مجلة “حواس” تفتح ملفّ الذهب إنتاج متدنٍ وصادرات متواضعة وتهريب بأوراق رسمية!
د. عادل عبد العزيز: تهريب الذهب بمستندات رسمية يتم بتواطؤ من بعض منسوبي الأجهزة الرسمية والمهربين!
د. هيثم محمد فتحي: يجب إعادة النظر في المربعات الخاصة بالتعدين وطرحها عبر الشفافية الكاملة
د. يوسف السماني: شركة الموارد أضعفت إنتاج الذهب بطريقة المعايرة
تقرير – طارق شريف ساتي
يعدّ النقاش عن الذهب هو موضوع الساعة، لأنه ضمن الثروات الطبيعية التي اشتعلت بسببها الحرب.
والأسئلة التي تفرض نفسها: لماذا أرقام صادرات السودان من الذهب متواضعة جداً؟ وماذا بشأن انخفاض الإنتاج؟ وكيف نكافح تهريب الذهب؟
هذه الأسئلة وغيرها هي بوصلة مهمة نسير على هديها في ملف الساعة الذي تناقشه مجلة “حواس”.. وكعادتها تستهدي بآراء الخبراء والمختصين حتى يأخذ النقاش بعده العلمي ومنهجه الواضح في التأثير. ويقيننا أن الذهب إذا تمت إدارة شانه بالطريقة المهنية سيسهم ليس في دعم المجهود الحربي فقط، بل في إنعاش الاقتصاد السوداني في فترة ما بعد الحرب..
ثروة قومية
الحقيقة الماثلة أن السودان يخوض هذه الحرب دون أدنى دعم خارجي، رغم أنها حرب تخوضها القوات المسلحة السودانية.. المؤسسة الشرعية التي تجد التأييد من شعبها، ضد مليشيا متمردة تستهدف كيان الوطن وتهدد وجوده.
في مقابلة هذا الواقع وتوقف الدعم الخارجي، لابد للسودان من الاعتماد على موارده المحلية، وفي مقدمة هذه الموارد معدن الذهب، الذي يهرّب باستمرار إلى خارج السودان.
وزير المالية في آخر تصريح له، قال إن الدولة وضعت يدها على مربعات تعدين الذهب التي كانت بيد المليشيا.. والإجراءات العاجلة التي من المفترض أن تتم الآن هي ضرورة إيقاف تهريب الذهب، وهنالك مؤسسات عديدة في الدولة يتبع لها هذا الملف، على رأسها شركة الموارد المعدنية باعتبارها الجسم التنظيمي والرقابي، ووزارة المالية وبنك السودان المركزي وشرطة الجمارك وشرطة مكافحة التهريب وجهاز المخابرات والأمن الوطني، وحتى القوات المسلحة ممثلة في الاستخبارات العسكرية عليها التدخل في هذا الملف باعتباره أمر حماية ثروة قومية.
إن وقف تهريب الذهب سيمكّن السودان من ضمان عائدات هذا المعدن النفيس، وهي عائدات كافية للسودان تغنيه عن أي دعم خارجي.
خريطة تعدينية
في حديثه الخاص لمجلة “حواس” يقول الخبير الاقتصادي د. عادل عبد العزيز الفكي: “تحتوي الخريطة التعدينية للسودان على العديد من المعادن المهمة وعلى رأسها الذهب.. يأتي السودان في المرتبة الثالثة أفريقياً من حيث حجم الإنتاج المعلن بعد جنوب أفريقيا وغانا بحجم إنتاج نحو (٨٠) طناً سنوياً، لكن يعتقد أن حجم الإنتاج الحقيقي أكبر من هذا بكثير، حيث يتم تهريب كميات كبيرة من المعدن النفيس، وبالتالي لا يتم تسجيلها ضمن صادرات البلاد”.
ويوضح الفكي: “يساهم الذهب بنحو (٥٠%) من قيمة الصادرات السودانية بما يعادل نحو (٢.٣) مليار دولار، ويتم تصدير الذهب بنظام الدفع المقدّم، أي يودع المصدّر القيمة الدولارية لصادر الذهب قبل الشحن للخارج”. ويكشف الفكي عن أن أغلب الذهب المصدر بصورة رسمية يذهب إلى دولة الإمارات العربية، وذلك لسببين، الأول وجود مرافق التصفية والمعايرة المعتمدة دولياً في تلك الدولة، والسبب الثاني وجود حسابات للمصدرين السودانيين بالبنوك الإماراتية ذات الملاءة المالية القوية وغير الخاضعة لأي نوع من أنواع الحظر.
تهريب
وعن الذهب الذي يتم تهريبه، يقول د. عادل عبد العزيز: “على شحّ المعلومات المتوفرة عنه فإنه يتم تهريبه إلى دول الجوار السوداني كافة، وفي الغالب تقوم الأجهزة المعنية في الدول المجاورة بإغماض الأعين عن عمليات التهريب المحسوسة”، ويضيف: “أما التهريب بالمستندات الذي يتم عبر المنافذ الرسمية للسودان فإنه يتم بتواطؤ من بعض منسوبي الأجهزة الرسمية والمهربين، ويستقبل الذهب المهرب بهذه الطريقة بأريحية في البلدان الأخرى لأنه يصل بأوراق رسمية سليمة”.
ويوضح، أن الأجهزة الرسمية السودانية تجد صعوبة في ضبط تهريب الذهب لسببين، الأول أن أغلب تعدين الذهب في السودان يقوم به الأهالي بنسبة تتجاوز (٨٠%) من الحجم الكلي، ويتحرك المعدنون من الأهالي في مساحات واسعة جداً، تتصل بحدود السودان الخارجية في أغلب المواقع.
والسبب الثاني أن نظام الدفع المقدّم مع عدم استقرار قيمة العملة السودانية يشجع على التهريب، لأن وجود القيمة بالدولار بيد المصدّر (المهرب) في الخارج تمكّنه من المضاربة في العملة، أو استيراد سلع تحقق له أرباحاً فاحشة في السودان.
مكافحة التهريب
يرى د. عادل عبد العزيز أن معالجة مشكلة التهريب من الأفضل أن تتم بالسياسات قبل الإجراءات الميدانية بالمطاردة وحراسة الحدود، ويقترح منح امتياز التعدين لشركات مقتدرة تعمل في التعدين الحقيقي ولا تكتفي بشراء (الكرتة) من المعدنين الأهالي، ويفضل أن تكون هذه الشركات من دولة مقتدرة وبإمكانيات كبيرة، على أن يكون للحكومة نصيب مقدر وفق اتفاقية منح الامتياز.
ويضيف: “من ناحية ثانية، على الأجهزة الرسمية منع التهريب بالمستندات وهو أخطر من التهريب التقليدي، وذلك بمراقبة ومتابعة العاملين في أجهزة الرقابة وفي مرافق الشحن الجوي والبري والبحري.
ومن ناحية ثالثة، يوصى بتكوين شركات مساهمة عامة سودانية يكون للحكومة نصيب مقدر فيها للسيطرة على أسواق (الكرتة)، ومنح المعدنين التقليديين عائدات ممتازة تصرفهم عن مخاطر التهريب”.
ويؤكد د. عادل أن السياسات المناسبة بشأن معدن الذهب في السودان، يمكن أن ترتفع بعوائده إلى ما يتجاوز (5) مليارات دولار سنوياً بصورة فورية.
أسواق الذهب
الخبير الاقتصادي د. هيثم محمد فتحي يقول في حديثه لمجلة “حواس” إن القطاع غير المُنظِّم للتنقيب عن الذهب في السودان؛ يستحوذ على أغلبية الإنتاج، ما يُصعِّب عملية حصره وبيعه، وبالمقابل يسهِّل مسألة تهريبه بعيداً عن القنوات الرسمية، رغم أن السودان يعدّ واحداً من أكبر ثلاثة منتجين في أفريقيا؛ إنتاج الذهب في السودان بلغ ذروته في عام 2017، حيث وصل المُنتج إلى (107) أطنان. أما في العام 2018 فأنتج السودان (93.6) طناً من الذهب. والمتوسط السنوي في حدود (100) طن، لكن هناك تسريبات غير رسمية تتحدَّث عن إنتاج سنوي يتراوح بين (200 – 250) طناً من الذهب سنوياً، وذهب آخرون إلى حدِّ (500) طن سنوياً.
ويضيف د. هيثم: “هناك تضارب في الأرقام، لذا لابد من أن تتحكَّم الدولة في التصدير، التخزين والتصنيع. كما أنَّ عليها قفل باب التهريب، حتى يدخل الذهب الدائرة الاقتصادية وتكون هنالك إحصاءات دقيقة وموثوقٌ بها”.
ويشير إلى أن الصعوبات تنبُع من تنامي أطراف السودان، فهو دولة واسعة وتحتاج إلى عمل كبير لتنجح في ضبط إنتاج الذهب.
فإنَّ رفع العقوبات الاقتصادية عن السودان وإزالة اسمه من لائحة الدول الراعية للإرهاب، قد عزّز من الثقة في الاقتصاد السوداني تدريجيّاً، لكن مع تمرد مليشيا الدعم السريع فقد ترتَّبت على ذلك مُستجدَّات أثرت على السودان في تصدير الذهب، وفتحت الأبواب على مصراعيها أمام التهريب. فالذهب المنتج يستطيع إخراج البلاد من الأزمة الاقتصادية، إذا استطاعت الحكومة شراء كل الكمية المنتجة. ويوضح: “أسواق الذهب السودانية تحتاج الآن قبل الغد إلى إصلاحات وضوابط لتشجيع الفرص الاستثمارية الوطنية والأجنبية، فالمعوقات الحالية كفيلة بأن تحدّ من دخول شركات جديدة إلى السوق المحلية”.
بورصة الذهب
يقول د. هيثم محمد فتحي: “لابد من إعادة هيكلة السوق، ووضع دراسات لحل المشاكل والمعوقات، إذ إن القوانين والإجراءات الحالية لا تشجع على استيراد وتصدير الذهب، لذا لا بُدَّ من إيجاد مستثمر وطني جاد يستهدف الإنتاج بالسوق المحلية بغرض تكوين مركز تجاري والتصدير إلى الخارج، وهذا بالتأكيد يحتاج إلى قوانين وآليات مختلفة حتى يمكن أن يكون السودان مركزاً إقليمياً لصناعة وتجارة الذهب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وذلك بتأسيس بورصة للذهب، فتلك هي أُولى الخطوات الجادة لجذب الاستثمارات في سوق الذهب لأنها ستنظم حركة التداول داخل السوق، وستكون السوق جاذباً لأكبر شريحة من التجار والمستثمرين للتعامل فيها”. ويضيف: “ستعمل السوق على زيادة حجم الإنتاج وخلق مزيد من فرص العمل، وتوجيه إنتاج المشغولات الذهبية للتصدير (دول الجوار الأفريقي والشرق الأوسط وشمال أفريقيا)، خاصة مع تباطؤ حركة المبيعات، بفعل انخفاض القدرة الشرائية للمواطنين”. ويوضح أن وقف نزيف عمليات التهريب الذي بسببه فقد السودان أطناناً عدة من الذهب خلال سنوات طويلة، من خلال فك احتكار التصدير الذي كانت تسيطر عليه الدولة عن طريق بنك السودان المركزي بتحديد أسعار غير مرضية للمنتجين ما يجعل تدفق الذهب السوداني إلى الأسواق الخارجية يتم بانسيابية تامة وطُرق مؤسساتية، سيسهم ذلك في دعم الاقتصاد الوطني بشكل كبير بدعم موارد حرة حقيقية، وبالتالي لن تكون هناك سوق سوداء وسوق موازية للذهب في السودان، بل سيكون هناك تعامل وفقاً للسوق العالمية فقط، التي تتحكم فيها قوى العرض والطلب العالمية.
بذلك يمكن أن تكون مساهمة الذهب مُقدَّرة جداً في تنمية وتحسين الاقتصاد السوداني خلال المستقبل القريب، ما سيؤدي بلا شك إلى فك الاختناقات والأزمات الخدمية والمعيشية التي ظل يعاني منها المواطن سنوات طويلة. ويقترح د. هيثم إعادة النظر في المربعات الخاصة بالتعدين وطرحها عبر الشفافية الكاملة للاستثمار المحلي والأجنبي، وترتيب قطاع المعادن في السودان والاستمرار في الجهود الخاصة بإعادة أوراق ومستندات الشركات التي منحت للتنقيب إلى الدولة، وإعمال الشفافية والقانون، إلى جانب مراعاة كل الجوانب الفنية للعمل. ويضيف: “الشركات الرمادية المملوكة للجهات النظامية سواء كانت مدنية أو عسكرية تؤثر سلباً على الاقتصاد، ما يتطلب إعادة النظر فيها وتكوينها وكيفية عملها باعتبار ما تسببه من ضرر للاقتصاد بتضييق فرص العمل للقطاع الخاص. فأيِّ قرار تتخذه الحكومة يؤثر على المتغيرات كافة في الاقتصاد، وتتوقُّفُ درجة هذا التأثير وطبيعته (إيجاباً أو سلباً) على عوامل متعددة.. وهذا ما يعانيه قطاع المعادن في السودان، خاصةً معدن الذهب بحيث تتعدَّد القرارات والسياسات بتعدُّد وتغيير الوزراء أو المديرين، وهذا ما أقعد القطاع كثيراً، لذا لابُدَّ من إستراتيجية ثابتة يتم وضعها من قبل أهل الاختصاص وذوي الشأن بمهنية عالية ومُتقنة مع ضرورة الابتعاد نهائياً عن (المؤثّرات) السياسية بكل أشكالها”.
تدني الإنتاج وسرقته
نختتم الإفادات في هذا الملفّ المهمّ الذي سيتواصل، بإذن الله تعالى، على حلقات في الأعداد القادمة، مع أستاذ الجيولوجيا الاقتصادية بجامعات إسبانيا، الخليج والسودان، المدير العام الأسبق للهيئة العامة للأبحاث الجيولوجية، وزارة المعادن، المدير العام لشركة الضمان للتجارة والتعدين د. يوسف السماني، ويقول في حديثه لمجلة “حواس”: “مما لا شك فيه، أن الحرب التي اندلعت منذ شهر أبريل من العام الماضي ألقت بظلالها على النشاط التعديني بصفة عامة، ما أنعكس أثره المباشر على إنتاج الذهب”. ويوضح د. السماني: “مع بداية الحرب أوقفت الشركة السودانية للموارد المعدنية الإنتاج نتيجة لتوقف مصفاة الخرطوم للذهب، واستعاضت عنه بعد ذلك بتشغيل الإنتاج بطريقة المعايرة التي تنتهج في التعدين التقليدي، وهي المعايرة عن طريق معامل الششنة منذ ذلك الوقت وحتى حينه، ومعلوم عدم دقة المعايرة بهذه الطريقة”.
ويضيف: “في ظل تدني حجم استيراد مدخلات الإنتاج، أصبحت هنالك ندرة فيها بالأسواق، وبالتالي ارتفاع أسعارها بطريقة غير مسبوقة، حيث ارتفع سعر برميل الجازولين إلى أكثر من (650) ألف جنيه، وبالتالي ارتفاع تكلفة الترحيل وأيضاً متطلبات الإنتاج من المواد الكيميائية وقطع الغيار وغيرها، ما أجبر العديد من الشركات على إعادة حساباتها ودراسات الجدوى، ما اضطر بعضها إلى التوقف، فضلاً عن تعرض بعض الشركات للتعدي والهجوم المسلح وسرقة الإنتاج، ما أدى إلى ارتفاع تكلفة التأمين، إلى جانب تدخلات الأهالي بإجبار الشركات على التوقف بهدف انتزاع مكاسب مادية، بل وتظهر أكثر من جهة واحدة لنفس الشركة، كذلك تنازع المحليات بسبب قسمة المسؤولية المجتمعية، أحياناً يؤدي إلى أن تكون الشركات هي الضحية ما يجبرها على التوقف، بالإضافة إلى أن عمليات النزوح أدت إلى قلة الأيدي العاملة (خاصة المتخصصون)، ما أثر أيضاً في وتيرة الإنتاج، وتوقف عمليات المقاصة بواسطة بنك السودان أدى إلى تأخر الإجراءات المالية من حيث انسياب عمليات شراء متطلبات الإنتاج.
مع كل، ذلك تظل الضرائب الحكومية التعجيزية المفروضة على شركات الإنتاج عاملاً مؤثراً قوياً في تآكل أرباح الشركات في ظل تدني قيمة العملة الوطنية، وبالتالي يقل الحماس للمغامرة بالإنتاج إن لم ينعدم.. كما تتأثر عمليات الإنتاج عامة بفصل الأمطار”.