اندبندنت اللندنية :المقاومة الشعبية” إلى ماذا تؤدي في السودان؟
بعد قيام انتفاضة ديسمبر (كانون الأول) 2018، تصور السودانيون مستقبلاً مشرقاً من “الحرية والسلام والعدالة”، وكانت تلك الشعارات الثابتة للثورة على الرغم من التحديات التي واجهها الثوار وما عانوه من ملاحقة وتصفيات. فإن العسكريين واصلوا القمع حتى بعد إطاحة حكم الرئيس السابق عمر البشير، وحاولوا القضاء على الأحزاب والقوى السياسية المختلفة. وأصبحت “المقاومة الشعبية” وريداً تغذت عليه القوى السياسية السودانية وواصلت الحشد ضد الحكومة.
يمكن النظر إلى تجارب المهاتما غاندي، ومارتن لوثر كينغ الابن، ونيلسون مانديلا، وآباء الاستقلال في السودان في المقاومة السلمية. ومع ذلك، فإن هناك مجموعة من الاختلافات الاجتماعية والسياسية والثقافية، التي تحقق الاستجابات المناسبة لدى أي مقاومة شعبية، كما أن هناك اختلافاً واضحاً في الظروف الزمنية بين عهد الاستعمار والآن، والأهم الاختلاف بين مقاومة المُستعمِر، ومقاومة مكونات عسكرية انتمت في فترة ما إلى مؤسسة الجيش السوداني، ثم خرجت عليه. وهناك فرق يكمن في أن المقاومة في عهد الاستعمار جمعت الناس من خلفيات عرقية ودينية وطبقية مختلفة ضد الحكم البريطاني. أما في العهود الوطنية، فإن المقاومة كانت ضد الحكام العسكريين السودانيين. والآن برزت “المقاومة الشعبية” بمباركة الجيش ضد قوات كانت حتى وقت قريب تحارب إلى جواره.
حصيلة المقاومة
تبدأ حركات المقاومة عادة ضد أي من صور الاستغلال، فالحكم البريطاني الذي قوَّضت سياساته الحقوق والمكانة والوضع الاقتصادي للسودان، عانى من المقاومة الشعبية ولكنه استطاع السيطرة عليها بتشكيل تحالف مع زعماء البيوت الطائفية. والآن، كان يُفترض بالمقاومة الشعبية في السودان أن تكون حركة عمل مباشر تهدف إلى تقوية المجتمع وتعزيز القدرة على مقاومة الظلم والقيام بشيء حيال ذلك، والضغط على طرفي النزاع لإضعاف مواجهاتهما. وإن كان ذلك موقفاً إيجابياً يمكن القيام به، فإن الموقف المقابل هو التسليح الشعبي، وقد بدأ النداء إليه علناً من قِبل الجيش السوداني، رداً على حشد “الدعم السريع” لقواتها من مناطق متفرقة. وفي هذه الحالة ستكون الحصيلة “مقاومة شعبية” مسلحة وليست سلمية، سرعان ما ستتحول نفسها إلى ميليشيات مسلحة.
وما يحدث الآن ليس بغريب على تاريخ السودان، فقد حشدت القوى السياسية من أبناء جنوب السودان في البرلمان، في خمسينيات القرن الماضي وتوَّحدت لمناهضة ما رأوا فيه تسلطاً للعنصر العربي عليهم في حكومة الاستقلال الوليدة. ونشب التمرد الأول ثم تحول إلى حرب كان وقودها إثنياً عنصرياً. ثم اتخذ البعد الأيديولوجي أيضاً في عهد البشير الذي حول الحرب في الجنوب إلى حرب دينية، وحشد لها المقاومة الشعبية متمثلة في “الدفاع الشعبي” الذي تحول إلى ميليشيات مساندة للنظام. والنتيجة كانت بعد استمرار الحرب لحوالى خمسة عقود تقسيم السودان وانفصال الجنوب. ومثَّل ذلك حدثاً أثناء الحرب في دارفور، فكانت ميليشيات “الجنجويد” إلى جانب الجيش السوداني، وبذرتها كانت من مقاومة شعبية من “المراحيل”، ضد مقاومة شعبية أخرى من أبناء دارفور، وحملت كلتا المقاومتين السلاح، “الجنجويد” إلى جانب الجيش، والحركات المسلحة المتمردة تساندها دول الجوار ليبيا وتشاد.
حقوق الولايات
وأضعفت العوامل الداخلية خلال الفترة الانتقالية “المقاومة الشعبية” السلمية ضد تسلط المجلس العسكري وعملت على تسييسها، وأهمها، عوامل اقتصادية، إذ بدأ المكون المدني في جذب أموال المساعدات من المنظمات الدولية واستخدامها في النشاط السياسي. وهنا نشب الصراع على استحقاقات المعونات الإنسانية، وتضاربت مع الأغراض السياسية والأطماع الشخصية. وهناك عوامل إثنية وقبلية، كان يتم التعامل معها حتى خلال الفترة الانتقالية على أنها أشياء طارئة وتتعلق بأقاليم معينة تعودت على النزاع المحلي على الأرض والمرعى والزراعة، ولكن عندما حدثت الحرب في أبريل (نيسان) الماضي، برزت سيئات العنصرية في دارفور ووصلت إلى حد ما عُدَّ من قبل المنظمات الدولية تطهيراً عرقياً ضد قبائل بعينها، في مقدمها المساليت.
ووفقاً لذلك، اجتمعت قبائل وإثنيات في أغلب ولايات السودان، منها مثلاً قبائل كردفان الكبرى، وخلصت إلى مطالبة الدولة بحقوق الولايات في السلطة والثروة، وكذلك اتفق ممثلو إداراتها الأهلية على تسمية قيادة للمقاومة الشعبية بالتنسيق مع الإدارات الأهلية. كما انضمت مناطق في أقاليم مختلفة منها مروي، والدبة، والمناقل، وقرى بحر أبيض، ودار حامد، وقبائل الحمر، والنوبة، وكسلا، إلى المقاومة في مواجهة “الدعم السريع”. وفي المقابل انضم فصيل من قوات “العدل والمساواة” في دارفور إلى “الدعم السريع”.
وهناك أيضاً عوامل خارجية، تتعلق بما يحدث في الإقليم، ونزاعات دول الجوار السياسية وحروبها الداخلية، وحالة الانقسام مما لا يضمن معه السودان موقفاً موحداً.
تطور الاستراتيجيات
تبدأ المقاومة الشعبية عادةً بنوايا طيبة في الدفاع عن النفس، وقد تخطئ في فهم ما يحدث بين أبناء البلد الواحد، نتيجة للخلط بين تطبيق استراتيجيتي العنف واللاعنف لحماية الدولة. ولم يكن تطور أساليب واستراتيجيات المقاومة مختلفاً عن النضالات الأخرى التي خاضها السودانيون من قبل، ولكن هذه المرة يجهل كثيرون أسباب اشتعال الحرب الحالية. وفي الحقيقة قد لا يكون سببها واحداً يمكن التمسك به لمعرفة كيفية التعامل معه، ولكن قد تكون خليطاً من أسباب عدة، هي الطموح الشخصي بالرئاسة لكلا الجنرالين، (قائد الجيش عبدالفتاح البرهان، وقائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو) خصوصاً أن أحدهما في موقع رئيس مجلس السيادة (البرهان) والآخر في موقع نائبه (دقلو). وقد تكون أيضاً للرغبة في إزالة العسكر عن السلطة، ولكن تم ذلك بالطريقة الخطأ وهو الاستعانة بمكون عسكري لإزالة الآخر. وهذه تحدث بشكل آخر في حالة الانقلابات العسكرية عندما يتحرك حزب سياسي ويدعم خلايا نائمة في الجيش لتنفيذ انقلاب ما، ثم يستولي على السلطة من خلال هذه الواجهة العسكرية. وقد تكون “المقاومة” أيضاً نتيجة لأطماع خارجية إن لم تكن تتعلق بالسودان وأرضه وموارده الطبيعية، فإنها ربما تتعلق بموقعه وسط مصالح إقليمية أخرى قد يعيق وجود نظام حكم معين التعامل معها، وقد تكون غير ذلك.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مناطق السيطرة
من الصعب الحكم بصورة قاطعة على قدرة المقاومة الشعبية الحالية على تحقيق نصر على قوات “الدعم السريع”، وذلك لتوزعها بين قوات حزبية قد تكون مدربة بشكل خاص ومجهزة للقتال مثل قوات حزب الأمة أو قوات مؤدلجة مثل تلك التي تنتمي إلى الحزب الشيوعي أو التيار الإسلامي، والأخيرة لها سجل خاص في التدريب القتالي والأمني حتى قبل سقوط البشير، وتبقى منها الآن “كتائب الظل”. أو قوات قبلية ومناطقية وتبدو هذه بشكل واضح في الاستنفار الحاصل الآن.
كان العنف والنهب من أكثر الأدوات التي استخدمتها قوات “الدعم السريع” بينما نسبتها قيادتها إلى “متفلتين”. وهذه الأدوات هي نفسها التي تستخدمها الفئات والطبقات الضعيفة في حالة تمردها على الحكام أو ضد مضطهديها. ومن الواضح أن “الدعم السريع” اضطر إلى تعديل أهدافه الأولية بشكل كبير منذ بدء العمليات، على رغم أنه يرغب بلا شك في الحفاظ على السيطرة على المناطق التي استولى عليها حتى الآن.
قدرات عسكرية
من المتوقع أن تكون المقاومة المسلحة إيجابية في حالة الغزو، وفي حالة الحرب السودانية الحالية إضافة إلى الاضطرار إلى التعامل مع القوى التقليدية في المجتمع، من المحتمل أن تجد قوات “الدعم السريع” نفسها تكافح حتى لا تفقد الأراضي التي استولت عليها، ولذلك ستنتهج طريق حشد “مقاومة شعبية” لصالحها. وتتحدى المقاومة، السلمية والمسلحة، المستمرة في المناطق التي اقتحمتها قوات “الدعم السريع”، السرد الذي يقول إن سلسلة من هجمات الجيش بواسطة الطيران الحربي قد ارتُكبت ضد قواتها. ويقع هذا الهجوم ضمن نمط أوسع من المقاومة المنظمة الموجهة إلى “الدعم السريع” في المناطق التي تم الاستيلاء عليها، أخيراً، ومنها ود مدني.
بالنظر إلى القدرات العسكرية للجيش السوداني، فإن هذه الحرب ومنذ أن بدأت شرارتها، ربما لم يخطط الجيش لتحرير سريع للعاصمة، ثم أجبرته المقاومة الشعبية التي كانت تقف بداية في منطقة وسطى بين الجيش والقوى السياسية التي توجهها لاتخاذ موقف محايد. ثم سرعان ما ظهر الافتقار إلى أي استراتيجية لمواجهة تعديات “الدعم السريع”، والضرب بالطيران الحربي رداً على ذلك من قبل الجيش الذي بدا في فترة ما أنه يحتاج أيضاً إلى استراتيجية يسترد بها المناطق التي سيطرت عليها قوات “الدعم السريع”.
تكلفة الحل
بالنظر إلى الوضع الحالي في السودان، فإن توقع ظهور حالة من المقاومة السلمية سيكون ضعيفاً مع حالة الاحتقان الشعبي، إذ يُتوقع أن تتحول إلى مقاومة عنيفة، تكون بذرة أيضاً لميليشيات قبلية أو جغرافية مناطقية، وبهذا لا يمكن أن تتعايش المقاومة السلمية مع العنيفة، وتتوحد من أجل هدف واحد. وتعبر الجغرافيا السياسية الجديدة لحكومة الأمر الواقع الوشيكة، عن أن السودانيين كمجتمع متماسك ووحدة جغرافية موحدة لم يعد لها وجود.
يبقى الجدل الآن في شأن ما يمكن أن تقع بعض إجراءات المقاومة خارج قواعد القانون، ويعتمد ذلك على مدى فاعلية معظم القوانين وتعريفاتها، وأن تقع قوات المقاومة ضمن تعريف المقاتلين، وليس الإرهابيين، طالما أنها تحترم اتفاقيات جنيف.
بطبيعة الحال، فإن الحلول بيد الجيش المتمثلة في الاستنفار الشعبي يمكن أن توِّلد مشاكل أخرى، ويمكن أن تؤدي من خلال نهج أكثر عدوانية في المناطق التي يسيطر عليها “الدعم السريع”، إلى توليد قضايا أخرى في نهاية المطاف، مما يؤدي بدوره إلى زيادة عزلة السودان وتحوِّله إلى منطقة نزاع دائم. وعلى رغم من السيطرة السابقة لنظام البشير بقبضته القوية على مكافحة الحركات المسلحة المتمردة، فإن استعانة مؤسسة الجيش أيضاً في هذه الحرب بالمقاومة الشعبية، يزيد من تكلفة الحل لإيقافها.