الأعمدة

إضاءات حول الإقتصاد الإبداعي

خصصت الأمم المتحدة العام قبل الماضي عاما للاقتصاد الإبداعي أستجابة لمبادرة إندونيسية و بموافقة من 81 دولة حول العالم ، هذا التأييد الدولي يعكس حجم إهتمام العالم بهذا النموذج الاقتصادي ، حيث تقدر الأمم المتحدة مساهمة الاقتصاد الابداعي بمايعادل 3% من الناتج الإجمالي العالمي ، بقيمة تقدر ب 2.25 تريليون دولار أمريكي سنويا ، وأن هذا النموذج الاقتصادي سيكون أحد المحركات الرئيسية للاقتصاد العالمي ، و يري إقتصاديون أن أثر الاقتصاد الإبداعي أكبر من ذلك بكثير وأن الوعي بتأثير هذا النموذج الاقتصادي علي أهداف التنمية المستدامة مازال محدودا خاصة في دول الجنوب ، وأن الإحصائيات والمعلومات والدراسات حول تاثير الاقتصاد الإبداعي تحتاج الي إهتمام وتجويد أكبر .
والإقتصاد الإبداعي بحسب منظمة اليونسكو و برنامج الأمم المتحدة الإنمائي يوجد في المكان الذي تلتقي فيه الفنون والثقافة والتجارة والتكنولوجيا. و يشير الباحث البريطاني جون هوكنز مؤلف كتاب (الإقتصاد الإبداعي) الصادر في العام 2001 ، الي أن الاقتصاد الإبداعي يقوم علي تفاعل الإبداع البشري وقوانين الملكية الفكرية والمعرفة والتكنولوجيا ، وبحسب هوكنز فأن قائمة أنشطة الإقتصاد الإبداعي تضم الهندسة المعمارية ، والفن ، والحرف اليدوية ، والتصميم ، والإعلان والأزياء ، والأفلام ، والموسيقى ، والفنون المسرحية ، والنشر ، والبحث والتطوير ، والبرمجيات ، والتلفزيون ، و الراديو وألعاب الفيديو .
وتري المنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو) أن الاقتصاد الإبداعي قائم علي إنتاج وتسويق الإبداع المحمي بحقوق الملكية الفكرية ، و الوعي بأهمية حقوق الملكية الفكرية جوهري و ضروري لتطوير الاقتصاد الإبداعي ، وضمان حقوق المبدعين والناشطين إقتصاديا في صناعة الفن والثقافة .
والإهتمام بالاقتصاد الإبداعي حول العالم لا يقتصر علي الدول المتقدمة فقط ، بل زاد الإهتمام بهذا النموذج في عدد من الدول النامية مثل إندونيسيا التي أضافت لوزارة السياحة قطاع الاقتصاد الإبداعي ، وأصبحت تعرف هناك بإسم وزارة السياحة والاقتصاد الإبداعي ، كما حددت إندونيسيا قائمة نشاطات الاقتصاد الابداعي ، وأنشات مؤسسة مختصة بقضايا الاقتصاد الإبداعي تعرف باسم ( الوكالة الإندونيسية للاقتصاد الإبداعي ) وتعني برسم السياسات والتنسيق بين المؤسسات الحكومية بهدف تهيئة الظروف للاقتصاد الإبداعي حتي يصبح دعامة أساسية للاقتصاد الوطني الإندونيسي ، وذلك من خلال تمكين الشركات الإبداعية الاندونيسية علي النمو وزيادة قدراتها التنافسية ، وتنشط تلك الوكالة في ستة محاور هي البحث والتطوير والتعليم ، والحصول على رأس المال ، والبنية التحتية والتسويق والتسهيل ، وتنظيم حقوق الملكية الفكرية ، والعلاقات الحكومية الدولية ، والعلاقات المحلية. وبحسب إحصائيات رسمية فقد حقق الاقتصاد الإبداعي في إندونيسيا في العام 2017 ما يزيد على 7 % من إجمالي الناتج المحلي ، ووظف نحو 15.9 مليون شخص ، وتاثيره علي الاقتصاد الإندونيسي في نمو و تصاعد مستمر كل عام .
والتجربة الإندونيسية ليست الوحيدة أو الأخيره فقد نشطت مؤخرا إمارة دبي في دولة الإمارات العربية المتحدة في الإهتمام بالاقتصاد الإبداعي ورسمت إستراتيجية متكاملة لتعزيز تنوعها الإقتصادي من خلال تطوير وتحرير القدرات الكامنة في الاقتصاد الإبداعي ، وتهدف إمارة دبي من إستراتيجيتها تلك إلى زيادة عدد الشركات والمؤسسات الإبداعية والثقافية لتصل الي عدد 15000 شركة ، لتساهم بما يعادل 5% من إجمالي الناتج المحلي للإمارة ولتخلق 140 ألف وظيفة في قطاعات الاقتصاد الإبداعي المختلفة وذلك بحلول العام 2026 ، وجعل إمارة دبي مركزا للاقتصاد الإبداعي علي مستوي المنطقة والعالم ، وذلك من خلال جذب المبدعين الذين يرغبون في تأسيس أعمالهم الإبداعية ذات الطابع الإقتصادي في دبي عبر منحهم تسهيلات في الإقامة والفيزا الثقافية طويلة الأمد.
وعلي مستوي الاقتصاديات الكبري ، و وفقا للتقارير المنشورة وبيانات مكتب التحليل الاقتصادي في وزارة التجارة الأمريكية لعام 2017 ، فقد بلغ الناتج الإقتصادي في قطاعات الاقتصاد الإبداعي نحو 920 مليار دولار، بمساهمة تقدر ب 4.3 % من إجمالي الناتج المحلي ، فيها نحو 33 مليار دولار فائض تجاري من تصدير الأعمال الفنية والسلع والخدمات الثقافية كالأفلام وألعاب الفيديو .
أما في الصين فقد أسهمت القطاعات الإبداعية بما يزيد على 460 مليار دولار في الاقتصاد الوطني ، أي ما يوازي نحو 4 % من إجمالي الناتج المحلي .
ووفقا لتقديرات 2018 فإن الاقتصاد الإبداعي في بلدان الاتحاد الأوروبي أسهم بما يعادل 5.3 % من إجمالي الناتج المحلي للإتحاد الأوربي ، أي ما يعادل 550 مليار دولار وساهم في خلق 12 مليون وظيفة .
هذه المساهمات المؤثرة للاقتصاد الإبداعي علي مستوي الاقتصاديات الكبري، والاهتمام المتعاظم بتطوير هذا النموذج الاقتصادي علي مستوي الدول النامية يعكس إتجاه العالم نحو تعزيز الاقتصاد الإبداعي باعتباره من أكثر وأسرع القطاعات الاقتصادية نموا في العالم .
وقد ركز المؤتمر العالمي للاقتصاد الإبداعي الذي عقد في دولة الإمارات مطلع ديسمبر 2021 تحت شعار ( إبداع متكامل يصنع المستقبل) على ستة محاور أساسية وهي: إطلاق قدرات التعليم ، وإعادة إبتكار العمل، والتحول التكنولوجي، وتعزيز المشهد الإعلامي وقنوات التواصل، ومستقبل مستدام، والتنوّع والشمول .
كما ناقش المؤتمر في أجندته قضايا دعم الثقافة والصناعات الإبداعية ، و الدعم المالي للمبدعين ، وتوفير التمويل من الحكومات أو القطاع الخاص أو القطاعات المجتمعية ، ودعم ريادة الأعمال للمبدعين، والاهتمام الأكبر بالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة.
فيما أكدت منظمة اليونسكو علي لسان رئيستها ضمن فعاليات المؤتمر العالمي للاقتصاد الابداعي علي أن هناك ثلاثة تحديات ملحة تواجه الاقتصاد الابداعي خاصة في اوقات الازمات مثل ماحدث من تداعيات سالبة علي صناعة الثقافة والفنون والمبدعين إبان جائحة كوفيد 19 , وأول التحديات هو حماية المبدعين وتحسين ظروف الحياة الاقتصادية والاجتماعية لهم ، والتحدي الثاني هو التحول التكنولوجي ورقمنة الثقافة التي تخلق مزيدا من الفرص ومزيدا من التحديات في نفس الوقت ، خاصة فيما يتعلق بقضايا التوزيع ، أما التحدي الثالث فهو الحاجة لبيانات أكثر موثوقية ودقة لفهم التحديات التي تواجه الاقتصاد الإبداعي وقطاع الثقافة بما يضمن رسم السياسات المستقبلية للاقتصاد الإبداعي لتحقيق أهداف التنمية المستدامة.
وقد أشار تقرير الأمم المتحدة حول الإقتصاد الإبداعي في نسخته العربية المنشور في عام 2015 الي عشرة مفاتيح أساسية لنمو الإقتصاد الإبداعي، منها : ضرورة الوعي العام بأنّه إلى جانب الفوائد الاقتصادية يستطيع الاقتصاد الإبداعي أن يولّد قيمة غير نقدية يمكنها أن تسهم كثيراً في تحقيق نمو شامل ومستدام يرتكز على الأفراد والمجتمعات ؛ إضافة الي ضرورة جعل الثقافة أداة تحفيز ودعم لعمليات النمو الاقتصادي والاجتماعي والبيئي ؛ وإبراز الفرص من خلال رسم خارطة الموارد المحلية للاقتصاد الإبداعي ؛ وأكد التقرير علي أهمية تقوية أساس المعرفة من خلال جمع البيانات الدقيقة ؛ و ضرورة البحث في الروابط بين القطاعات الرسمية وغير الرسمية ؛ ولفت التقرير الأممي الانتباه الي اهمية الاستثمار في بناء القدرات المحلّية لتمكين أصحاب المبادرات المحلّية والموظفين الحكوميين وشركات القطاع الخاصّ ؛كما أشار التقرير الي ضرورة تفعيل التعاون الدولي المثمر خاصة بين دول الجنوب من أجل تسهيل التعليم المتبادل ؛ وإدخال الثقافة في برامج النمو الاقتصادية والاجتماعية المحلية.
وقد إتفقت الأراء العلمية حول عناصر السلسلة القيمية المكونة لمنظومة الصناعات الثقافية والإبداعية وهي الابتكار، والإنتاج، والتوزيع، وقنوات النفاذ للمنتجات والخدمات الناتجة من القطاع الابداعي المعين ، و أن تقوية كل عنصر في هذه السلسلة يسهم بشكل فاعل في استدامة النمو ، ومايترتب علي ذلك من أثر إيجابي.
وفي ظل الإهتمام العالمي المتعاظم بالاقتصاد الإبداعي ، لابد للدولة والمجتمع في السودان من تطوير إستراتيجية شاملة تشجع الصناعات الإبداعية والثقافية وذلك من خلال تهيئة البيئة التشريعية و الإستثمارية اللازمة لازدهار الإقتصاد الإبداعي ، وتوفير سبل تمويل مرنة تعمل علي تشجيع المبدعين السودانيين لدمج الإبداع مع الفرص الإستثمارية المتاحة محليا وإقليميا ودوليا لتوليد قيمة إقتصادية وإجتماعية وثقافية ، كما أن الاقتصاد الإبداعي وثيق الصلة بمجالات عديدة كالتجارة والاتصالات ، لهذا لابد من الإهتمام بتطوير البنية التحتية لكل القطاعات المتداخلة في نشاط الاقتصاد الإبداعي. و لابد أن تعبر سياسات الاقتصاد الابداعي عن حاجة ومطلوبات المجتمعات المحلية في قضايا التعليم والهوية الثقافية والبيئة .
ورغما عن وجود أساسيات علمية وعالمية متفق حولها تحفز نمو الاقتصاد الإبداعي لكن هذه الأساسيات لاتنفي البصمة المميزة لكل بلد في موارده الابداعية وميزاته التنافسية القابلة للإستثمار ، وعلينا في السودان إكتشاف مكامن القوة التي يتميز بها إقتصادنا الإبداعي ، ورسم السياسات التي تضمن تطويرها وتقويتها ومعالجة نقاط الضعف ، خاصة مايلي مراجعة و تطوير التشريعات المتعلقة بمنظومة الملكية الفكرية في السودان وتطويرها ، وتصنيف المهن والوظائف العاملة في الاقتصاد الإبداعي ، وتطوير سياسات محفزة للمبدعين ، إضافة إلى وضع معايير تحدد جودة الصناعات الثقافية والإبداعية ، وقياس مؤشرات الأداء ، كخطوات ضرورية للنهوض بالاقتصاد الإبداعي في السودان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى