الأعمدة

إلى طائر الفرح الأخضر ..عازف الأوتار عبدالكريم الكابلي

كتب الاستاذ الموريتاني حمود ولد سليمان قبل سنوات عن الفنان الراحل عبدالكريم الكابلي مقالا جميلا نعيد نشره ونترحم على فقيد الوطن والفن ونسأل الله ان يرحمه ويسكنه فسيح جناته…

هذا نص المقال :-

*إلى: طائر الفرح الأخضر الذي عودنا الحب والحبور على إيقاع الوتر الخامس، لعازف الأوتار عبد الكريم الكابلي*

ذات صباح ممطر من صباحات حيدرة الجميلة، على الأثير كان الكابلي يغني.. كان الصوت العذب الشجي، يأتيني تارة كأنه من بعيد يصلني في صمت يخالجني.. وطورا من قريب كأن خيوله تحاصرني..
الكابلي العذب كأنه يخامر الوجود. يمضي ويأوب. ولا يلبث أن يتردد صداه متموجا مع الريح.. ورذاذ المطر، نافذا في الأعماق.
أصغيت وأرهفت سمعي للنشيد:

عندما أعزف يا قلبي الأناشيد القديمة
ويطل الفجر في قلبي على أجنح غيمة
سأغني آخر المقطع للأرض الحميمة
“تاج السر الحسن”
أحسست:
رفيف الروح للطائر والأغنية.

قبل أكثر من عقد من الزمن، وكنت يومها طالبا في الآداب ـ قسم اللغة العربية ـ جامعة الجزائر، أقيم في الحي الجامعي “حيدرة وسط ” في الغرفة 9 جناح 11، وكان يشاطرني غرفتي أخي “الأمين الهمال” وكان يدرس الأدب الإنكليزي.
كان للحي ما يشبه إذاعة تبث داخل الحي، وكانت دائما تبث أغاني الأستاذ عبد الكريم الكابلي.
أذكر في إحدى المرات سمعت الكابلي، كنت في مقهى الحي، في الصباح على وقع زخات المطر، استمعت واستمتعت ب “سكر” سكر .. سكر..
وأنا ارتشف فنجاني.. انتشيت.. تمايلت روحي مأخوذة بالإيقاع الساحر في ذلك الصباح الندي:

ساحر لونه أسمر
كل الشافو أنكر:
غيرو يكون في سكر!!
سكر.. سكر
وحات عيني سكر وأكثر
أحلى نغم في منظر
أول مرة يظهر في أعماقنا فجر ألوان من محاسنو
ظلال نغم في منظر
في واحات عيونو رقيق أشواقنا فسر

بعدها.. جلب لي الأمين الهمال كاسيت للكابلي يحوي بعض أغنياته “فقدت حبيب”.. “زينب”.. “روعة الليل”.. “دناب”.. “في طريق الجامعة”.. “ناصر “…

ثم توالت صباحيات الكابلي الجميلة، كنا نسمعه مع انسام الصباح الأولى، وأحياناً في المساء بفضل اذاعة الحي.
من الأغنيات التي طربت لها واعجبتني وما تزال “يا الحرموني شوفتك”، “شذي زهر، “فتاة اليوم والغد، “آسيا وأفريقيا”، في عز الليل.. لماذا”

الكابلي فنان حالم آسر.. في صوته حلاوة وطلاوة ونقاوة.. وسحر يتردد صداه في الروح.. مطبوع بالفطرة على الوزن والايقاع.. والكلمة الجميلة، يتماهى مع اللحن إلى منتهى الروح. ساحر.. آسر.. يعرف أسرار الموسيقى.. والروح الكامنة في جوانح الأسرار.. متوهج الروح.. صافي العمق.. بعيد الغور.. عذب.. حلو.. شجي.. يتردد.. ويمتد ويستمر للأبد.. شجيا.. نديا.. بهيا.. جميلا.. ينادي الروح..
جهوريا.. خافتا.. هامسا رقيقا.. ناصعا.. ساطعا عميقا.. متسعا.. شاسعا عابرا أثيريا.. تهفو له النفس وترتاح.. يتجدد كل حين.. ويتوزع في الأثير.. “ينضد النغم المورد للنهار حتى مع الليل المخيم بالظلام…
يهب الحياة غناؤه يهب الفنون”
بلسم لأنة المجروح.. خالدا في الروح مثل حنين قوس الكمان وأرغن الليل.. وأنين الناي…
الكابلي شاعر مرهف الحس، يتمتع بذائقة ذواقة للموسيقي والشعر، ومذيقة لهما.. بفعل التناغمية الجميلة التي يؤلفها بين الكلمة الجميلة واللحن الملائم لها.. بين الظلال والنغم يصوغ الروح والفن والسحر والخلود..
على إيقاع الوتر الخامس “في عز الليل”
“ساعة النسمة ترتاح على هدب الدغش وتنوم”
ويسطع القمر رويدا رويدا في سماء “اكجرت”.. يصغى الليل لترانيم الملهم الخالد عبد الكريم الكابلي.. مشاطرا لشوق المحزون
ويا لشوقه!!..
“في عز الليل”
كم يذيب النشيج الصخر “ويجري المدمع شعرا” ويبكي القلب من لاعج “الذكرى”.. ويسرح الخيال مشدوها ذاهلا في مسافات الذكرى.. بين خفق الرؤى واطياف المنى.
في عز الليل كم يأخذه الحنين
“لضفاير النيل
لرمال سهرانة راجية المسيل”
لأريج الحناء الفايح، وقد برد الليل
لملمس الطمي الناعم وقت الأصيل
لغيم في الريح يعانق النخيل.
في عز الليل “ساعة النسمة ترتاح على هدب الدغش وتنوم”
مفعما بالروح والحرف يوقظ.
يكتب الشوق والحنين والفرح والترح.. أبجدية بلون قوس قزح،
يرتاد البعيد.. سائلا الذاهبين قبل الفرح لم لم يمكثوا قليلا؟
عن رحلة العمر القصير..
وظلال العبور.. ويوم الخروج؟!
عن الرحيل في البر والبحر والجو. عن الحزن الليلي لعابر المجاباة الكبرى!.
..”قسيمتك يا رقيق الحال ومكتوب ليك تعيش رحال”
“زمان الناس هداوة بال وأنت زمانك الترحال!!
لله أقداره ما أكثر أسفاره.. كم جاب الدنيا.. بحثا عن حلم.. كم راود الشمس..
كم انكفأ على الجرح.. وسرى مرفرفا كما الغمام..
حرا وحرا
كم انكسرت أغصان قلبه..
وأحس ألم “فقد الحبيب”
كم “اغرته الزهور”.. كم أزهاه “البستان”..
كم شغفت قلبه السيرة..
وكيف ينسى أيام الطفولة و”زمان الزهر”

الكابلي آسر الروح.. في برهة وقته يصنع الزمن سعيدا.
وفي، ومن جرح الوقت يصوغ فرح الروح.

•• اللهم أرحم عبدالكريم الكابلي بقدر ما اعطى وحمل وطنه في حدقات عيونه وأسكنه فسيح جناتك ياحنان يامنان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى