الأعمدة

علينا الاستفادة من تجربة جنوب إفريقيا «5» على النخب السياسية أن تبرئ نفسها من الجشع والفساد

بقلم/ بابكر عيسى أحمد:

أعترفُ للمرة الأخيرة أنني استفدت كثيرًا من السفر إلى جنوب إفريقيا تلك البلاد البعيدة التي تبحث عن معنى لفضيلة التعايش، وأعترف أن التجربة كانت مثيرة أن يعايش صحفي عربي أسود مخاض التحول من العنصرية المغلقة إلى الديمقراطية المتعددة بكل ما في التجربة من مفارقات قاسية ومبهجة في الوقت ذاته.

وأشهدُ أنني بعد نحو ثلاثين عامًا (١٩٩٢-٢٠٢٢) ما زلت أقارن بين ما يعيشه السودان الآن وما عاشته جنوب إفريقيا خلال تلك السنوات التي توّجت بمصالحة تاريخية جعلت التعايش بين جميع الطوائف والكيانات والعرقيات ممكنًا وهذا ما نحلم به في بلادنا أن نبني «سودانّا الجديد» بعيدًا عن العقد والكراهية والعنصرية.

عندما أصبح مانديلا رئيسًا لجنوب إفريقيا بعد أربع سنوات من مغادرته السجن رأى العالم في ذلك نهاية القصة الخرافية، ولم تكن المهمة هينة أو يسيرة، وحذر أعضاء حزبه المؤتمر الوطني الإفريقي أمام تصفيق حاد في خطاب استغرق أربع ساعات ونصف الساعة من مخاطر الفساد والجشع، وأشار إلى دول إفريقية أخرى ذات «نخب نهابة أثرت عن طريق نهب الثروة الوطنية» ودعا إلى تجديد أخلاقي لتحقيق نهضة إفريقية.

كما حذرَ من استغلال السياسيين لمناصبهم من أجل جمع المال وتحقيق مكاسب غير أخلاقية.

ما نتمناه أن يكونَ لنا رجال في مثل نزاهة أولئك الرجال الذين أعطوا في مراحل التحول والتكوين قدوة لأبناء شعبهم الذين عانوا كثيرًا في بلد لا يفتقر للثروات ولكنه ابتلي بالفساد وسوء الإدارة.

إن كنت في الحلقات السابقة قد تناولت التطور السياسي في مجتمع محتقن بالعنف والكراهية، فإن الجانب الآخر ليس بالقتامة التي تبدو على السطح، وأعني بالجانب الآخر التنمية الاقتصادية في بلد يبلغ تعداد سكانه ٣٩ مليون نسمة، ويمتلك ثروة هائلة من الموارد البشرية الطبيعية والمالية وموقعًا فريدًا كبوابة لجنوب القارة الإفريقية، وبنية تحتية متطورة بشكل جيد تشمل الطرق والسكك الحديدية والموانئ والبنوك المتطورة ونظم الاتصالات السلكية واللاسلكية المتقدمة.

وقبل الحديث عن الاقتصاد وفرص الاستثمار وسياسة الانفتاح ألفت النظر إلى الغياب العربي التام في بلد يعتبر أعظم قوة اقتصادية في إفريقيا، ففي الوقت الذي تتعود فيه رؤية العين على المجمعات الاقتصادية العملاقة والاستثمارات الغربية واليابانية في جنوب إفريقيا التي تخطو نحو المستقبل بثقة فإنك لا تكاد تلمح لافتة صغيرة لأي وجود عربي، وهو غياب لن نتبين مخاطره إلا في قادمات الأيام وسنكون كدأبنا آخر من يَرى وآخر من يَسمع.

خلال التجوال المبهر في جوهانسبرج العاصمة الاقتصادية لجنوب إفريقيا والتي توصف بحق بأنها «نيويورك إفريقيا»، تذكرت ما قاله روبرت ماكنمارا رئيس البنك الدولي قبل عشر سنوات «من أن الإصلاحات السياسية لن تتحقق إلا عبر الإصلاح الاقتصادي الذي يدعمه رجال الأعمال الأحرار الذين لا يؤمنون بسياسة التفرقة العنصرية».

تأخذُ هذه الحقيقة مداها إذا علمنا أن جنوب إفريقيا تلعب دورًا مؤثرًا في اقتصادات جنوب القارة، وخلال سنوات حظر التعامل والعقوبات كان لها علاقات واسعة مع أغلب الدول الإفريقية، حتى إن الصحف ذكرت أن أكثر من ٤٥ دولة من دول إفريقيا الخمسين لها علاقات تجارية مع جنوب إفريقيا أو تحصل على مساعدات منها.

للتدليل على هذا الواقع يقولُ اقتصادي بارز في جوهانسبرج «اقتصاديًا إذا عطست جنوب إفريقيا تصاب بقية دول القارة ببرد شديد إن لم يكن إنفلونزا»، وكل هذا يؤكد مخاطر الغياب العربي في بلد تجري فيه عملية جراحية ناجحة -حتى الآن- لإعادة تشكيله من جديد ويمتلك الثروة والتكنولوجيا والخبرة ويعتبر أكبر كنوز الثروات الطبيعية في العالم.

ويقولُ الدكتور جي إيه لامبرشت نائب المدير العام لوزارة التجارة والصناعة في بريتوريا: إن المستثمرين ومن خلال إقامة مؤسسات بجنوب إفريقيا يستطيعون الوصول إلى أكبر أسواق العالم، حيث يطرق أبوابنا بين ١١٠ إلى ١٨٠ مليون نسمة سنويًا.

لا أحد ينكر أنه لا يزال هناك قدر هائل من الشكوك حول التحول السياسي رغم التقدم الذي تم إحرازه من أجل خلق جنوب إفريقيا الجديدة، ولكن هذا لا يعني الغياب العربي بدعوى أن الطريق ما زال وعرًا.

ومع انتهاء العقوبات وهو أمر مقترن بتطور العملية السياسية فإن جنوب إفريقيا تستطيع أن تواصلَ تطورها الاقتصادي والصناعي.

ومثل السودان هناك دول قليلة جدًا في العالم تستطيع أن تضارع جنوب إفريقيا في حجم ثرواتها الطبيعية فاحتياطاتها تشكل ٤٤% من ذهب العالم و٦٩% من البلاتين و٥٤% من الكروم، كما تحتل جنوب إفريقيا المرتبة الخامسة في العالم في إنتاج النيكل، وبسبب ثرواتها الكامنة في باطن الأرض فإنه ليس من المستغرب أن تظل جنوب إفريقيا رائدة في تطوير التعدين واستخداماته خاصة في مجال التعدين العميق في باطن الأرض.

ويعتبر الفحم أكثر الثروات الطبيعية وفرة في جنوب إفريقيا كما يشكل المصدر الرئيسي للطاقة في ذلك البلد الرائد في مجال إنتاج الزيت من الفحم، وهذا أسلوب لتطوير الطاقة يحمل وعودًا كبيرة في المستقبل، وتظل أسعار المحروقات منخفضة نسبيًا خاصة عند مقارنتها بأوروبا، كما يتم تطوير مشروعات الغاز الطبيعي قبالة السواحل ومن أجل الاستفادة من مصادر المياه تعد الخطط الآن لزيادة الكهربائية المائية.

آملُ صادقًا أن يقرأ رجال السياسة في السودان يوميات هذه التجربة الإنسانية الرائدة للتحول السياسي الديمقراطي المدني ولاستثمار الثروات السودانية الكبيرة الظاهرة على سطح الأرض أو تلك الكامنة في المناطق التي تشهد الآن الحروب والتصفية العرقية في دارفور العزيزة، وعلينا أن نتوحدَ جميعًا لإنقاذ بلادنا من الضياع والهلاك والاحتراب الذي لا معنى له، فيما يعاني شعبنا الضياع السياسي والأزمات الاقتصادية والأمنيّة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى