المنوعات

الصحفي طلحة جبريل يكتب في ذكرى رحيل الطيب صالح

صورة لأول حوار أجريته معه

اليوم في ذكرى رحيل الطيب صالح (17 فبراير 2009) أعيد نشر مقالين، الأول كتبته وما تزال وقتها دمعة في المآقي. والثاني كان في الذكرى الثالثة على رحيله.

 

سيبقى الطيب صالح أمة في كاتب .. وكاتباً في أمة

غادر الطيب صالح الخرطوم في شتاء عام 1953 في رحلة ستمتد أزيد من نصف قرن، وكان ذلك في فبراير (شباط) من تلك السنة، وعاد الطيب صالح إلى السودان فجر يوم جمعة من شهر فبراير (شباط) أيضاً، جثماناً هذه المرة يرافقه شقيقه بشير محمد صالح وصديقه محمود عثمان صالح، ليدفن في مقابر البكري في أم درمان، هذه المدينة التي قال عنها “هي المدينة التي ترنوا إليها باقي بلاد السودان… كان كل واحد منا يجد أن لديه أقارب أو أهلا في أم درمان مكانا ميكروكوزم… لقد بدأت أم درمان تتكون بكيفية طبيعية لكننا كسرناها لسوء الحظ”.
في آخر حديث هاتفي بيننا تحدثنا أيضاً عن أم درمان، وأحسست بفرح غامر عندما قلت له إنني اعوداليها عودة عاطفية هذه المرة، ولم يكن يدور بخلد أحد منا أن الطيب نفسه سيعود جثماناً للمدينة التي درس خلالها المرحلة الثانوية في واحدة من أهم ثلاث مدارس ثانوية في أربعينيات القرن الماضي.
الطيب صالح تلخصه عبارة كتبها هو نفس يصف أحد الكتاب: هو من طراز مبدعين يظهرون في حياة الأمم خلال فترات متباعدة كان كاتبا في أمة أحبها وأحبه كثيرون… وكان أمة في كاتب”.
كان الطيب صالح هو السودان، وكان السودان هو الطيب صالح، لأنه جمع في كتاباته بين قدرات كاتب عملاق، ومبدع مرهف الإحساس، ومفكر عميق الفكر، وإنسان قل أن يجود الزمان بمثيل له.
وعلى الرغم من أن روايته “موسم الهجرة إلى الشمال” اختيرت ضمن أفضل مائة عمل في تاريخ الإنسانية، يقول الطيب بتواضعه الجم “أقول لك صادقاً ليس لدي أي إحساس بأهمية ما كتبت، ولا أحس أنني مهم، هذا ليس تواضعاً لكنها الحقيقة، إذا اعتقد الناس أن ما كتبته مهماً فهذا شأنهم لكنني قطرة في بحر، قصيدة واحدة للمتنبي تساوي كل ما كتبته وأكثر”.
هذا هو الطيب صالح في حقيقته، تلخصه كلمة واحدة “التواضع” ولعل من مفارقات لعبة التواريخ في حياة الطيب صالح، أنه ولد عام 1929، واحتفظ برقم تسعة أيضا وهو يغادر في 17 فبراير عام 2009.
أطلقت والدته عائشة أحمد زكريا عليه اسم “الطيب” بعد أن فقدت اثنين من أشقائه قبل أن يأتي الطيب. كان الناس في قرى شمال السودان، يعتقدون أن “الطيب” اسم تحل به البركة إذا كانت الأسرة تفقد مواليدها، والده محمد صالح أحمد، وأهله يتوزعون ما بين “الدبة” و”العفاض” وهي من قرى منطقة مروي.
عاش الطيب مثل أهله حياة المزارعين. لذلك أعتقد أن بيئة القرية في المجتمع المتساكن والمندمج هي التي ستحفزه بعد ذلك سنوات طويلة على الكتابة.
يقول: “كتبت حتى أقيم جسراً بيني وبين بيئة افتقدتها ولن أعود إليها مرة أخرى”.
عاش الطيب صالح في قريته كما يعيش أهلها، وهو يقول بحنين يبدو جارفاً عن تلك الفترة “في هذه البيئة بدأت مسيرة حياتي، وعلى الرغم من أنني تعرجت في الزمان والمكان بعد ذلك لكن أثر البيئة لا يزال راسخاً في أعماقي، وأعتقد أن الشخص الذي يطلق عليه لفظ كاتب أو مبدع يوجد طفل قابع في أعماقه، والإبداع نفسه فيه البحث عن الطفولة الضائعة. حين كبرت ودخلت في تعقيدات الحياة كان عالم الطفولة بالنسبة لي فردوساً عشت خلاله متحرراً من الهموم، أسرح وأمرح كما شاء لي الله، وأعتقد أنه كان عالماً جميلاً”. “ذلك هو العالم الوحيد الذي أحببته دون تحفظ، وأحسست فيه بسعادة كاملة وما حدث لي لاحقاً كان كله مشوبا بالتوتر…”.
ويكشف الطيب صالح النقاب عن مسألة في غاية الأهمية “كانت قريتي مختلفة تماما عن الأمكنة والمدن الأخرى التي عشت فيها، ولاشك أن هذه المنطقة هي التي خلقت عالمي الروائي”.
انتقل الطيب صالح إلى دراسة المرحلة الوسطى (المتوسطة) في مدينة بورتسودان على البحر الأحمر، بيد أنه ظل مشدوداً إلى قريته “في بورتسودان بدأ يراودني إحساس أن هذا الشيء الجميل الذي تركته خلفي سيضيع”.
في المرحلة الوسطى ستبدأ علاقة الطيب صالح مع اللغة الإنجليزية “حين بدأت تعلم اللغة الإنجليزية اكتشفت مدى حبي لها .. والواضح أن سبب تفوقي في اللغة الإنجليزية كان مرده إلى حبي لهذه اللغة”.
بعد المرحلة الوسطى، سينتقل إلى ام درمان، حيث سيتابع دراسته الثانوية في مدرسة “وادي سيدنا” ولا يخفي الطيب صالح إعجابه بتلك المدرسة “كانت مدرسة وادي سيدنا مدرسة فاخرة، بناها الانجليز بناء باذخاً على غرار أعظم المدارس في انجلترا وكنا ندرس تماماً كما يدرس الإنجليز في مدارس الارستقراطيين في أيتون وهارو”.
كان طموح الطيب صالح أن يدرس في كلية الزراعة بعد المرحلة الثانوية، ولعله في ذلك بدا متأثرا وشديد الانجذاب الى بيئته الزراعية، بيد أن الميولات الأدبية أيضاً كانت حاضرة وهو يفكر في دراسته الجامعية “كنت أفكر في دراسة الآداب، حتى مستر لانغ ناظر مدرسة وادي سيدنا الثانوية شجعني على دخول كلية الآداب، لكن كانت تستهويني دراسة الزراعة إذ بدت لي مسألة رومانتيكية”.
بيد أن الطيب صالح الذي التحق بكلية الخرطوم الجامعية (جامعة الخرطوم) عام 1949، سيقرر ترك الجامعة برمتها عندما وجد أن السنة الأولى في كلية العلوم التي ستقوده بعد ذلك إلى دراسة الزراعة تتطلب منه تشريح الصراصير والفئران، ونفر من هذه الأمور وقرر قطع دراسته الجامعية حيث التحق بالتدريس، ليدرس اللغة الإنجليزية في مدينة رفاعة في وسط السودان .
وعلى الرغم من أن الطيب صالح كان يرغب في العودة إلى الجامعة من جديد لاستكمال دراسته الجامعية في كلية الآداب، بيد أن إعلاناً من هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) يطلب مذيعين ومحررين ومترجمين سودانيين، قلب حياته رأساً على عقب .
تلك التجربة القاسية لشاب عمره 24 سنة فقط، هي التي ستمنحنا كاتباً وروائياً عالمياً، لأن الطيب كتب كما يقول « لأقيم جسراً بيني وبين بيئة افتقدتها دون سبب ».
لم يكن الطيب صالح سعيداً على الإطلاق في هجرته إلى لندن “جئت إلى بلد لم أكن أرغب فيه، لأعمل عملاً هو كذلك ليست لي رغبة فيه…تركت الأهل والأحباب والدور الفسيحة والتواصل الاجتماعي لأجد نفسي داخل غرفة صغيرة برودتها لا تطاق في بلد غريب بين قوم غرباء”.
اهتم الطيب صالح خلال سنواته الأولى في بريطانيا بالمسرح، وقرأ كتباً كثيرة في الأدب والفن والتاريخ والاجتماع، وفي السياسة وجد نفسه ميالاً للاشتراكية العمالية، واندمج في حياة لندن وتزوج من زوجته جولي ماكلين، وهي إسكتلندية، ورزق منها بناته زينب وسارة وسميرة.
بدأت علاقة الطيب صالح مع الكتابة في وقت مبكر، عكس ماهو رائج، إذ كتب أول قصة قصيرة عام 1953، بعنوان “نخلة على الجدول” ستنشر لاحقاً ضمن المجموعة القصصية “دومة ود حامد”.
يقول عنها الطيب صالح “قصة بسيطة كتبتها ببساطة شديدة جداً… كانت القصة تعبيراً عن حنين للبيئة ومحاولة لاستحضار تلك البيئة”.
وبعد “نخلة على الجدول” لم يكتب الطيب صالح طوال سبع سنوات حرفاً واحداً،ثم كتب “حفنة تمر” ثم “دومة ود حامد” ونشرتها مجلة “انكونتر” الأدبية الإنجليزية التي كانت آنذاك زوبعة ثقافية، واعتبر تلك المجلة لقصة الطيب صالح، هو بمثابة الميلاد الحقيقي لأديب عالمي . في عام 1964 كتب الطيب صالح روايته الاولى “عرس الزين” وفي عام 1966 كتب روايته ذائعة الصيت “موسم الهجرة إلى الشمال”.
كثيرون يعتقدون أن مصطفى سعيد بطل موسم الهجرة إلى الشمال فيه بعض ملامح الطيب صالح نفسه ، في هذا السياق يقول الطيب “الذي يطرح أفكاره على الناس علناً عليه أن يتحمل تبعات ذلك، لذلك لا يزعجني أحياناً حين يسألني بعض الناس هل مصطفى سعيد يشكل جزءاً من سيرتي الذاتية”. ويضيف “يبدو لي أحياناً أن البشرية تائهة وأنا تائه معها، لذلك لا أطالب الناس بأن تفهمني كما أريد، الكاتب نفسه لا يعرف ماذا يقول وماذا يكتب”.
قبل أن يرقد الطيب صالح رقدته الأبدية تحت سماء السودان الصافية التي تعج بالنجوم، سيقول المشيعون “جنازة رجل” قبل الصلاة عليه.
لكن، أي رجل سيوارى الثرى، الرجل الذي جعلنا نقول باعتزاز “نحن من بلد الطيب صالح”.
أما أنا شخصياً لذي اعتقدت دائماً أن مجرد وجود الطيب صالح في هذه الدنيا يجعلها خيرة، في هذه اللحظات التي تطفح بالمشاعر أقول صادقاً إن أحزاني فاضت وفاضت .
عندما قال لي شقيقه بشير هو يعتقد أنك أفضل من ستكتب عنه، بقيت ساعات في حالة ذهول وفجيعة، وسط دموع رجوت أن أغلبها ولا تغلبني .
ما أوسع الحزن وما أضيق الكلمات .
كان الطيب صالح في حياته أكبر من الحياة وسيظل الطيب صالح في موته أكبر من الموت.

صورة أخرى مع الراحل الطيب صالح رفقة ابنتي رؤى وسلمى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى