أبعد من مأساة جوليا
قال لنا الدكتور جون قرنق إن الحركة الشعبية لتحرير السودان التى يتزعمها، حركة وحدوية تدعو لبناء سودان جديد علمانى، لا خلط فيه بين الدين والسياسة.
سودان يخلو من الفقر والتهميش، ويقوم على العدالة فى التنمية وتوزيع الثروات بين مختلف أقاليمه.وقال لنا إن تاريخ السودان، هو سردية مؤلمة ممتدة فى الزمن، تحفل بالتمييز بين أبنائه بسبب الدين والعرق والثقافة واللون. وتلك السردية عززتها القوى الاستعمارية، بزرع مفاهيم ثقافة الرق الغليظة والخالية من الرحمة، والتى لاتزال آثارها الاجتماعية تتحكم فى العلاقة مع الجنوبيين وغيرهم ممن ليسوا من أصول عربية.بجانب الفشل الذى أدمنته الأنظمة الطائفية التى تداولت حكم السودان منذ استقلاله، ومهد الصراع الدائم بين أحزابها على اقتسام السلطة، ونقض كل الاتفاقات والعهود لوقف الاقتتال الأهلى، الطريق للقوى التى تدعو إلى انفصال الجنوب عن شماله، وتضع حدودا فاصلة بين انتمائها الأفريقى على حساب الانتماء العربى، فدعمت مواقعها وعلا صوتها.
كان ذلك فى مثل هذا الشهر عام 1997 حين حل الدكتور «جون قرنق» ضيفا على القاهرة فى زيارة رسمية هى الأولى له منذ توليه زعامة الحركة الشعبية لتحرير السودان عام 1983، وبعد انقضاء ثمانى سنوات على انقلاب حركة جماعة الإخوان السودانية على حكومة الصادق المهدى المنتخبة، ليقود البلاد نظاما قمعيا يرفع رايات دينية يقتل السودانيين ويهجرهم ويفقرهم وهىو يهتف باسم الله، فيما كان يسمى حكم الإنقاذ.
وأثناء زيارته حرص دكتور قرنق على زيارة حزب التجمع مع وفد من التجمع الوطنى الديمقراطى، الذى كان يقود معارضة نظام البشير من الخارج، وضم عددا من مساعديه وأخرين من قادة الحزب الشيوعى السودانى، حيث استقبله وفد من قيادات حزب التجمع برئاسة خالد محيى الدين. وفى اللقاء أوضح جون قرنق رؤيته السابقة التى كان ينادى بها حول بناء السودان الجديد الموحد، ردا على أسئلة وفد التجمع.وحين قُتل “جون قرنق “فى حادث طائرة غامض بعد ثمانى سنوات من زيارته تلك، فى أوخر شهر يوليو عام 2005، قال لنا “خالد محيى الدين” السودان سيقسم!.
تذكرت هذا اللقاء بعد مشاهدتى الفيلم السودانى البديع «وداعا جوليا» الذى تقع أحداثه بين عامى 2005 و2011 و يروى برقة ونعومة، وبتناغم فنى رائع بين الكلمة والصورة والأداء والموسيقى، قصة انسانية مؤثرة تنطوى ضمنيا على التاريخ السياسى والاجتماعى للسودان المعاصر الذى شكلت حروبه الأهلية الحيز الأكبر من سنوات القرن العشرين، وتغلغلت فيه ثقافة الرق التى تنظر إلى الجنوبيين وغيرهم من ذوى الأصول الزنجية، حتى لو كانوا مسلمين، نظرة دونية تجعل منهم مواطنين من الدرجة الثانية. يروى الفيلم الذى كتب قصته وأخرجه «محمد الكردفانى» ببراعة فنية تتسم بالرقى والوعى جانبا آخر من القمع الذى تتعرض له المرأة حين تُجبر على الاختيار بين أن تكون زوجة وبين العمل، أو بين حرية ممارسة المواهب التى تتمتع بها وبين الزواج. وبطلة الفيلم المطربة منى «إيمان يوسف» التى كانت تغنى ضمن فريق موسيقى ناجح، يجبرها زوجها الثرى أكرم «نزار جمعة» على ترك الفرقة والكف عن الغناء والتفرغ للحياة الزوجية، التى تكتشف خلالها أنها لن تكون قادرة على الإنجاب. وتتطور الأحداث حين تصدم منى بسيارتها طفلا من أسرة جنوبية فقيرة تعيش فى الخرطوم فتصيبه وتهرب مفزوعة، فيتعقبها أبو الطفل بدراجته النارية ويصل إلى ساحة منزلها وهو يصيح غاضبا، فيخرج زوجها أكرم ويطلق عليه الرصاص فيقتله، ويتواطؤ مع الشرطة لاخفاء معالم الجريمة والجثة لكى يسود الاقتناع أنه قد اختفى.
لا تتوقف جوليا «سيراك رياك» زوجة القتيل عن البحث عن زوجها المختفى فى كل أقسام الشرطة، التى لا تكتفى بتضليلها وإثارة شكوكها بأنه قد يكون قد غادر إلى الجنوب، بل تقتلع الجنوبيين من بيوت عشوائية تسترهم بالكاد، وتلقى بهم فى السجون، أو على قارعة الطريق..وتقود الفطرة الإنسانية السوية الفنانة منى إلى البحث عن جوليا لمساعدتها، ربما للتخفف من إحساسها بالذنب، فتدعوها لمساعدتها فى أعمال المنزل وتمنحها غرفة لها ولطفلها للعيش معها فى نفس البيت، ثم تغدق على الاثنين بالمال والمشاعر الودودة فتلحق الطفل بمدارس خاصة، وتقنع جوليا نفسها بالتعلم فى مدارس الكنيسة بعد انتهاء عملها فى المنزل. تتوطد العلاقة بين المرأتين اللتين تعانيان من عذابات مختلفة الأسباب، وتصبحان صديقتين، لتكتشف جوليا فى مجرى الصداقة صوت منى الشجى الجميل المحروم من التغريد.
وتكتشف منى أن جوليا الجنوبية، سوف تصوت فى الاستفتاء على الوحدة لا الانفصال، وأنها مغرمة بغناء سيد خليفة مطرب الشمال الشهير.وتستجيب لحثها على الغناء فى الكنيسة بدون أن يعلم أكرم الذى تسيطر على شخصيته نوازع التحكم الذكورى والأنانية، ولدعوتها بنبذ الكذب الذى تقود به حياتها مع زوج مغرور متكبر، لأن العواقب النفسية للصراحة، أقل ثقلا من كذب يغلله الخوف. يعترض أكرم على صداقة زوجته مع خادمة وجنوبية، وبمشاعر شوهتها الكراهية والإحساس بالتفوق العرقى والطبقى والدينى، ينصحها بمصاحبة احدى جاراتها بدلا من مصاحبة عبيد غير مسلمين كما قال لها وهو يبدى تذمره من تكرار سؤال زوجته لماذا لم يطلق النار على قدم القتيل بدلا من الطلقة القاتلة التى أودت بحياته؟ وتنتهى أحداث الفيلم بطرد جوليا وابنها من المنزل، وبمكاشفة تفضى إلى انفصال منى عن زوجها، وعودتها للغناء مع الفرقة الموسيقية، واكتشاف جوليا لأوراق ثبوتية لزوجها القتيل فى المنزل، فتفهم سر احتضان منى لها، وتخفيه من أجل طفلها، الذى يساهم بدوره فى الكشف عن جريمة القتل بحق أبيه، وهى التهمة التى تقود الزوج إلى السجن، بعد أن تكون جوليا قد تخلت عن أفكارها الوحدوية، وتصوت مع 98% ممن صوتوا مع استقلال الجنوب، لتغادر مع ابنها، إليه محملة بمشاعر ألم عميق وحزن جارف وخذلان لا قرار له. إن فيلم وداعا جوليا هو مرثية للسودان، البلد الذى كان موعودا بأن يصبح سلة لخبز العالم. فصار ممزقا وضائعا وجائعا ومجهول المصير!.
أمينة النقاش – صحيفة الأهالي