المل الخامس لسد النهضة والصمت في مصر !
من جديد عاد الحديث حول سد النهضة إلى الواجهة مع اقتراب إثيوبيا من الملء الخامس، وبعد مضي قرابة أكثر من ستة أشهر على إعلان القاهرة إيقاف مفاوضاتها مع أديس أبابا، والاحتفاظ بحقها المكفول بموجب المواثيق والاتفاقات الدولية في الدفاع عن أمنها المائي، وفقاً لما أعلنه وزير الري المصري الدكتور هاني سويلم في بيان رسمي ديسمبر (كانون الأول) 2023 .
واستبعد متخصصون في ملف المياه، تحدثوا إلى “اندبندنت عربية”، عودة المفاوضات بين مصر وإثيوبيا قريباً في ظل غياب الوساطات الدولية أو مبادرات تقريب وجهات النظر بين الأطراف المتنازعة داعين القاهرة إلى اللجوء لـ “الوسائل الخشنة”، ومحذرين من تداعيات ذلك على بلد يعاني شحاً مائياً، وتعداده يزيد على 100 مليون شخص.
وفي أواخر مايو (أيار) الماضي، قال الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي “طالبنا الحكومة الإثيوبية على مدار أكثر من 10 أعوام بالدخول بحسن النية الواجب مع مصر والسودان للتوصل إلى اتفاق قانوني ملزم يؤمن لأجيال الحاضر والمستقبل في الدول الثلاث حقها في الحياة والتنمية”. مشدداً على أنه لن “يُسمح بكل ما من شأنه العبث بأمن واستقرار دولنا وشعوبنا”.
صورة ضبابية
وحول الملء الخامس وتداعياته، يقول أستاذ الموارد المائية في جامعة القاهرة الدكتور نادر نور الدين، “سيبدأ الملء يوليو (تموز) المقبل ويستمر خلال أغسطس (آب) وسبتمبر (أيلول) المقبلين هذا العام، وإثيوبيا هي من تقرر السعة التخزينية التي ترغب فيها”. مشيراً إلى أن ملء السد “يتوقف على حجم الفيضان، إذا كان شحيحاً ستقلل أديس أبابا من نسب التخزين، ولو كان كثيفاً ستزيد من السعة التخزينية”.
ويضيف نور الدين، “إثيوبيا لم تعلن الكميات المستهدف تخزينها، على عكس أعوام الملء الأربعة السابقة كانت تصرح بالنسب التخزينية قبلها بشهر كامل، وعليه تداعيات الملء الخامس على مصر ستتوقف على حجم التأثير في السعة التخزينية التي تستهدف أديس أبابا القيام بها، والمخزون الذي سيُسحب من بحيرة ناصر” موضحاً أن “التخزين لم يعد على السد الأسمنتي، لكن على السد الجانبي وهو سد السرج”.
وبينما لا توجد محادثات رسمية بين القاهرة وأديس أبابا منذ إعلان وزير الري المصري هاني سويلم انتهاء المفاوضات أواخر 2023، فإن نور الدين يشدد على ضرورة استمرار المحادثات بين البلدين لـ”استكمال المحادثات في شأن كميات المياه المتبقية والمستهدف تخزينها، لكن مصر قد يكون لديها أسبابها في هذا الأمر، ومن المحتمل أن تكون هناك مفاوضات (غير رسمية) أو معلنة بينهما”. مستبعداً العودة إلى المفاوضات وسط غياب “أية مبادرات أو وساطات دولية في شأن عودة المحادثات، والصورة تبدو ضبابية حالياً”.
وكانت وزارة الري المصرية قد أعلنت ديسمبر 2023، انتهاء المسارات التفاوضية وأنها سوف “تراقب من كثب” عملية ملء وتشغيل سد النهضة مؤكدة أن الاجتماع الرابع والأخير من مسار مفاوضات سد النهضة بين مصر والسودان وإثيوبيا “انتهى”، ولم يسفر عن أية نتيجة، نظراً إلى استمرار المواقف الإثيوبية ذاتها الرافضة عبر الأعوام الماضية الأخذ بأي من الحلول الفنية والقانونية الوسط التي من شأنها تأمين مصالح الدول الثلاث.
وعمّا إذا كانت إثيوبيا تريد ترسيخ سياسة الأمر الواقع، يقول أستاذ الموارد المائية “مصر لا تقبل بذلك وتصريحات جميع المسؤولين المصريين أعربت عن رفضها الإجراءات الأحادية لإثيوبيا في هذا الأمر”.
وتعاني مصر “شحاً مائياً” وتعتمد بصورة أساسية على مياه النيل، إذ تبلغ حصتها 55.5 مليار متر مكعب سنوياً، في حين تبلغ استخدامات القاهرة الفعلية الحالية من المياه نحو 80 مليار متر مكعب سنوياً، وتعيد مصر استخدام 26 مليار متر مكعب من المياه سنوياً.
إثيوبيا صاحبة القرار: تخزين وتشغيل
وفي تقدير أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية في جامعة القاهرة الدكتور عباس شراقي فإن الملء الخامس “سيكون ما بين مليار متر مكعب بوصفه حداً أدنى وحتى 23 ملياراً بوصفه حداً أقصى”. موضحاً أن “كل متر مكعب يخزّن في إثيوبيا سيخصم من الإيراد المصري، وسوف يعود جزء منه في ما بعد مع تشغيل التوربينات، وصرف الاستخدامات اليومية كاملة للمواطن المصري خلال فترة التخزين من بحيرة ناصر، بصرف النظر عن الوارد من النيلين الأبيض والأزرق”.
ويشير شراقي إلى أنه نظراً إلى توقف المفاوضات وعدم وجود اتفاق يحدد كمية التخزين فإن إثيوبيا “هي من ستقرر بمفردها كمية التخزين والتشغيل، والقاهرة والخرطوم ستراقبان الموقف”. مؤكداً أن “ضرر التخزين الخامس سيكون كبيراً على مصر، لكن المنقذ هو السد العالي، ولولاه لحدثت كارثة حقيقية وتوقفت معظم الأراضي عن الزراعة في موسم الصيف”. مشدداً على أنه لا بوادر أو نية لعودة المفاوضات “لا أعتقد ذلك، التقيت السفير الإثيوبي في القاهرة منذ 10 أيام، وقال لي (لا توجد أية مفاوضات حالية بين البلدين منذ توقفها)”.
وبدأت تخزينات المياه منذ عام 2020 على مدار أربعة أعوام مع بداية موسم الأمطار في يوليو من كل عام، وفي كل مرة يجري رفع جسم السد الرئيسي الخرساني على الجانبين، وتتوقف كمية التخزين على مدى ارتفاع الممر الأوسط، فالتخزين الأول كان عند 565 متراً، والثاني 576 متراً، والثالث 600 متر، والرابع عند أقل من 625 متراً، ومع هطول الأمطار تتجمع المياه أمام سد النهضة إلى أن تصل إلى قمة الممر الأوسط، ثم تفيض تلقائياً أعلى الممر، بحسب شراقي.
ومنذ فبراير (شباط) الماضي، مخزون بحيرة سد النهضة ثابت عند 35 مليار متر مكعب ، كما أن كمية المياه التي تأتي عند سد النهضة من بحيرة تانا تعادل كمية المياه المستخدمة في توليد الكهرباء، وقد توقف التخزين الرابع في التاسع من سبتمبر2023، عند تخزين 41 مليار متر مكعب، ثم فتحت إثيوبيا بوابتي التصريف في الـ 31 من أكتوبر (تشرين الأول) والثامن من نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، لخفض منسوب البحيرة لتكملة خرسانة الممر الأوسط، وجرى إغلاقهما في الـ27 من يناير (كانون الثاني) 2024 بعد تصريف نحو 6 مليارات متر مكعب خلال الثلاثة أشهر، وانخفاض منسوب بالبحيرة نحو 10 أمتار حتى منسوب 615 متراً، لم تستفد منها إثيوبيا في إنتاج الكهرباء.
وكانت إثيوبيا أعلنت في فبراير2022، إنتاج الكهرباء للمرة الأولى رسمياً من سد النهضة، وأثارت هذه الخطوة حفيظة مصر التي اعتبرتها “خرقاً لاتفاق وقع بين البلدين في 2015”.
وفقاً لشراقي، “تتوقف كمية المياه في التخزين الخامس على قدرة إثيوبيا على تركيب وتشغيل أكبر عدد من الـ11 توربيناً المتبقية، وإن لم تستطع تشغيلها فليس من مصلحتها ملء الخزان كاملاً من دون استفادة، إذ إن ذلك يمثل ضغطاً كبيراً على السدين الرئيسي (الخرساني) والمكمل الركامي (السرج)، وفي النهاية سوف تضطر إلى فتح بوابات المفيض لتصريف المياه قبل موسم الأمطار التالي من دون فائدة، كما كانت تفعل في فتح بوابتي التصريف في الأعوام السابقة”.
مائياً وكهربائياً… هكذا يتأثر السد العالي
في السياق ذاته، يرى أستاذ الري في جامعة القاهرة الدكتور محمد نصر الدين علام أن الملء القادم المتوقع للسد الأثيوبي “لن يبدأ هذا العام إلا بعد بداية الفيضان، أي بعد نحو أسابيع عدة من الآن، وتعتمد كمية الملء على مقدار الفيضان ومعدل تدفقه، محذراً من أنه “قد يحدث هذا العام أو العام المقبل فترة جفاف بدلاً من الفيضانات، فتبدأ معها المشكلات المائية الحقيقية بين مصر وإثيوبيا”.
ويوضح علام، الذي تولى حقيبة وزارة الري سابقاً (2029 – 2011)، أن وزارة الري المصرية لديها كل المعلومات عن سد النهضة والسدود المستقبلية المحتملة والزراعات المحتمل تنفيذها في أديس أبابا، وجميع صور الأقمار الصناعية المتاحة، ولديها مركز تنبؤ متقدم لتقدير أمطار وفيضان نهر النيل والنيل الأزرق. وكذلك لديها وسائل وبدائل للدفاع عن نفسها، “قد تضطر إلى استخدامها إذا استمر التعنت الإثيوبي”، بحسب علام.
ويلفت وزير الري السابق إلى أن ملء سد النهضة “سيكون بالكامل من حصة مصر المائية، وإيراد مصر المائي يتغير من عام إلى آخر بحسب فيضان النهر، فيجري تخزينه في بحيرة السد العالي في أعوام الفيضان العالية، والسحب منه بمعدل ثابت سنوياً، ومقداره 55.5 مليار متر مكعب سنوياً، أما حصة السودان 18.5 مليار متر مكعب، فيجري استخدامها بطول السودان من النيل الأبيض والأزرق وعطبرة وقبل الوصول إلى بحيرة ناصر”.
وفي شأن التأثيرات السلبية لسد النهضة، يرى علام أنها ستظهر في أعوام الفيضان المنخفضة والجفاف، “وستؤدي إلى تقليل مخزون السد العالي تدرجاً من عام إلى آخر، ومن ثم تقليل إنتاج السد العالي للكهرباء، وأيضاً عدم استكمال حصتنا المائية في الأقل في أعوام الجفاف، وكلما جرى بناء سدود إثيوبية أكثر تزداد السعة التخزينية لديها، وتزداد قدرتها على حجز كميات مياه كبيرة من النيل الأزرق وحجبها عن مصر والسودان، والمياه المخزنة قد يستخدم جزء منها في الزراعة، والجزء الآخر سيسمح بمروره لتوليد الكهرباء ثم الذهاب إلى مصر والسودان”.
وفي سبتمبر 2023، أعلن وزير الخارجية المصري سامح شكري خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ78، أن إثيوبيا “تمادت بالاستمرار في ملء وتشغيل سد النهضة بصورة أحادية”، كما أنها خرقت القانون الدولي واتفاق إعلان المبادئ لعام 2015، موضحاً أن بلاده “تواجه ندرة مائية حادة، إذ تأتي مصر على رأس قائمة الدول القاحلة، فهي الأقل من حيث معدل هطول الأمطار بين دول العالم”.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هل من وسائل خشنة؟
“ضرر جسيم”، هكذا يصف نائب رئيس المجلس المصري للشؤون الأفريقية السفير صلاح حليمة الملء الخامس، موضحاً أن أديس أبابا “تمضي في فرض سياسة الأمر الواقع دون الالتزام بالمواثيق الدولية أو التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم”، ومشدداً على ضرورة أن تكون هناك “وقفة جدية” لمنع تلك التحركات.
ويعتبر حليمة، خلال حديثه لـ”اندبندنت عربية”، أن مصر لم يعد أمامها فرصة سوى اللجوء إلى مجلس الأمن لأن ما تقوم به إثيوبيا يشكل خطراً جسيماً، ويهدد الحياة لدولتي المصب ويجب تجنب هذا العدوان، مشيراً إلى أن القاهرة “استنفدت كل الوسائل السلمية والمسارات التفاوضية التي لم تعد تُجدي على مدار أكثر من 14 عاماً”. مشيراً إلى أن المواد “5، و6، و7 المنصوص عليها في القانون الدولي يمكن الاستناد إليها في هذا السياق.
وفي أكتوبر أثناء الملء الرابع للسد وجهت مصر خطاباً إلى رئيس مجلس الأمن واصفة التصرفات الإثيوبية بأنها تشكل حرباً وجودية لمصر وتهدد استقرارها، مطالبة المجلس بأن يضطلع بمسؤولياته، وأن يُبقي القضية محل نظره لضمان التوصل إلى حل سلمي.
ومن جانبه يصف مستشار وزير الري والموارد المائية الأسبق الدكتور ضياء الدين القوصي، الملء الخامس بـ”الكارثة الكبرى على مصر والسودان”، موضحاً “لن نستطيع أن نسحب من مخزون السد العالي سنوياً، وإذا استمر هذا الوضع سنكون أمام أزمة مائية حقيقية”.
ويضيف القوصي، خلال حديثه لـ”اندبندنت عربية”، “بعد التفاوض على مدار أكثر من 14 عاماً فإن مصر لم يتبق أمامها سوى اللجوء إلى الوسائل الخشنة، بسبب الإجراءات الأحادية التي تمارسها إثيوبيا وتصريحاتها الاستفزازية ضد مصر والسودان”.
وسعت القاهرة والخرطوم إلى توقيع اتفاق ملزم في شأن المبادئ التوجيهية لملء السد وتشغيله بموجب اتفاق “إعلان المبادئ”، الذي وقعته الأطراف الثلاثة بالخرطوم في مارس 2015، الذي جرى التوصل إليه بعد جولات متقطعة من المفاوضات.
وفي المقابل تري إثيوبيا أن السد الإثيوبي، الذي تقيمه منذ عام 2011 على الرافد الرئيس لنهر النيل، ضروري لتنمية اقتصادها ولتوفير الطاقة، لكن مصر تعتبره تهديداً خطراً لإمدادات مياه النيل التي تعتمد عليها بالكامل