عين علي الحرب / الجميل الفاضل : يوم قيامة “الإخوان”
لثمانية عشر شھرا يعيشُ أھل السودان تحت سُرادقِ، أطولِ “مأتم” نصبته الحرب.
لكن خلافا لعادة أھل السودان، الدارجون علي قطع المرارات في “الحشا”، أقول منافيا لنصح شاعرھم الكبير محمد الفيتوري الذي قطع ذات حشرجة صغيرة، بأن: “الحزن الأكبر ليس يقال”.
بيد أن حزني اليوم لابد أن يقال، لأنه حزن أكبر حتي من فاجعة الحرب، ومن مآسي الجوع، والأمراض والأوبئة، والأمطار والسيول المدمرة، وكل ويلات النزوح وعذابات اللجوء.
نعم ھو حزن ربما يصدر عن شعور يخصني يؤكد مقولة، “أن القمح مُر في حقول الآخرين، والماء مالح”، تلك الحقيقة التي قالھا الشاعر محمود درويش بعد أن ظن أن وطنه قد أضحي مجرد حقيبة، لكنھا تبقي حقيقة لم ندركھا نحن الا بعد أن صار بعضنا أيتاما في موائد لئام آخرين.
وبعد أن صرنا شعبا مبعثرا في كل واد، تطاردنا أشباحا مخيفة، وتغطينا ظلالا كئيبة.
فصرنا شعبا تحاصره من كل حدب وصوب، جيوش من الكوابيس المرعبة، والھموم الثقال.
ھي ھموم لم تنشأ عموما من فراغ، إذ أنھا في الواقع ثمرة مُرةٌ، ونتيجة مُخزية، لحصاد ھشيم “الإنقاذ” الذي تذروه اليوم الرياح.
المھم وبمختصر مفيد، كان “السيد المسيح” عليه السلام، قد وضع يوما، إصبعه مباشرة علي مثل ھذا القرح، الذي أصاب بلادنا اليوم في مقتل، وأي مقتل.. قائلا باختصار شديد ھكذا ضربة لازب: “الأنبياء الكذبة بثمارھم تعرفونھم”.
وللحقيقة ھو قول يصلح لأن يكون معيارا، نتعرف من خلاله علي مدي صدق كل من أدعي أمرا، من كذبه.
قول المسيح ھذا يعد قاعدة سھلة للغاية، تقول بكل بساطة أنظر لنوع الثمار التي جنيتھا من كل غرس، لتعرف نوع من زرعھا، وھل صَدَّقتِ تلك الثمار التي كان قد بذرھا آنفا، ما أدعاه من مزاعم قال بھا لاحقا، كبرت أو صغرت تلك المزاعم، أم كذبتها في يوم حصادھا ذات الثمار التي كان قد غرس بذورھا الأولي بيديه؟.
ورغم كل شيء، يظل معيار السيد المسيح، معيارا لا يمكن تطبيقه سوي في مراحل مثل ھذا الحصاد، إذ أن من بذر أشواكا، سيحصدها لا محالة أشواكا كما بذرھا اول مرة.
وھنا أتصور أننا ربما نجني الآن بھذه الحرب، أمرَّ ثمار نظام “الانقاذ”، ھذا النظام الذي مَثَّل مجرد وجوده وإستمراره، خطيئة كبري ومركبة، ظلت تمشي علي رؤوس الناس مر السحاب بلا ريث ولا عجل لثلاثين عاما او يزيد.
فالإنقاذ ھي “أم الكبائر” التي لعبت برأس السودان، ففككت أوصاله الي دولتين، ثم مزقت بتدبير محكم ماكر وخبيث نسيج مجتمعه الھش أو كادت، بل وأزھقت أرواح مئات الآلاف من أھل السودان في مجازر الإبادة بدافور وبغيرھا، ناھيك عن مليونين آخرين قضوا في حرب الجھاد المقدسة، ضد شعب جنوب السودان.
كما إمتھنت “الإنقاذ” كرامة الملايين من أھل ھذه البلاد، سجنا، وتضييقا، وتعذيبا مفضيا للإعاقة أو الموت، في “بيوت الأشباح” أو في “البيت الأبيض” بجوبا، وما خفي من ھذا الملف بالطبع، أعظم مما أعلم.
أو حتي بما تم من قطع معلن للأرزاق في أكبر مجزرة وظيفية عرفت باسم “الصالح العام”، راح ضحيتھا (600) الف موظف وعامل، وھو رقم كان قد أعلنه الرئيس المعزول بأمر الثورة نفسه، “عمر البشير”.
إنھا موبقات كبيرة يندي لھا الجبين، وقعت بعد أن جري إختطاف كامل للدولة، من قِبِلِ ھذا التنظيم الإخطبوطي، قبل أن يتم تجييرھا، بكافة أجھزتھا ومؤساساتھا، لصالح ھذا التنظيم الإخواني المعروف باسم “الحركة الاسلامية”.
ھذا التنظيم الذي إستباح من بعد كل موارد الدولة، ونھب ثرواتھا، وبدد مقدراتھا، ليتركھا قاعا صفصفا، خاوية علي عروشھا.
علي أية حال أتصور أن ھذه الحرب قد جاءت كجواب رد من القدر، علي كل ما ارتكب ھذا التنظيم من فساد في الأرض، ومن سفك للدماء، امتد لأكثر من ثلاثة عقود.
جواب أتي ھكذا ردا قاسيا علي الرسالة الخطأ، التي رمي بھا “الإخوان المسلمين” في البريد الخطأ، بريد “أھل السودان”، وفي الوقت الخطأ من العام (1989)، الي عين المكان الخطأ، ألذي ھو “السودان”.
إذ يبدو أن “يوم قيامة الإخوان”، يوم حسابھم، علي ما أغترفوا من جرائم، يوم طويل نسبيا، مقداره الي الآن علي الأقل، عام ونصف، قابل بالضرورة للزيادة، لا للنقصان.