فجعنا أمس بنبأ عبور حبيب الملايين ود المكي.. بقلم رباح الصادق المهدي
بسم الله الرحمن الرحيم
فجعنا أمس بنبأ عبور حبيب الملايين ود المكي
أنعي إلى شعبه روحه الحبيبة، وتواضعه الجم، وفنه العميق، وعبارته النفاذة، وشعره الصادق العذب وأعذب الشعر أصدقه، ورؤاه الفكرية التي أذهلت في سقط زندها، أرسل تعازيّ الحارة لأمته في الحلم والوعي والغضب، وفي دمار الحرب وقد رفرف معه حمام السلام مغادرًا، أنعي أيقونة محبة في زمن الكراهية، وراية سودانية عالية خفاقة تتدلى في زمن السقوط الوطني..
الله يا وطن..
الله في ود المكي..
إنه مشرّعنا وقاضينا الذي تنفذ أحكامه، فالشعراء هم المشرعون غير الرسميين للإنسانية، أو كما قال الحقاني عليه الرضوان:
(للفن في كثير من أشكاله لا سيما الشعر دور كقرون استشعار للمستقبل حتى قيل: الشعراء هم المشرعون غير الرسميين للبشرية [Poets are unacknowledged legislators of the world]. ما صاغه الحكيم في قوله:
لولا معان سنها الشعر ما دري بناة المعاني كيف تبنى المكارم.)
والمقولة منسوبة للشاعر البريطاني بيرسي شيللي بالأساس.
ما زالت تطن في أذني كلمات صعدت بي السماء من فم (أبو الجعافر) إذ لاقيته قبل نحو أسبوعين فذكر لي ود المكي، وتمنينا له الشفاء، لنا ولجروح الكراهية البرء على مزمار فأله وغناء خلاسيته.
يلجم الحزن فما لي سوى أن أستحضر كلمات قدمته بها في ليلة مؤانسة نظمها صالون الإبداع في مايو 2022م. كنا في أمدر وكان معنا ود المكي ومن ثم تبعثرنا وفارقناه.. والحمد لله رب العالمين.
قلت يومها:
(هو الشاعر والدبلوماسي والكاتب والقاص السفير محمد المكي إبراهيم، من مواليد حي القبة بمدينة الأبيض بكردفان، من أرومة السيد إسماعيل الولي (الأستاذ)، هاجر والده بعد الكسرة من أم درمان (حي السيد المكي) إلى كردفان بصحبة شيخه السيد محمد المكي (قنديل كردفان).
هو خريج كلية القانون بجامعة الخرطوم وقد قطع دراسته لعامين قضاهما في أوربا كان لهما أثر كبير في سمات التمرد ورفض البالي والحلم بالمستحيل في شعره خاصة ديوان أمتي المنشور عام 1968م، شارك أثناء الطلب في ثورة أكتوبر وكتب فيها أعذب الشعر حتى عد بحق شاعر الأكتوبريات الأول، التحق بالسلك الدبلوماسي عام 1966م وتدرج حتى درجة السفير ثم أحيل للصالح العام مع انقلاب العهد البائد العائد مؤخراً عام 1992م. له كتابات في الفكر والنقد الأدبي والقصة والمسرحية الشعرية بعضها لم ينشر بعد.
دواوينه:
– أمتي: الحلم والوعي والغضب، 1968م حاوٍ للأكتوبريات وعدد من القصائد المهمة في تجربته الشعرية كقطار الغرب، والشرف الجديدة والشرف القديمة، وغنائي لأختي أمان، والخرطوم الثانية وغيرها.
– بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت (1972م) فيه قصيدة بذات العنوان ظلت مداراً لكتابات النقاد وأنها في الهوية السودانية ومدرسة الهجنة (الغابة والصحراء) بينما كشف الكاتب بنفسه أنه عنى بها زنزبار التي تغنى بها قبل أن يزورها وبعده.
– يختبيء البستان في الوردة 1984م وهو ديوان عميقة مسالكه في الوجود والصوفية والانبهال في الذات النبوية، والرثاء البديع للمجذوب أستاذه وأعلى أعمدة الشعر السوداني قاطبة.
– في خباء العامرية: أو قصيدة الفقر، والديوان هو عبارة عن تلك القصيدة الطويلة التي تتحدث عن هموم الأمة العربية (العامرية) في لغة مرموزة ترسم صوراً من الفنتازيا المجدولة من ضفائر الواقع.
صدر له عام 1979 كتاب في سيرة الشعر السوداني ومدارسه ومناهله الفكرية عبر الحقب بعنوان (الفكر السوداني أصوله وتطوره) به نظرات جريئة مدهشة خاصة اذا نسبتها للشاب الغض الذي صدرت عنه.
نشرت له عام 1995م ثلاث أجزاء من رواية طويلة بمجلة الخرطوم بعنوان (آخر العنابسة) وهي رواية في تاريخ العبودية في أوربا وبلاد الشام والسودان في القرن التاسع عشر مقرونة بسيرة تتطابق مع مفاصل أساسية لسيرة المك نمر آخر ملوك شندي، رواية لم يتم ود المكي نشرها مصرحاً بأنه خشي أن تزيد جراح الوطن على مشارف الانفصال. رواية بديعة من حكيها المنشور.
ضاع له كتاب عن المجذوب، وأعلن عن مسرحية شعرية لم تر النور..
صدر له عام 2008م كتاب (في ذكرى الغابة والصحراء) وهي المدرسة الشعرية التي أثارت نقعا كثيفاً ليس بدءاً بدراسة د عبد الله علي إبراهيم: الآفروعروبية أم تحالف الهاربين، معتبرا أنها مدرسة شعراء عائدين “من شعاب الأرخبيل الأوروبي”، نفروا من صرامة الصحراء فتحدثوا عن الهجنة لإدخال ما يرونه من تحلل الغابة، ومروراً بتوثيق محمد جلال أحمد هاشم لعودتهم عن الهروب في (السودانوية أم تحالف الهاربين)، وظلت المدرسة تثير معارك فكرية. داخلها صلاح أحمد إبراهيم قديما (معارضاً بقوله نحن عرب العرب) وعبد المنعم عجب الفيا في بداية الألفية مؤيداً، وآخرون.
إنه قلم أصيل، نجم ذاتي التوقد لا قمر يعكس ضوء غيره، قرأ للسابقين ونسيهم لينهل من منبعه الشعري السري الخاص، بديع، عميق، في شعره صور جديدة ونعوت وجدت سبيلها إلى بحر لغتنا سربا: الأربعاء الرائعة، الغاز البذيء (للبمبان)، غرفة الثلج، انفصل الجمر عن صندل الشعر، إلى آخر منحوتاته الذكية والطريفة. اشتغل به النقاد كثيراً، ولا تزال لآلؤه تحتاج من يقلبها وينظمها في عقود النقد الجاد والمحيط، ونظراته النقدية وآراؤه الفكرية تفتقر لنقاش يبرزها في نسيج ثقافتنا المموه. هذا بعض من (ود المكي) محبوب الملايين الذي فيه يختبيء السودان كما في الوردة يختبيء البستان.. فهيا نعيش في رحابه لحظات من العمر ندية.)
ثم ها هي النداوة والطلاوة غادرتنا..
اللهم يا الله، أكرم مثواه، وتقبل شهادة أحبابه الملايين بخيريته المرسلة وعطائه الفياض، اللهم اجعله فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من نعيمك المقيم، وبصحبة المصطفى بحق درته (مدينتك الهدى والنور) ومحبته للحبيب ولطيبته.. تعازي الحارة لابنائه وزوجه الحبيبة وللشعب السوداني أجمع وكل العرب وكل الأفارقة..
إنا لله وإنا إليه راجعون
لينك المؤانسة مع ود المكي رحمه الله:
https://fb.watch/uWkXeCUnKh/
الصور أغلبها من ذات الليلة التي شاركت بها الشواعر الماجدات
عفراء فتح الرحمن Afra Ahmed ، ابتهال تريتر ابتهال تريتر ، وإيمان آدم Eman Adam