أمواج ناعمة – حرب السودان.. 3 تحديات ماثلة – د. ياسر محجوب الحسين
إن الحرب القائمة اليوم على الدولة السودانية ليست انقلابا عسكريا كلاسيكيا داخليا ولا حربا عادية تشنها دولة من الدول؛ وإنما الأمر أعقد بكثير وأشد مضاضة من وقع الحسام المهندي. فهي خليط يجمع بين أطماع قوى دولية وبين أدوات إقليمية ومحلية باستخدام كافة أنواع الأسلحة بكل مظانها العسكرية والسياسية والاقتصادية. وفرضت الحرب على البلاد تحديات سياسية ودستورية واقتصادية، الأمر الذي يتطلب مواجهتا بشجاعة وعبر حلول شاملة وغير تقليدية. إن ضعف الدولة السودانية خلال سنوات ما قبل الحرب وخضوعها للتدخلات الخارجية خاصة في فترة حكومة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، قد أغرى دولا مجاورة وإقليمية للتدخل في الشأن السوداني وتغليب مصالحها الآنية على علاقاتها التأريخية الممتدة وبارتضائها أن تكون أدوات في خدمة القوى الدولية الكبرى. وانسحب هذا الضعف على أداء كابينة السلطة إذ اتسم أداء وزارة الخارجية بالضعف البائن، ولم تكن بمستوى التحديات الكبيرة والاستثنائية التي تواجهها البلاد.
ولعل فشل اتفاق ايصال المساعدات الانسانية مع حركة عبد العزيز الحلو المتمردة والمرتبطة عضويا بدولة جنوب السودان، ليس إلا مثالا حيا لهذا الضعف. فقد وقعت الحكومة السودانية ضحية دعوات خادعة من دولة الجنوب التي رعت التفاوض برفع مستوى التفاوض ليذهب نائب القائد العام للجيش مباشرة دون أن يفسح المجال للطواقم الأمنية والعسكرية انجاز مسودة للاتفاق. وكان ذلك أمرا ملحا لأن الطرف المقابل ظل أحد عتاة تجار الحروب، وقد كان هدفه تجيير المساعدات الانسانية لصالحه وعندما أرادت قوى إقليمية إفشال الاتفاق لقطع الطريق أمام أي مكاسب سياسية لحكومة السودان، عرضت عليه ما يفوق مكاسب الاستيلاء على المساعدات الإنسانية فاشترط – وهو في حالة تمنّع – جلوس مليشيا الدعم السريع طرفا في المفاوضات حتى تكسب مشروعية سياسية وأخلاقية وفق ما تريد قوى إقليمية ودولية. ولعل الوضع الدستوري القائم حاليا في البلاد يعاني من اختلال واضح، ويقف عقبة أمام علاقات خارجية سوية وتتسم بالندية. ويقوم الوضع الدستوري الراهن على ما عرف بالوثيقة الدستورية – وهي لا تستحق هذا الوصف – وهي في أساسها اتفاق سياسي بين الجيش وقوى مدنية خدمتها ظروف غير موضوعية جعلتها تتصدرت المشهد السياسي بعد ابريل 2019. لكن هذا الاتفاق تعرض للانهيار في 25 أكتوبر 2021 ومن ثم تم تجميد بعض بنود هذه الوثيقة بموافقة وتأييد من بعض المكونات المدنية الموقعة عليها حيث انقسمت لفريقين؛ الأول منجاز للجيش والآخر منحاز للأجندة الخارجية. وبالاضافة إلى الجوانب السلبية المتعلقة بالحالتين السياسية والدستورية، وقع اقتصاد البلاد في مأزق هذه التعقيدات لاسيما الناتجة عن الحرب المستعرة اليوم؛ فقد توقفت كل القطاعات الانتاجية التي كانت توفر العملة الصعبة للخزانة العامة في مجالات الزراعة والصناعة والنفط والمعادن خاصة إنتاج وصادرات الذهب. بل ان الأمر ارتقى ليصبح حربا اقتصادية لا تقل آثارها عن المعركة العسكرية. وبدا واضحا أن من بين خطط التخريب الاقتصادي: ضخ كميات كبيرة من العملة المحلية المزورة واستخدامها في شراء سلع وحصائل الصادر، فضلاً عن شراء تحويلات المغتربين من العملات الحرة، الأمر الذي أدى إلى تحويل العملات الأجنبية لمخازن للإدخار مع زيادة الضغط على السوق.
إنه ينتظر من الحكومة السودانية المبادرة الفورية لمعالجة هذه الملفات الثلاثة: السياسية والدستورية والاقتصادية؛ ففي المجال السياسي لابد من السعي العاجل والدؤوب لتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة التي لا يُستثنى منها إلا منسوبو مليشيا الدعم السريع الإرهابية. ولابد من الدفع والطرق في إتجاه تحقيق أكبر قدر ممكن من التوافق السياسي من خلال ملتقى وطني تُجمع فيه كافة الكيانات السياسية والاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني. وتأتي حتمية هذه المصالحة الوطنية بغرض تضميد الجراح والتعويض وجبر الضرر على أرضية محاسبة كل من أجرم في حق الشعب، وسرق ونهب وأغتصب، وقتل، فيعاقب العقاب المستحق عبر محاكمات عادلة ونزيهة. ولا مجال للدخول في أي نوع من المساومات على أساس سياسي وليست هناك أي سلطة في وضع يسمح له بالتجاوز لا عن الحق العام ولا عن الحق الخاص. فمن نافلة القول إن البداية الصحيحة لوطن آمن تحرسه سيادة القانون ومن قبل خطوات عملية بناء السلام الاجتماعي لابد أن تقوم على أساس عدم الافلات من العقاب. ومن المهم تعضيد وتشجيع كل ما يمتص ويخفف حدة الاستقطاب والاحتقان السياسي ويُبرز ويحترم التنوع ويدعو للتعايش والقبول والاعتراف بالآخر والتحاور للإتفاق على كليات واحترام القانون. كما لابد من النظر في مستقبل المقاومة الشعبية وضرورة تنظيمها وتقنينها باعتبارها قوة احتياط عسكرية، وذراع أمني خدمي رقابي تعبوي يشارك في تأمين وإنجاح فترتي الانتقال والتأسيس. إن تحقيق التوافق الوطني يتطلب نجاحه توفيق الحالة الدستورية مما يقتضي المسارعة إلى إنهاء حالة الانتقال والنفاذ الى أساس دستوري يقوم عليه البناء الكلي للفترة الانتقالية، ويمكن في ذلك التفكير الجاد في العودة الى دستور 2005م الذي أجمعت عليه كل القوى السياسية، فالأصل في البناء الدستوري أن يقوم على قاعدة الرضا السياسي. وغير أن تعديل الوضع الدستوري مهم للتوافق الوطني الداخل، فإنه يستقطب الاعتراف الخارجي، ويعيد للسودان دوره الفاعل في المؤسسات الإقليمية والدولية. في الملف الاقتصادي تحتاج الحكومة الى إنشاء خلية طوارئ مع وضع خطة اقتصادية إسعافية عاجلة لتحريك عجلة الإنتاج، بأولوية قصوى للقطاعات الإنتاجية وبخاصة الزراعة والثروة الحيوانية فى الولايات المستقرة وهي تشكل أغلبية. ومع أهمية الإجراءات الأمنية والقانونية فهي ليست كافية لمكافحة وتحجيم المضاربة في العملة، إذ يلزم وضع سياسات تحفيزية لزيادة الإنتاج والصادر وترشيد الاستهلاك وتخفيف الضغط على النقد الأجنبي غير المهم أو غير المبرر.