دمار كبير وخسائر لاتقدر بثمن في الإذاعة والتلفزيون
مجرد سيطرة قـوات الدعـم السـ.ريع على مبنى الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون كانت التوقعات لدى الكثيرين بإذاعة بيان الانقلاب، وإعلان حكومتها أو توضيح أسباب الخلاف التي أدت لنشوب الحرب بين “شريكي الانقلاب”، أو استخدام هذا الجهاز للترويج عن انتصاراتهم التي حققوها خلال أيام طالما كانوا يلتقطون الصور والمقاطع عبر هواتفهم الخاصة.
لكن ما حدث غير ذلك، إذ حولت قـ.وات الدعـ.م السـ.ريع، الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون وما جاورها من مؤسسات ثقافية، مثل، المسرح القوم ومسرح الفنون الشعبية، وغيرها إلى ثكنة عسكرية حيث فرضت قـ.وات الدعـ.م السـ.ريع سيطرتها على كل المنطقة وأجزاء واسعة من أمدرمان لقرابة العشرة أشهر، حتى بدأ الجيش السوداني في استعادة المنطقة وأخيرًا الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون.
أثناء المعارك بين الطرفين التي استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة والخفيفة طوال هذه الفترة كانت المخاوف لدى السودانيين وخاصة العاملين في الهيئة، من تعرض مكتبة وأرشيف الإذاعة والتلفزيون، لأي محاولات اتلاف أو تخريب، باعتبارها تمثل تاريخ وذاكرة الشعب السوداني.
حديث مؤلم:
ووصف الفنان والممثل المعروف عبد الرحمن الشبلي وجود العساكر في تلك المنطقة بمصدة عنيفة للفنانيين من الولوج لساحات إبداعهم، ويقول لازالت هذه الحيشان ثكنة عسكرية، وعبر عن أمله أن تنزاح هذه الغمة وأن يعود لهذه المناطق ألقها وتعود لإبداعها وعطائها الفني فهي المناط بها تغيير السلوك وبناء الإنسان وترميم جدارات الوطن التي أهلكتها القذائف والتصريحات الخرقاء.
وعبر الشبلي عن حزنه الشديد إلى أن الحديث عن الحيشان الثلاثة، المسرح والإذاعة والتلفزيون، حديث مؤلم لسنين خلت، ويقول لـ”راديو دبنقا”، أن الحيشان الثلاثة من وقت مبكر صارت ثكنات عكسرية، وامتدت حتى لمسرح الفنون الشعبية ومحطة الأقمار الصناعية، كل المنطقة من وقت مبكر جدا أصبحت مدججة بالسلاح والدبابات.
وعبر عن أسفه لأن المجموعة العسكرية المتواجدة هناك، ضيقت على المسرحيين والإعلاميين الموجودين في هذه المنطقة وأخرت كثير من نشاطهم ويقول إنّ الفنانين والإعلاميين احتجوا على هذا الوضع لكن لم يجدوا أذن صاغية من أي مسؤول يستمع لشكواهم، وتأسف أكثر أنهم استباحوا تلك المساحة بطريقة خرقاء.
ويقول بحزن شديد كل تلك الممارسات لم يحرك المسؤولين ولم يدفعهم لإصلاح هذا الوضع، ويذكر بأن هذه الحيشان معروف بأنها تمثل بداية انطلاق أي انقلاب لذلك يمتلكهم الخوف من أي انقلاب، لذلك كانوا مستقرين في هذه المنطقة.
وما زاد غضب الممثل الكبير عبد الرحمن الشبلي أن مكنت حكومة الأمر الواقع، على حد تعبيره، عناصر قوات الدعم السريع من التواجد بكثافة في هذه المنطقة وصارت لهم الكلمة العليا حتى على مدراء هذه الحيشان، ويقول إن العاملين في هذه الحيشان زهدوا من العمل في هذه المؤسسات. وقلَّ الانتاج الفني والدرامي وخبت المواهب، وانطفأ لمعانها والفنانين والاعلاميين كانوا محبطين جدًا وأصبح صعب عليهم الدخول والخروج من هذه المنطقة، وكان وجود هذه العناصر العسكرية مشكلة كبيرة في منطقة أساسًا مخصصة للإبداع والثقافة الفنون. وهم كعسكر بعيدين عن الجانب الابداعي ولا يحتاجوا له إلا في احتفالاتهم. ويشير إلى أن العسكر ليس لديهم اهتمام بهذا الجانب ويعتبروا الثقافة والفنون كماليات وغير مرحب بها لديهم.
تاريخ حياة ولكن..
يعتقد الكاتب الصحفي ومعد ومقدم برنامج “نجوم بعيدة” نجيب نور الدين أن الإشارة إلى الأرشيف أو المكتبة الصوتية الإذاعية أوالتلفزيونية، لأهميتها باعتبارها تمثل تاريخ حياة وذاكرة ووجدان الشعب السوداني
ويقول لـ”راديو دبنقا” أن الإذاعة كانت تحفظ كل المناسبات السياسية والثقافية والفنية وحتى حفلات المسرح القومي كانت تنقل وتسجل في الإذاعة، ويشير إلى حدث مشابه لما تعرضت له الهيئة بقوله لقد اتنكبت الإذاعة في الستينات بحريق اشتهر بحريق الإذاعة، التهم عدد كبير من الاسطوانات وأشرطة الفيلي التي كانت تعمل في الإذاعة والتلفزيون لفترات طويلة جدًا، قبل أن تتحول إلى تقنية رقمية حديثُا، وظل الناس يحتفظون بالتسجيلات القديمة في الأشرطة في التلفزيون والإذاعة، ومازالت موجودة لكنها أيضًا تعرضت للتخزين السيئ، وفقدت الدولة كثير من هذه الثروة المهمة.
مع مخاوفه من ضياع وتلف المكتبة الإذاعية والتلفزيونية يرى نجيب نور الدين أن هنالك أصلاً إهمال متوارث عبر الأجيال، داخل الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون، ويحمل المسؤولين في الإعلام أوفي القطاعين بالهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون بالدرجة الأولى هذا الإهمال ويقول أنهم لفترات طويلة لم يعيروا المكتبة أو الأرشيف في الهيئة أي اهتمام، باعتبارها إرث قومي مهم جدًا الحفاظ عليه ، ويدلل على ذلك بأنه تعامل مع مكتبة التلفزيون وعانى معاناة شديدة في البحث عن مواد هي موجودة لكن لا يمكن أن تصل إليها بسهولة.
إهمال متوارث:
ويشير الكاتب الصحفي إلى أنه في كل الإذاعات العالمية والعربية وحتى في مصر القريبة لا يوجد ما يعرف بضياع أو تلف مواد أو اسطوانات، هذه ثروة تعتبر مرجعًا لذاكرة الشعوب يعودوا إليها باعتباره تاريخ حياة كاملة في السودان شمل السياسيين والمبدعين والفنانين والممثلين.
ويتحدث نجيب نورالدين بحسرة ويقول إن هذا الأمر محزن جدًا بأن ضاعت مواد لها قيمة تاريخية ومهمة جدًا ضاعت تمامًا، لم يكن هنالك حرص على نقلها إلى دار الوثائق أو نسخها بنسخ تحفظ في دار الوثائق حتى لا تضيع فضاعت في مكتبة الإذاعة والتلفزيون نفسها، ويقول: يتعاقب المدراء والمسؤولين والفنيين على مواقعهم وواحدًا تلو الآخر على هذه المكتبات، ولم يعيروا هذه المكتبات أي اهتمام ولم يكن هنالك أي نظرة، أو فهم أو ثقافة للحفاظ بالتاريخ السوداني في المستقبل، حتى اليوم مكتبة الإذاعة القديمة التي حاولوا نسخها إلى رقمية تم نقل كثير منها وهذا أيضًا توقف لفترات ثم توقف لعام كامل. والمكتبة التي فيها الأشرطة موجودة في ظروف تخزين سيئة جدًا يمكن أن تكون قد تلفت معظمها إن لم تكن قد تلفت بالكامل.
يبقى من المهم جدًا الحديث ليس الإشارة إلى قيمة هذه المواد فقط بل الغياب الكامل للمسؤولين في الأجهزة الإعلامية من وزارة الإعلام للأرشيف القومي وغيره، أنهم أهملوا ما تم حفظه منذ الأربعينات أو الخمسينات من أسطوانات إلى أجهزة كاسيت أو رقمية، لم يهتم أحد بهذا الكم الهائل بالثقافة السودانية التي تم بثها عبر هذه الأجهزة.
ويعتقد أن وجود المسرح والإذاعة والتلفزيون في مكان واحد اقتضته ظروف تلقائية جدًا لكن الإذاعة لكنها كانت مفيدةّ جداّ لأن الإذاعة، كانت مكان الفنانين والموسيقيين ومكان صراعات الدراما وغيره، وأصبح نفس الأشخاص الذين يمثلوا في الإذاعة ينتقلوا إلى المسرح.
ويرى أن وجود هذه المنظومة مع بعضها شكلت أيقونة أو كأنه اتحاد كامل لهذه القنوات المهمة، فالإذاعة كانت تفرخ إلى المسرح والتلفزيون والتلفزيون نفسه بدأ بثه الأول من استديوهات الإذاعة، فنفس الفنيين والممثلين والإذاعيين هم الذين ينتقلوا من الإذاعة إلى التلفزيون في العام 1963 وكانوا يعملون في كلا القناتين، الإذاعية والتلفزيونية.
نجوم بعيدة:
ولم يتوقف الأمر على ذلك إذ يتذكر صاحب برنامج “نجوم بعيدة” تجربة أحزنته جدًا أثناء استضافته لسهرة إذاعية مع البروفسير علي شمو عن تاريخ ونشأة الإذاعة السودانية، عبر برنامجه الشهير “نجوم بعيدة” الذي كان من إعداده وتقديمه، يقول نجيب أن البرنامج استمر لمدة 3 ساعات، في أثناء الحلقة احتاج لمقطع لتسجيل مع اللاعب الشهير نصر الدين عباس جكسا، وكان قد سجل معه هو الآخر حلقة لنفس البرنامج، وكان المقطع يتعلق بمباريات اللاعب جكسا ومن ضمنها المباراة الشهيرة التي توجت السودان بطلًا لإفريقيا وجكسا كان لاعبًا في هذه المبارة، فكان يريد، نجيب، حديث لأحد المعلقين طه حمدتو أو أحد المعلقين ليضيفها مع جكسا في تاريخه الكروي في السودان لكن فشل في ذلك وكان حزين جداً، لأن إدارة التلفزيون قامت بمسح هذه الأشرطة نهائياً، لتسجيل اللقاء الشهري للرئيس جعفر نميري، وكانوا في العادة حينما يحدث عجز في الأشرطة أو “تنتهي الكوتة”، يأخذون أي شريط فيه أي نوع من المواد ويقومون بمسحها لتسجيل مادة أخرى عليها. فمباريات كأس إفريقيا التي تمت في السودان تم مسحها جيمعًا بهذه الطريقة وخاصة المباراة النهائية تم مسحها ليتم تسجيل اللقاء الشهري للنميري.
فيما يتعلق بتغير الحكم في السودان وتأثير تلك الأجهزة في التغيير، يقول إنَّ القنوات التي شكلت السودان وأحدثت أثر في الوجدان وفي توحيد السودانيين كانت هي الإذاعة وبعدها التلفزيون، هذا كله فيه تاريخ وحتى العمل السياسي كان يتم عبر الإذاعة ومن يسيطر على الإذاعة والتلفزيون كانوا يسيطروا على الحكم لأنه هذه هي القنوات التي من خلالها تبث رسالتك للشعب وممكن تأثر فيها على الناس وهي لديها مصداقية لدى السودانيين. من قمة الهرم تبدأ سلطة، سياسة، ثقافة وفنون كل شئ يمكن أن نقول عليه بأنه وجدان سوداني تشكل عبر الإذاعة ثم التلفزيون في الستينات وهي ثروة ضخمة جدًا أتمنى أن يكون ما تبقى موجود تبحث الناس عنه.
خلفية تاريخية:
يقول الصحفي الإعلامي بالإذاعة السودانية من المؤكد أن مبنى الإذاعة والتلفزيون، المسرح، الفنون الشعبية وقناة النيل الأزرق وكل هذه المنطقة داخل نفس “الحيشان” في الملازمين على نهر النيل، وهي منطقة النشاط الإعلامي القديم وقد بدأ بالإذاعة ولحق بها المسرح وكانت حفلات المسرح تقام في حوش الإذاعة، وهو الحوش الأخير الذي انتقلت إليه الإذاعة من مبنى في بيت المال، والمبنى الأول الذي انطلقت منه الإذاعة 1940 بحي الملازمين في الخمسينات، الراديو كان يبث من مباني البوستة في أمدرمان.
التلفزيون كان في فندق تابع لإدارة الاستعلامات والعمل لوزارة الإعلام وكان تنزل فيه الفرق الأجنبية والسودانية، وتأتي من الأقاليم للمشاركة في الاحتفالات التي كانت تقام في المسرح القومي من فترة لأخرى، تحول جزء منها في البداية في سطح المبنى في الطابق الثاني من الفندق المطل على النيل، بدأ فيه التلفزيون في نهايات 62 و1963، قبل أن يكون هنالك تسجيلات كان البث في التلفزيون مباشر. واستمر لفترة طويلة.