الأعمدة

نُزهة في أشعار صلاح أحمد* : *يازكيَّ الشعر والشعر شعور*

صلاح أحمد إبراهيم نجم خالد في سماء الشعر السوداني ، ومن رواد الشعر الحديث في السودان ، وأحد مؤسسي مدرسة الغابة والصحراء ،وهي تيار ثقافي تأسس في ستينيات القرن الماضي في جامعة الخرطوم ، والتي تخرج فيها شاعرنا صلاح أحمد في كلية الأداب. و يعلي هذا التيار الادبي من قيمة الهوية السودانية كقومية تمتزج فيها العروبة بالافريقية ، والغابة ترمز للبعد الأفريقي، بينما الصحراء ترمز للبعد العربي ، وقد ولد صلاح أحمد في مدينة أم درمان في ديسمبر من العام 1933.
ويمتاز صلاح أحمد بطاقات شعرية جبارة وخيال خصب ولغة مدهشة غذتها ثقافته العالية وتجربتة الإنسانية الثرة ، كتب أجمل قصائده في الرومانسية ، متفردا فيها باستخدامه للميثولوجيا الاغريقية ، كما أجاد في توظيف التراث السوداني ورموزه بأصوله الأفروعربية في عدد من قصائده الجياد ، كتب صلاح أحمد الشعر باللغة الفصحي وبالعامية السودانية ، وأبدع بالكتابة بهما شعرا صادقا نابعا من الشعور ، لهذا وجد صدي طيبا وقبولا في نفوس متذوقي الشعر . أنتج صلاح أحمد أشعارا كثيرة ، خرج بعضها في دواوين شعرية منها : غابة الأبنوس ، وغضبة الهبباي ، ونحن والردي ، ومحاكمة الشاعر للسلطان الجائر ، ويا وطن ، كما أشترك مع صديقه الأديب (علي المك) في إنتاج مجموعة قصصية بعنوان ( البرجوازية الصغيرة) ، وشاركه أيضا في ترجمة كتاب (الأرض الأثمة) لمؤلفه باتريك فان رنزبيرج.
وفي نزهة بين أشعارصلاح أحمد ، أقطف لكم من رائعته (نحن والردي) :
نتركُ الدنيا وفي ذاكرةِ الدنيا لنا ذكرٌ وذِكرًى
من فِعالٍ وخُلُقْ
ولنا إرثٌ من الحكمةِ والحلمِ وحبِّ الكادحين
وولاءٌ، حينما يكذبُ أهليه الأمين
ولنا في خدمة الشعب عرق.
أمسِ قد كنا سُقاةَ القومِ بالكأس المرير
وغدًا يحملنا أبناؤُنا كي نستقي
فالذي تُخلَى له مَضْيَفَةُ الحي سيُدعَى للرحيل
حين يبدو قادمٌ في الأفق
وكلا القائمِ والقادمِ في دفترِها ابنُ سبيل.
أما في الرومانسية ، فكالعهد بشعر صلاح ، فقد أبدع وأجاد ، وقصيدته (قصة من أم درمان) تقف شاهدا علي ذلك ، خاصة ماجاء منها في وصف العيون ، وأقتطع لكم منها:
عيناك وأخضر المكان
وتسمرت عيناي في عينيك
ماعاد المكان أو الزمان
عيناك بسْ
ومسكت قوس كمانتي
عيناك إذ تتألقان
عيناك من عسل المفاتن جرتان
عيناك من سور المحاسن آيتان
عيناك مثل صبيتين
عيناك أروع ماستين
هذا قليل
عيناك أصدق كلمتين
عيناك أسعد لحظتين
هذا أقل
عيناك أنضر روضتين
عيناك أجمل واحتين
ما قلت شئ
عيناك أطهر بركتين من البراءه
نزل الضياء ليستحم بها
فألقى عند ضفتها رداءه
الفتنة العسلية السمراء
والعسل المصفى والهناء
وهناك أغرق نفسه
عجز الخيال
عيناك فوق تخيلي
فوق إنطلاق يراعتي
فوق إنفعال براعتي
عيناك فوق تأملي
ومضيت مأخوذاً وكنت قد اختفيت
من أنت؟ ما أسمك يا جميل؟
وكنت من أي الكواكب قد أتيت
وقد أختفيت
مازلت تملأ خاطري مثل الأريج
كصدى أهازيج الرعاة تلمه خضر المروج
كبقية الحلم الذي ينداح عن صبح بهيج
ومضيت مأخوذاً وكنت قد اختفيت
ومضت ليال كالشهور فما ظهرت ولا أتيت
وأنا أسائل عنك في الليل القمر
وأنا أفتش في ابتسامات الرضا لك عن أثر
في كل ركن سعادة لك عن أثر
في كل نجم خافق
في كل عطر عابق
في كل نور دافق
لك عن أثر .
ولصلاح قصائد رومانسية أخري لاتقل جمالا عن قصيدته( قصة من أم درمان ) ومنها قصيدة (مريا) و التي تفرد فيها صلاح باستخدام الميثولوجيا الأغريقية ، ومنها إخترت لكم :
ليت لي أزميل ” فدياس ” وروحا عبقرية
وأمامي تل مرمر ,
لنحت الفتنة الهوجاء في نفس مقاييسك تمثالا مكبر ,
وجعلت الشعر كالشلال : بعض يلزم الكتف وبعض يتبعثر
وعلى الأهداب ليلا يتعثر
وعلى الأجفان لغزا لايفسر
وعلى الخدين نورا يتكسر
وعلى الأسنان سكر
وفما ـ كالأسد الجوعان ـ زمجر
يرسل الهمس به لحنا معطر
وينادي شفة عطشى وأخرى تتحسر
وعلى الصدر نوافير جحيم تتفجر
وحزاما في مضيق , كلما قلت قصير هو , كان الخصر أصغر
يامريا :
ليت لي أزميل ” فيدياس ” وروحا عبقرية
كنت أبدعتك ياربة حسني بيدي
يامريا :
ليتني في قمة ” الأولمب ” جالس
وحوالي العرائس
وأنا في ذروة الإلهام بين الملهمات
أحتسي خمرة ” باخوس ” النقيه
فإذا ماسرت النشوة في
أتداعى , وأنادي : يابنات
نقروا القيثار في رفق وهاتوا الأغنيات .
وقد ذاعت هذه القصيدة أكثر بعدما غناها الفنان الكبير الراحل (حمد الريح)، كما غني الموسيقار الراحل محمد وردي لصلاح أحمد قصيدة (الطير المهاجر) وهي قصيدة باللغة العامية السودانية ، وهي من أجمل أشعار صلاح الغنائية وزادها حسنا لحن وصوت فنان أفريقيا الأول ، وغني له أيضا الفنان الكبير صلاح بن البادية قصيدة (ياعزه ولدك فيهو سر ) ، كما غني له الهرم الغنائي عثمان حسين قصيدة (العوده الي اليرموك )، و أبدعت فرقة عقد الجلاد الغنائية في إختيار وغناء قصيدته (شين ودشن) ، وهي أيضا بالعامية السودانية ومنها هذه الأبيات :
البسمع فيهم يا أبو مروه
يبادر ليك من غير تأخير
دا اخو الواقفة يعشى الضيف
الحافظ ديمه حقوق الغير
الهدمه مترب وقلبه نظيف.
وإجادة صلاح أحمد لأنواع عديدة من الشعر يعكس موهبته المتفردة وطاقاته الشعرية المتعددة ، وثقافته العالية ، وإمتلاكه ناصية اللغة العربية وأدابها ، مما سهل عليه ترجمة شعوره شعرا باللون الشعري الذي يتناسب مع الموضوع الذي يقرض فيه .
وأخترت لكم من قصيدة (حنين) هذه الرباعيات:
يا طير إن مشيت سلم على حبانى
جيب خبر الوطن يمكن قليبو طرانى
جيب نسام زلالو المنو مره روانى
جيب لمحات جمالو الاصلى مو برانى
عرج على جبال كررى وتوخى يمينك
وفى اطراف مقابر البكرى أحنى جبينك
حلق فوق معالم البقعة متع عينك
وسلم لى على الدايما بسأل وينك
أدخل ليهو بالباب الصغير دامع
وفى حوش التراب أسجد تحية جامع
سلم فى خشوع قول ليهو جيتك راجع
أقلع بين ايديهو الفى ضلوعك ساجع
ولم يكتفي صلاح أحمد ببراعته في الشعر العربي بأنواعه المتعددة والمتعارف عليها في السودان والإقليم ، بل كتب الشعر علي نسق( الهايكو الياباني ) الذي يعتمد في التعبير ، علي عمق و كثافة المعني بمفردات قليلة ،.وهو نوع من الشعر لا قافية له ولا وزن ، حيث تتألف أشعار الهايكو الياباني من بيت واحد فقط ، مكون من سبعة عشر مقطعا ، وقد تنقص الي أربعة عشر أو تزيد الي واحد وثلاثين مقطعا ، وتكتب عادة في ثلاثة أسطر .
وأجاد صلاح أحمد في نظم قصائد علي نسق( الهايكو الياباني)، منها :
النيل وخيرات الأرض هنالك
ومع ذلك…
ومع ذلك…
وقد سخر صلاح أحمد ملكاته الشعرية في التعبير عن مواقفه السياسية ، وله في هذا الباب ارث كبير ملأ الدنيا وشغل الناس ، وكتب عن شعبنا بعد ثورة اكتوبر :
أعرفهم: الضامرين كالسياط
الناشفين من شقا
اللازمين حدهم، الوعرين مرتقى
أعرفهم كأهل بدر شدة، ونجدة، وطلعة، وخلقا
أعرفهم ان غضبوا مثل انفلاق الذرة
أو وثبوا فكهوي الصخرة
أو فتكوا فأسأل الصاعقة
أو زأروا فالحزم ملء الزأرة
الجن لا يحوشهم من شدة التعنت
تسوقهم إلى الردى زغرودة الفتوة
أو هاتف – ولم يسم – يا أبا المروءة
فيأكلون الجمر لا يلوون بالدنية.
ودبج الاشعار في المناضل الأفريقي باتريس لومومبا ، منها هذا المقطع :
معصوب العينين معرى الصدر تدفره رجل السجان
كفاه وراء الظرف التفّ عليهما القيد
كما يلتف على السمك السرطان
وتقدم يمشي معتداً تحسبه يخطب في آلاف
وتحسبه سلطان
في موكب نصر يخطر أبهة كأوز النيل
حواليه العبدان
مرفوع الأنف يقبل سيف الحق
يصلصل في زرد الإيمان
وبحكم إقامة صلاح أحمد خارج أرض الوطن لسنوات طويلة ، فقد تناول في شعره إنفعالات الغربة والحنين الي الوطن في كثير من روائعه ، ومن ذلك الإرث ماخطه عن إنفعالات الغربة في بلاد مقياس الناس فيها بالألوان ، وهي دعوة في ظني لاتقتصر علي الخارج فقط بل هي دعوة للتفكر في حال واقعنا المحلي الذي مازال يمور و يضطرب عصبية ، خاصة من أولئك الذين يدعون النقاء العرقي من السودانيين ، ويميزون علي أساسه داخل السودان ، و من تغرب يعرف أننا كسودانيين علي إختلاف درجات ألواننا سود في نظر البيض ، وآن لمن يدعون النقاء العرقي أن يتطهروا من هذه الجاهلية ، ويتركوا الشقاق بسبب التعدد العرقي ، وأن يلتفوا حول الهوية السودانية ببعديها الأفريقي والعربي ، و التي عبرت عنها شعرا مدرسة الغابة والصحراء ، وكان صلاح أحمد أحد روادها ، ومن الملاحظات أننا كسودانيين نعيش كمجتمع موحد و متجانس علي تعددنا خارج الأوطان أكثر مما نتألف في داخل الوطن ، وقصيدة (إنفعالات في الغربة) تعكس قضية التمييز في بعض المجتمعات علي أساس اللون ، منها أقتطع لكم :
هل يوماً ذقت الجوع مع الغربة؟
والنوم على الأرض الرطبه
الأرض العارية الصلبة
تتوسد ثنى الساعد في البرد الملعون
أني طرفت تثير شكوك عيون
تتسمّع همس القوم، ترى غمز النسوان
وبحدّ بنان يتغوّر جرحك في القلب المطعون
تتحمل لون إهاب نابٍ كالسُّبّه
تتلوى في جنبيك أحاسيسٌ الإنسان
تصيح بقلب مختنق غصان:
وآ ذلّ الاسود في الغربة
في بلد مقياس الناس به الألوان!
ماسبق شذرات من شعر صلاح أحمد ، أما تراثه الفكري والأدبي بشكل عام فغزير ومتنوع ، حيث كتب وترجم مئات المقالات السياسية والأدبية و عشرات القصص القصيرة ، ونشرت مساهماته تلك في عدد من الصحف السودانية والعربية في ذاك الوقت ، وأمثال صلاح أحمد من الأدباء المجيدين قلة يجب أن تفاخر بهم الأمم ، وتهتم بتوثيق تراثهم الأدبي الرفيع ، لان ماتركوه من إرث أدبي رفيع يستحق ذلك ، توفي الشاعر صلاح احمد إبراهيم في مايو من العام 1993 :
رُبَّ شمسٍ غرُبت والبدرُ عنها يُخبر
وزهورٍ قد تلاشت وهي في العطر تعيش
وأختم نزهتي بين أشعار صلاح أحمد بأبيات من رائعته (نحن والردي) :
في غدٍ يعرفُ عنا القادمون
أيَّ حب قد حملناه لهم
في غدٍ يحسبُ فيهم حاسبون
كم أيادٍ أسلفت منا لهم
في غدٍ يحكون عن أنَّاتنا
وعن الآلام في أبياتنا
وعن الجرح الذي غنى لهم
كل جرحٍ في حنايانا يهون
حين يغدو مُلهما يُوحي لهم
جرحُنا دامٍ ونحن الصامتون
حزننا جمٌّ ونحن الصابرون
فابطشي ما شئتِ فينا يا مَنون
كم فتًى في مكة يشبه حمزة؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى