المحكمة الجنائية ومطاردة المطلوبين في السودان
يبدو أن قرارات الرئيس المعزول عمر البشير بعدم تسليم أي مطلوب للمحكمة الجنائية الدولية مازالت سارية، بل وملزمة للحكومة الحالية، حيث تواجه المحكمة الجنائية الدولية عقبات كبيرة في الوصول لتفاهمات مع الحكومة بشأن تسليم المطلوبين وتسهيل تحركاتها ومنح ممثليها تأشيرات دخول للبلاد لمتابعة ملف المطلوبين ونشر محققين آخرين في ولايات دارفور للتحقيق في جرائم ارتكبت أُثناء الحرب الدائرة الآن بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
أنهى وفد المحكمة الجنائية الدولية زيارة إلى بورتسودان الأسبوع الماضي تتعلق بهذا الامر. ويؤكد خبراء وقانونيون أن الحكومة السودانية لن تسلم الرئيس المعزول وأعوانه للمحكمة الجنائية، بل وتوفر لهم الحماية، بينما يرى البعض أنه ليس هناك سبب يمنعها من تسليم المطلوبين.
وتجاهل الرئيس السابق البشير مذكرات التوقيف الدولية الصادرة بحقه. منذ عامي 2009 و2010، حيث أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أمرين بإلقاء القبض عليه، بتهم جرائم حرب وإبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية منذ بداية الصراع في دارفور التي قُتل فيها أكثر من 300 ألف شخص، حسب تقديرات الأمم المتحدة حتى العام 2008.
مماطلة متعمدة:
ويقول عبد الخالق النويري المحامي لـ”راديو دبنقا” إنّ “سلطة الأمر الواقع” تماطل في تسليم البشير وأعوانه للمحكمة الجنائية الدولية لعدم إيمانها بالعدالة ويؤكد على أنهم لا يحترمون القانون من أساسه. وعزا ذلك إلى أنها تحمي منسوبيها، المطلوبين للمحكمة الجنائية، باعتبارهم جزءاً من اللجنة الأمنية للرئيس المخلوع.
ويضيف بأن سلطات المدعي العام للمحكمة الجنائية تبدأ بأن يلجأ للإجراءات الأولية والمتمثلة في مقابلة الدولة والمسؤولين وجهات الاختصاص، وإذا وجد هنالك معيقات من الدولة وعدم رغبة في التعاون فسيرفع تقريره لمجلس الأمن.
عصبية عسكرية:
لكن خبير القانون الدولي نبيل أديب المحامي يرى في حديثه لـ “راديو دبنقا” أنه ليس هنالك سبب يمنع الحكومة السودانية من التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، ويرجح أن السبب الوحيد في عدم التعاون، هو ما وصفه بالعصبية العسكرية ويقول أن العسكريين يعتقدون أنه لا يجوز لهم تسليم من عمل كقائد عام وأعلى للجيش لجهة أجنبية، ولكن هذا رأي غير سليم.
ويعتقد أن الموقف الصحيح أن هذه المحكمة ليست جهة أجنبية بالمعنى فهي محكمة جنائية دولية وليست تابعة لدولة معينة، وبالتالي فإن الخضوع لها لا يقلل من مقام الجيش السوداني بالعكس يرفع من قدره باعتباره يؤمن بمبدأ المحاسبة وهو مبدأ عالمي.
وأعتبر أديب أن الإحالة التي تمت من قبل مجلس الأمن الدولي للمدعي العام للمحكمة الجنائية للتحقيق في جرائم حرب ارتكبت في دارفور، وبالتالي منح التأشيرات لازال ساري المفعول بالنسبة لقضية دارفور. ويشير إلى أن منحهم التأشيرات متسق مع اختصاصهم بالتحقيق في ما يجري في دارفور الآن.
وحول جرائم الحرب التي ارتكبت حاليا في كل السودان رد الخبير القانوني نبيل أديب بقوله أن الوضع الحالي لا يسمح للمحكمة بالتحقيق في الجرائم التي وقعت خارج إطار إقليم دارفور، باعتبار أن تفويض من مجلس الأمن لا يشملها، لكنه ذكر بأنه طالب بانضمام السودان للمحكمة الجنائية الدولية وعبر عن اعتقاده بأن الموضوع أصبح ملحًا الآن، وتابع “وعلى السودان الآن الانضمام للمحكمة و في هذه الحالة يكون للمدعي العام للمحكمة سلطة التحري فيما يجري من جرائم حرب خارج إطار إقليم دارفور.”
حماية الشعب:
تغير موقف الحكومة السودانية إلى حد ما، من رفض التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية إلى السماح لوفدها بزيارة السودان، والوعد بالاستجابة لمطالباتهم بمنح تأشيرات وتسهيل إجراءاتهم وذلك لتمكينهم من التحقيق في الجرائم التي ترتكبها قوات الدعم السريع، وبالتالي إدانة قياداتها بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية ووصف البعض ان هذا التغير بازدواجية المعايير.
ووقعت المحكمة الجنائية في أغسطس 2021 مذكرة تعاون مع الحكومة المدنية الانتقالية برئاسة د. عبد الله حمدوك التي أطاح بها رئيس مجلس السيادة والقائد العام للجيش السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان عبر انقلاب عسكري في 25 أكتوبر 2021.
غير أن الخبير القانوني نبيل أديب يرى أنه لا توجد ازدواجية في المعايير ولا اعتقد أن الإشارة للقيادة الحالية للجيش باعتبارها اللجنة الأمنية للرئيس المخلوع عمر البشير امر صحيح، فالقيادة الحالية للجيش هي التي انتزعت السلطة من البشير وقد فعلت ذلك تماشيًا مع مطالب الشعب السوداني، لأن البشير أمر بإطلاق النار على المعتصمين أمام القيادة العامة.
الواجب الأساسي للدولة هو حماية الشعب، وفقًا لأديب وليس الإضرار به وإذا ارتكبت إحدى جرائم الحرب في مواجهة الشعب، فإنَّ هذا مدعاة لتدخل مجلس الأمن واصدار قرار بالتدخل العسكري وهذا هو مبدأ الحماية وبالتالي ينطبق على الوضع أثناء الثورة في حصار المعتصمين أمام القيادة، وكان البشير ينوي أن يفضه بالقوة أي ارتكاب جريمة ضد الإنسانية، لكن القيادة الحالية للجيش أسقطت البشير وألقت عليه القبض.
المسألة المتعلقة بإحالة المطلوبين للعدالة الجنائية الدولية هذا الموقف يتسق مع الموقف الذي اتخذته القيادة الحالية للجيش حين أطاحت بالبشير.
وبين عامي 2007 – 2012، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف بحق الرئيس المخلوع، عمر البشير ووزير الدفاع الأسبق، عبد الرحيم محمد حسين، والقيادي بحزب المؤتمر الوطني المحلول، أحمد هارون، وقائد المليشيات السابق علي كوشيب والقائد العام السابق لحركة العدل والمساواة عبد الله بندة.
احترام النظام القضائي:
أما المحامي والمدافع عن حقوق الإنسان محمد بدوي فيقول لـ “ردايو دبنقا” بالنسبة للمحكمة الجنائية الدولية حسب تكوينها وطبيعتها هي عدالة تكميلية تقوم على مبدأ التعاون مع الدول والولاية الاساسية تبقى للقضاء الوطني، وهذا التعاون فيما يتعلق بتسليم المجرمين حتى اجراء المحاكمات.
ويقول بدوي إن ظرف الحرب قاهر لكن في سياق آخر كان من واجب على المحكمة الاجتهاد في مطالبة طرفي الحرب بتحديد مكان المطلوبين وضمان احتجازهم وسلامتهم وتسليمهم للمحكمة الجنائية الدولية.
مناطق خارج سيطرة الحكومة:
في يوليو من العام الماضي أعلن المدعي العام فتح تحقيق جديد بناءً على التفويض الممنوح للمحكمة الجنائية في دارفور. وقال كريم خان، إن هناك عمليات نهب وحرق منازل وإعدامات خارج نطاق القضاء وغيرها من الجرائم.
وحال أوفت الحكومة بوعودها بمنح التأشيرات لوفود وفرق المحكمة الجنائية فإن العقبة التي ستواجه المحكمة، هي كيفية الوصول إلى مناطق خارج سيطرة الحكومة وبالتالي المعني بالتحقيق هي قوات الدعم السريع المتهمة بارتكاب جرائم حرب هنالك مما يضع المحكمة أمام نفس التحديات التي تواجهها من طرف الحكومة.
ويقول محمد بدوي المحامي في هذا الصدد لـ”راديو دبنقا” إنه يمكن أن تصل فرق التحقيق التابعة للمحكمة إلى المناطق التي وقعت فيها الجرائم، وهذا يطرح سؤال الحيادية هل كل الضحايا ممثلين أم أنها استمعت لطرف واحد؟ وهل استطاعت مخاطبة السلطات الحكومية أو الجهات التي تمارس السلطات الحكومية بشكل فعلي لأنها تريد أن تذهب إلى المنطقة المحددة وردت الحكومة بأن المنطقة غير آمنة
وخارج سيطرة الحكومة.
ويرى أن المحكمة لا تستطيع مخاطبة الطرف الثاني “الدعم السريع” باعتبار أنه لا توجد قناة مباشرة للوصول إليه، لكن بإمكانها إجراء تحقيقاتها خارج الدولة التي تم فيها الفعل المجرم، ويمكن سماع الشهود في أماكن مختلفة سواءً كانوا لاجئين في أوربا أو في دول الجوار ويرى أن هذا لا يقدح في ممارسة سلطات المحكمة.
وفي يونيو 2020، سلم علي كوشيب نفسه إلى سلطات المحكمة الجنائية الدولية في جمهورية أفريقيا الوسطى المجاورة للسودان، حيث تجري محاكمته منذ ذلك الوقت في مقر المحكمة بمدينة لاهاي الهولندية.
فيما أفاد تقرير للأمم المتحدة أن ما بين 10- 15 ألف شخص قُتلوا في مدينة الجنينة في ولاية غرب دارفور العام الماضي، جراء أعمال عنف عرقية نفّذتها قوات الدعم السريع وميليشيات متحالفة معها.