الأعمدة

إيدلوجيا العنف .. لم تعد فاتنة !

الأيديولوجيا في أبسط معانيها ، تدّعي أنّ لديها جواباً لكل سؤال في الحياة ، ومن هنا وصفها الدكتور كمال حبيب في كتابه الذي تتبع فيه سير كتابات المتشددين الإسلاميين وأفكارهم ونظرياتهم التي أسسوا عليها أفكار الردة الجماعية والتكفير ، بالفاتنة ، حيث تجذب بأفكارها ونظرياتها الشباب المسلم المتحمس لدينه ، إلى جانب أن الأيدلوجيا ( أي أيدلوجيا) ترى في ذاتها المالك الأوحد للحقيقة ، والإنفراد بالحقيقة يولد اليقين ، والأخير ، بالضرورة ، يجعل صاحبه يقف عند الزمن لا يتحرك إلأ بمقدار ما يؤكد يقينه (ص66)، ويجعل صاحبه في غير حاجة إلى البحث والتقصي ، للإجابة عن الأسئلة الكبرى التي يطرحها السياق الاجتماعي ـ السياسي للواقع المعاش ، في ظل ثقافة سمعية منتشرة ، خصوصا ما يتعلق منها بالهوية التي تعتبرها الإيدلوجية منصة الإنطلاق نحو تحقيق المجتمع المثالي .. أيديولوجيا يراها الشباب ، ممشوقة القوام على أفكار واجتهادات “بشرية” ، لها سحرها في الدنيا والآخرة ، تقرب المسافات بينها وبين العقيدة إلى درجة الإندماج والتوحد ، ويصبح كل من لا يسير على نهج الأيديولوجية ، في نظر أصحابها بلا عقيدة ويخرج عن الملة ، ما يستوجب إقامة الحد عليه.
عشرة كتب أشار إليها الكاتب بالشرح والنقد ، كانت السبب المباشر في الإندماج بين العقيدة (الدين) والأيديولوجيا (اجتهاد بشري) حيث سعت الأخيرة ، كما يشير المؤلف في كتابه (ص 178) ، إلى أن تلك الكتب جعلت أفكارها المركزية هي الحاكمة على منظومة الدين .
بيد أن ما يضع المُؤّلف (الايدلوجيا الفاتنة) في مكانة علمية قيمة ، ليس فقط الجهد الهائل الذي بذله الدكتور كمال حبيب لتتبع سير تلك الكتب العشرة بالبحث والتمحيص والنقد ، إنما أيضا رسم للجمهور (غير المتخصص) دورة حياة العنف والتشدد لما اتفق على تسميته بتيار الإسلام السياسي الذي كان مولده على يد أبي الأعلى المودودي ( هندي ـ باكستاني) ، بفكرة الحاكمية السياسية ، ثم تعلم المشى على ظلال سيد قطب بمفهوم الجاهلية ، ثم دخل “الكُتاب” وعاش مرحلة الصبا مع صالح سرية ورسالته “ألإيمان” التي حكم فيها على المسلمين بالردة الجماعية ، ووضع لائحة للتكفير ، وصفها الدكتور كمال حبيب بالمريعة والمخيفة ، بعد ذلك كبرت ايدلوجيا التكفير ، وبلغت مرحلة الشباب والفتوة ، ودخلت “مدرسة ” أفغانستان التى تعلم فيها الشباب المسلم مناهج الدموية والوحشية وتكفير جميع المسلمين الذين يرتضوا العيش في ديار الكفار.

 

دورة حياة التكفير ، بدت للدكتوركمال في مؤلفه القيم “الإيدلوجيا الفاتنة” مثل السلم ، أولى درجاته الحاكمية عند المودودي ، ثم أخذت بالتصاعد والتشدد والعنف والوحشية حتى بلغت منتهاها (كما يقول المؤلف) مع داعش، التي تبنت فكرة “إدارة التوحش” التي اتجهت بعنفها وتدميرها إلى المجتمع ذاته لتفكيكه ومن ثم افتراسه
الكتاب يضعنا أمام حقائق لا يمكن الفكاك منها :
ـ من أهم النتائج التي توصل إليها البحث الاستقصائي الذي قدمه حبيب في “الأيديولوجيا الفاتنة” أن نظريات التكفير عموما ، عبر الكتب العشرة، جردت الدين من قدسيته وحولته إلى مساحة للتلاعب والتوظيف والتخليق (بوصف الكاتب)
ـ تنظيمات العنف والقتل تسعى إلى بناء عالمها الموهوم الذي يستعيد ماضيا لا يمكن بعثه من جديد ، وتحاول القفز على الحاضر بالرجوع إلى الماضي ، فكان قفزة في الظلام.
ـ أيدلوجيا العنف والتكفير انطلقت من فكرة الحاكمية لأبو الأعلى المودودي ولم تغادرها ، ما جعل من السياسة ، في نظر الكتب العشرة المؤسسة للعنف الديني، الوعاء الأكبر للدين والحياة بكل تفاصيلها ، وأن العلاقة بين العبد وربه هي علاقة قائمة على مفهوم السلطة والسيادة بشكل أساسي ، ومن ثم نزع كل سلطة على الأرض ، فالسلطة لله وحده.
ـ انتهى الكتاب إلى ضمن ما انتهى إليه من استنتاجات واستدلالات إلى أن جميع تنظيمات العنف ليس لديها مشروع للمستقبل .
أخيرا يبقى السؤال:
دورة حياة الحركات والتتنظيمات الإسلامية المتشدد ، بدت وكأنها شاخت عند مرحلة الشباب ، بعد مرور أكثر من نصف قرن على مولدها ، وتحديدا منذ أحداث الكلية الفنية العسكرية (صالح سرية) ، وتوقف نموها عند داعش ، فهل ينجح الدكتور كمال حبيب ، ومجددو الخطاب الديني في إنقاذ “الإحياء الإسلامي” من حالة الموت السريري الذي تعيشه الآن ، بما يبعث لها الحياة من جديد والانتقال من مرحلة “الشباب والفتوة” إلى مرحلة “الرجولة” و”الشيخوخة” اللتين يمكن الرهان عليهما لإعمال العقل والبحث وتصحيح المسار؟ .. قد تكون مؤلفات المجددين أمثال الدكتور كمال حبيب وما سبقوه ، وما سيلحقوه ، فاتحة خير ، إلا أنها لن تعدو أكثر من “إرهاصات” في ظل سياق اجتماعي ـ سياسي عام يقف حائلا دون تحويل تلك الإرهاصات إلى واقع على الأرض، خصوصا في ظل هيمنة الحلول الأمنية على ما عداها ، ما يحول دون انتظام حركة التجديد الإسلامي ، في تيار اجتماعي يدعو إلى التحرر من سطوة السياسة على الدين.. لقد هرمت أيديولجيا العنف وفقدت سحرها وفتنتها .
أحمد عادل هاشم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى