشقاقات.
في تلك الفترة كانت الحركات المسلحة تراقب ولم تعلن انضمامها لأي من الطرفين، لكن بعد فترة وجيزة طاولت الحركات أيضاً انشقاقات، وأصبح منها فصيل موال للعسكر وآخر للمدنيين.
وبعد أن اشتد الخلاف بين المكون المدني والعسكري على إثر الإجراءات التي فرضها رئيس مجلس السيادة الفريق عبدالفتاح البرهان في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، وهو ما عد انقلاباً على المكون المدني، أعلن حمدوك استقالته في الثاني من يناير (كانون الثاني) 2022.
في أثناء الحرب كان صوت الحركات المسلحة ضعيفاً إذ لم تعلن تأييدها بصورة واضحة أو نبذها للحرب، لكنها حافظت على مواقعها، من في الحكومة ظل بها، ومن في المعارضة ظل ممسكاً بسلاحه. ولما لم تثر هذه المواقف أياً من طرفي النزاع بدأ كل منها يعلن وجوده بمواقف بعضها ضبابية لمن ينتظرون تنفيذ “الترتيبات الأمنية”، وأخرى صارخة لمن رفضوا التوقيع على اتفاق “جوبا لسلام السودان”.
وبينما كان قادة من “قوى الحرية والتغيير” يلعبون دور المحرض لهذه الحركات، ودعوها إلى تبني رسالتها “لا للحرب”، وهي في نظر كثيرين رسالة “جوفاء” لا تعني شيئاً غير “الدعوة إلى استمرار الحرب” إلى أن يقضى على المناوئين السياسيين.
دفع النضال ضد نظام البشير وحزبه “المؤتمر الوطني” والتنظيم الإسلامي الذي ينتمي إليه لثلاثة عقود، القوى السياسية إلى تركيز هدفها على عدو بلبوس سياسي مهترئ، يتمثل في أفراد التنظيم بأسمائهم وليس التنظيم ككيان لذلك لم ينصب التركيز على مواجهته بشجاعة، فإلى الآن تطعن القوى السياسية في ظل النظام السابق الذي تراه متمثلاً في النظام العسكري باعتبار أن من يحركه هم “الإخوان المسلمون”.
لذلك عندما أعلن حميدتي بإيعاز من القوى المدنية انسلاخه من نظام البشير بالتالي تحويل حربه على التنظيم وجدوا فيه السند القوي الذي يمتلك القوة العسكرية والمال، يعوضهم عن نقص، ويصور حربهم ضد النظام أكثر منطقية، ولم تعد لديهم حاجة إلى بقية الحركات المسلحة التي كانت رفيقتهم في نضال الأمس.
إزالة الاحتقان
أحدث انقسام نفذته الحركات المسلحة تمثل في انشقاق مجموعة من “حركة العدل والمساواة” انتخبت المسؤول السياسي السابق بالحركة سليمان صندل حقار في مؤتمرها العام الذي عقد بأديس أبابا في الـ30 من أغسطس الماضي، قائداً لها.
وبعد أيام طرح زعيم الحركة جبريل إبراهيم خريطة طريق لإنهاء الحرب تتضمن “وقفاً فورياً لإطلاق النار وتهيئة المناخ لانطلاق عملية تفاوضية تخاطب القضايا العسكرية والإنسانية والسياسية”، وطالبت الحركة بتشكيل حكومة تصريف أعمال لحين توافق القوى السياسية والمدنية على ترتيبات دستورية لإكمال الفترة الانتقالية. ودان البيان الختامي “انتهاكات ’الدعم السريع‘ في هتك الأعراض وسلب الأموال واحتلال المساكن والمرافق العامة وقتل المدنيين، خصوصاً جريمة اغتيال والي ولاية غرب دارفور خميس عبدالله أبكر”.
وكرد فعل على هذا التحرك قال قيادي في الحركة في الـ10 من سبتمبر (أيلول) الجاري، إن “قوات الدعم السريع دهمت منزل رئيس التنظيم جبريل إبراهيم بضاحية المنشية، واعتقلت قائد حراساته السابق، واثنين آخرين.
ظلت حركة “العدل والمساواة” تجدد تمسكها باتفاق “جوبا للسلام” لإصلاح الأجهزة الأمنية ودمج الجيوش، وأعلنت منذ بدء الحرب التزامها جانب الحياد، وعدم مناصرة أي من طرفي النزاع، ولكن المنشقون عنها يرون أن زعيم الحركة إبراهيم بانتمائه الإسلامي هو الأقرب لأصوات خفية محركة للقرارات التي يتخذها الفريق البرهان.
أما “حركة تحرير السودان” جناح عبدالواحد محمد نور، فأعلنت أنها تسيطر على مناطق وعرة هي امتداد لجبل مرة في أقاليم دارفور الخمسة، وأن مناطق سيطرته حوت فارين كثراً من الحرب. واقترح مناطق لتجمع النازحين داخل ما سماه بـ”المناطق المحررة”.
بالنسبة إلى زعيم “الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال” عبدالعزيز الحلو، فكان لا بد من إعلان حرب جديدة للفت أنظار المركز، فعلى رغم توقيعه على اتفاق وقف إطلاق النار مع الحكومة السودانية لكنه أعلن سيطرته على أربعة معسكرات في كادوقلي بولاية جنوب كردفان التي تبعد عن العاصمة الخرطوم نحو 589 كيلومتراً، بمنطقة جبال النوبة. وفي النهاية تدخل زعماء إدارات أهلية بين قادة الجيش و”الحركة الشعبية” ونجحوا في إزالة الاحتقان بين الطرفين.
أهداف قادمة
تبدو مواقف الحركات المسلحة متباينة وتزيد من ارتباك المشهد السياسي في ظروف الحرب السودانية إذ لا يعد تحولاً كلياً، وإنما استغلال لظروف الحرب. ونشاط الصدام في هذه المناطق ليس جديداً، إذ شهدت منطقة جبال النوبة تاريخاً ممتداً في الحرب بين النظام السابق وحركة قرنق، كما شهدت ولايات دارفور أيضاً حرباً مستمرة بين النظام السابق والحركات المسلحة، وكما يحدث منذ عقود فإن أي هجوم يكون محركه الاستفادة من الوضع الحالي.
وهنا يمكن رسم خريطة توضح الأهداف القادمة للحركات المسلحة، فبالنسبة إلى الحركات الموقعة على اتفاق “جوبا للسلام” فهي ستتردد في العودة للقتال الفعلي مهما اعترتها الانشقاقات، خصوصاً أنها قضت ما بين عامين لثلاثة أعوام في الوظيفة الحكومية، ولن يكون لديها استعداد لتعود للقتال إلا إذا تغير مجلس السيادة الحالي. ومن جانبه يحافظ الفريق البرهان على هذه الحركات بتشكيلتها الإثنية ذات الجذور الأفريقية من دارفور وجبال النوبة، لتدل على وجود تشكيلة واسعة في معسكره، يثبت بها للمجتمع السياسي المحلي والدولي أن حركات مسلحة كانت من قبل تناضل ضد النظام السابق وتنادي بالحريات وتنمية أقاليمها هي الآن إلى جانبه، وبهذا فهي تمثل توازناً ضرورياً في الصورة الكاملة للقوى السياسية السودانية، بحيث لا تسمح ببروز أي تصنيف بناء على الانتماء.
أما الحركات المسلحة الرافضة لاتفاق “السلام” ويغلب عليها أيضاً العنصر الأفريقي، فإن كانت في مواجهة مع قوات “الدعم السريع” فستكون المواجهة إثنية بناء على انتماء القوات إلى قبائل الرزيقات العربية، وإن دخلت في مواجهة مع الجيش فستكون أيضاً بناء على التركيبة الإثنية، خصوصاً أن فكرة “صراع المركز والهامش” نسفها تأييد الحركات الأخرى للجيش، ولن تجد حركة الحلو ونور بداً من الاتحاد على مضض مع حميدتي، ولكنه سيكون موقتاً لأن فتيل الأزمة الإثني غير قابل للنزع بشكل تام.
درجت قيادات الحركات المسلحة على تقمص دور الثوار، وهي ميزة اكتسبوها من الشعور القومي السائد في مناطقهم، ثم نموه لضرورات الاستمرار في الحالة الثورية بما تضمنه لهم من مناصب في حالات الاتفاق مع السلطة في المركز، أو تحفظه لهم من مواقف ودعم من المجتمع الدولي.
ومع أنه من الصعب ملاءمة مواقفهم مع “الدعم السريع” لأجل طويل، لأنهم يعدون أنفسهم أكثر تنظيماً والتزاماً منه، فربما تشهد المرحلة المقبلة سعي “الدعم السريع” إلى استقطاب هذه الحركات، بعد قرب انتهاء زواج المصلحة بينه والقوى السياسية.