الأخبار

جريدة اندبندنت البريطانية: أما الحرب الأهلية أو اتفاق إقليمي دولي يفضي بابعاد العسكر عن الحكم

كان واضحاً أن خروج نائب القائد العام للقوات المسلحة الفريق شمس الدين الكباشي من مقر القيادة العامة للجيش بالخرطوم قبل أكثر من أسبوع وظهوره في مدينة بورتسودان وتصريحاته بخصوص التفاوض مع قوات الدعم السريع عبر منبر جدة، هو تكرار لسيناريو خروج البرهان الذي نرجح معه أن كلاً من خروج الأخير والأول كان قراراً دولياً توافقت على تسهيله قوى دولية وإقليمية من أجل البحث عن انفراج محتمل لإمكان وقف الحرب.

لكن هذه المرة وبعكس ما حدث في المرة السابقة، صاحب خروج الكباشي حديث عن التفاوض ثم تلاه قرار من القوات المسلحة بالموافقة على استئناف “مفاوضات منبر جدة” الذي تقوم على تسهيله كل من السعودية والولايات المتحدة، كما سبق ذلك خطوة مهمة نجح فيها المنبر بأن ضم إليه كلاً من ممثل الاتحاد الأفريقي ومنظمة “إيغاد” (الهيئة الحكومية للتنمية بشرق أفريقيا) ليشاركا في الجولة الجديدة من المفاوضات التي تقرر استئنافها في جدة منذ الخميس الماضي وسط تكتم شديد، سيكون فيه الميسرون هم المتحدث الرسمي المشترك الوحيد باسم المحادثات.

وتجري “مفاوضات جدة” في سياق أحداث عسكرية وسياسية في السودان لا يمكن لأي مراقب أن يتجنب الربط بينها، من أجل تركيب صورة أقرب للحقيقة والواقع حيال ما يمكن أن يحدث من مفاجآت في المستقبل القريب.

وليس بعيداً مما يحدث في منبر جدة ما سبقه قبل ذلك من عقد اجتماعات تحضيرية لقوى سياسية ومدنية سودانية في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا بدأت منذ الـ 21 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي واستمرت حتى الـ 24 منه من أجل تأسيس مؤتمر عام لـ “جبهة مدنية عريضة” بهدف وقف الحرب واستعادة المسار الديمقراطي خلال نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري.

كما لا يمكننا إغفال الانتصارات التي حققتها قوات الدعم السريع في غرب السودان بسقوط مدينة نيالا، عاصمة إقليم غرب السودان ومقر أكبر حامية عسكرية بعد حامية الخرطوم، إلى جانب سقوط مدينة زالنجي الثلاثاء الماضي بعد أقل من أسبوع من سقوط الأولى، وهو تطور كبير في سياق الصراع بين الطرفين.

وكذلك في السياق ذاته الاجتماع الذي دعت إليه دولة جنوب السودان أطراف اتفاق جوبا للسلام الموقع بين الحكومة الانتقالية السودانية بقيادة حمدوك وحركات الكفاح المسلح في أكتوبر 2020، للتشاور حول بحث سبل وقف الحرب الجارية.

محاولة جادة

وهذه الأحداث المتزامنة لا تعكس مصادفة في وقوعها بقدر ما تعكس اتجاهاً حقيقياً ومحاولة جادة نحو إحداث اختراق يرغب فيه المجتمع الإقليمي والدولي للخروج بحل للمشكلة السودانية في ظل أزمات جديدة تعصف بالمنطقة، وعليه يمكن القول إن هذه الأحداث المتزامنة في كل من جدة وجوبا وأديس أبابا هي انعكاس لإرادة دولية وإقليمية تنحو إلى إنهاء الحرب في السودان بعد أن نضجت بعض الشروط وحدثت أمور أمكن معها التفكير الجاد لتوقيت وقف الحرب، ومنها أن الحرب اليوم دخلت شهرها السابع من دون أن يحسمها أحد الطرفين بصورة نهائية لمصلحته، ومنها الخشية من أن انتصار الدعم السريع في إقليم دارفور قد يؤدي إلى مشروع تقسيم للسودان، ومنها كذلك اجتماع القوى المدنية والسياسية السودانية في جبهة مدنية واحدة لوقف الحرب، ومنها ما صرح به قائد الجيش عبدالفتاح البرهان لقناة “الشرق بلومبيرغ” من أن “القوات المسلحة لن تكون طرفاً في أية عملية سياسية مستقبلاً”، ومنها ما كشفته بعض تقارير الصحف السودانية بأن الرأي العام في أوساط الجيش بات رافضاً للحرب، وهو ما تقرر معه الذهاب إلى المفاوضات في جدة على رغم ما نجم عن موقف الجيش هذا من حملات إعلامية ضده في مواقع التواصل الاجتماعي من قبل مؤيدي الحرب، إلى جانب تداعيات أخرى قد تكشف عنها الأيام المقبلة.

وما يبدو واضحاً اليوم أن مؤيدي الحرب حين باتوا مدركين لاتجاه المجتمع الدولي والإقليمي ورغبته في استثمار الأحداث السياسية والعسكرية الأخيرة نحو تحولات إيجابية وترجمتها عبر “منبر جدة” في جهود لإنهاء الحرب، أصبحوا يتباكون ويعيدون محاولات تخويف الشعب السوداني من مؤامرة دولية تتهدده بالتدخل الخارجي وفرض أجندات الأمم المتحدة بإعادة الاتفاق الإطاري الذي يزعمون أنه كان سبباً للحرب، وإعادة تعويم “قوى الحرية والتغيير” مرة أخرى إلى السلطة، فيما الجميع اليوم بات مدركاً أن “الحرية والتغيير” لا تشكل سوى أقل من 20 في المئة من كيان الجبهة المدنية العريضة التي توافقت عليها القوى السياسية والمدنية والنقابية السودانية في أديس أبابا، والتي يترأس هيئتها القيادية عبدالله حمدوك، بينما الحقيقة التي باتت واضحة لكل مراقب للأوضاع السياسية في السودان منذ 30 عاماً هي أن الانسدادات والسياسات الكارثية لنظام الإخوان منذ انقلابهم على حكومة الصادق المهدي المنتخبة عام 1989 وما تسببت فيه سياساتهم الانقلابية من تقسيم السودان ووضعه على اللائحة العالمية للدول الراعية للإرهاب، والفساد والحروب الأهلية وتدمير جهاز الدولة العام، وهتك النسيج الوطني للسودانيين بإحياء نظام القبائل وغير ذلك، كل تلك الخطايا جعلت من ضرورة إسهام المجتمع الدولي والإقليمي في أي حل مستقبلي لأزمة السودان السياسية أمراً لا بد منه، لكن ليس على ذلك النحو السلبي الذي يصوره دعاة الحرب للناس وإنما على النحو الإيجابي الذي في غيابه سيتحول السودان إلى مستنقع كريه للحروب الأهلية.

لقد أفرزت الحرب السودانية الجارية منذ الـ 15 من أبريل (نيسان) 2023 على هامشها موجات استقطاب لشحن عنصري خطر ومؤسف في أوساط الشعب السوداني، بل أفرزت انقساماً على خلفية تحالف مناطقي مزدوج ومنبوذ لم يسلم منه للأسف حتى بعض المثقفين السودانيين الذين يشار إليهم بالبنان، مما سيعني أن سيناريوهات الحل السياسي الحقيقي في المستقبل لا تكمن أبداً في انتصار أحد طرفي الحرب على الآخر، لأن ذلك فضلاً عن كونه مستحيلاً إلا أنه حتى لو افترضنا تحققه فسيعزز الاستقطاب الخطر أولاً، وسيؤسس لحال ديكتاتورية عسكرية أصبحت عديمة الجدوى في أي مسار سياسي لسودان موحد في المستقبل.

خياران

كما أن بقاء الأمر على ما هو عليه من حال الصراع العسكري بين الطرفين خصوصاً في ظل الانتصارات التي تحققها قوات الدعم السريع في إقليم دارفور سيؤدي إلى خيارين لا ثالث لهما، إما الحرب الأهلية الشاملة أو تقسيم السودان.

أما الخيار الأول وهو الحرب الأهلية الشاملة فهو في تقديرنا فاشل على رغم المحاولات المستميتة لأنصار الحرب إلى تغليبه، والسبب في فشله هو أن الشعب السوداني الذي عانى أولى ويلات الحرب الأهلية حتى قبل استقلاله في ما سمي تمرد “توريت” عام 1955 ظل يشهد محطات متجددة ومتوسعة للحرب الأهلية منذ ذلك العام تجددت في 1983 وانتهت في 2005 وأدت إلى انفصال جنوب السودان، كما تجددت الحرب الأهلية مرة أخرى عام 2003 في إقليم دارفور ثم إقليم النيل الأزرق وجبال النوبة وشرق السودان، ويمكننا القول إن ذلك التاريخ الطويل من الحرب الأهلية لا يغري السودانيين كثيراً بالخوض فيه مرة أخرى.

أما خيار تقسيم السودان فهو الذي يراهن عليه مؤيدو الحرب، لكن بطبيعة الحال فإن أي انقسام للسودان لن يستقر الأمر فيه على ما هو عليه، بل سيؤدي إلى تناسل انقسامات كثيرة في بلد لم تندمج مكوناته العرقية والإثنية المتعددة في هوية وطنية واحدة تعزز وحدة الانتماء إليه عبر سياسات مواطنة حقيقية، وحيال هذين الخيارين الكارثيين والمحتملين لنتائج الحرب الجارية في السودان اليوم سيبقى هناك خيار أخير وهو اتفاق سياسي جديد برعاية إقليمية ودولية يخرج بموجبه الجيش و”الدعم السريع” من إدارة السلطة السياسية، ويتولى المدنيون فيه السلطة عبر حكومة كفاءات سياسية تعبر عن جميع أطياف المكونات السودانية من خلال شخصيات تتميز بالكفاءة والاستقلالية والنزاهة، وتعمل على ترتيب أوضاع الانتقال في فترة يتم الاتفاق عليها وصولاً إلى انتخابات حرة في نهايتها.

ولعل ما يؤكد ذلك أنه حصل التوافق على منح 70 في المئة من الهيئة القيادية لتنسيقية “الجبهة المدنية” للقوى غير الحزبية التي تضم لجان المقاومة والنقابات والأجسام المهنية وتنظيمات ومبادرات المجتمع المدني والتنظيمات النسوية، بينما تم منح التنظيمات والتحالفات السياسية وحركات الكفاح المسلح 30 في المئة فقط، بحسب صحيفة “سودان تريبون” الإلكترونية.

إن استثمار الشروط التي وفرتها أوضاع الحرب هذه الأيام من عودة الجيش إلى طاولة المفاوضات في جدة وتوحيد منبرها كمنبر وحيد لجمع المبادرات بضم ممثلين للاتحاد الأفريقي و”إيغاد”، والمساعي الحثيثة للقوى المدنية والسياسية السودانية من أجل التحضير للمؤتمر العام لــ “الجبهة المدنية العريضة” في أديس أبابا، واجتماعات أطراف “اتفاق جوبا” في جنوب السودان من أجل وقف الحرب عبر منبر جدة، وتصريح البرهان بأن القوات المسلحة لن تكون طرفاً في السلطة مستقبلاً، كلها مؤشرات داعمة لخيار الحل السياسي الأمثل، وهو الوصول إلى اتفاق سياسي جديد برعاية دولية وإقليمية عبر “منبر جدة” ينهي الحرب ويضع السودان أمام مرحلة سياسية جديدة تقطع مع تاريخ الحروب الأهلية وتتطلع إلى مستقبل سياسي ديمقراطي مزدهر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى