الذاكرة السودانية: انقلاب عبود ونظرية المسلك الطبيعي
محمد الشيخ حسين
في مثل هذا اليوم قبل 66 عاما استولى الفريق إبراهيم عبود القائد العام الثاني للجيش السوداني بعد الاستقلال على السلطة في البلاد.
وتعيد جميع الروايات التي قدمت عن ملابسات انقلاب عبود إلى الأذهان الحكاية المشهورة عن السير والتر رالي الذي كان مسجونا في انجلترا فقرر أن يعكف على كتابة تاريخ العالم منذ القرون الأولى إلى عصره، و بينما هو في البرج الذي كان مسجونا فيه سمع ضوضاء، فنزل ووجد صراعا بين بعض االمسجونين، وأحدهم قتل زميله، فسأل بفضول عادي، فلاحظ أن كل واحد يقدم رواية مختلفة، وهذا شيء طبيعي، فأحدهم كان بجوار القاتل والآخر بجوار القتيل والثالث كان بعيدا وسمع الحكاية، فلما وجد اختلاف الناس في رواية حدثت قبل خمس دقائق، صعد إلى زنزانته ومزق الكتاب الذي يؤلفه، وقال كيف ساكتب كتابا عن تاريخ العالم الذي حدث منذ مئات السنين.
وسرد هذه الحكاية هنا لا يعني البدء في تمزيق الأوراق بقدر ما هي دعوة لفتح المزيد من الأوراق حول ملابسات انقلاب عبود. ومن بين هذه الأوراق المهمة كتاب اليعازر بعيري وهو يهودي ولد في ألمانيا ودرس في برلين وهاجر إلى فلسطين في 1937 والتحق بالجيش الإسرائيلي وشارك في حرب 1948، ثم انضم إلى حزب المابام، وكان مسؤولا عن الشئون العربية فيه.
المسلك الطبيعي
نشر اليعازر بعيري كتابه (ضباط الجيش والسياسة في المجتمع العربي)، باللغة العبرية في 1967، وترجم ونشر باللغة الإنجليزية في 1970، ثم ترجمه بدر الرفاعي ونشرته سينا للنشر باللغة العربية في 1990.
وصف بعيري انقلاب عبود بـ (نظرية المسلك الطبيعي) إذ لاحظ أن بيان قائد الجيش السوداني الفريق إبراهيم عبود الذي أذاعه صباخ17 نوفمبر 1958، (تعبير عن فلسفة سياسية عامة).
وبعد أن يرسم البيان صورة قاتمة للأزمة التي مرت بها البلاد يقول (نتيجة لذلك ومن المسلك الطبيعي أن ينهض جيش البلاد ورجال الأمن لإيقاف هذه الفوضى ووضع حد نهائي لها). إذن تحدد الانقلاب بوصف المسلك الطبيعي.
ويخلص بعيري إلى أن بيان قائد الجيش السوداني يعبر عن وجهة نظر واسعة الانتشار ترى أن الانقلاب وإقامة دكتاتورية عسكرية ينبغي النظر إليه باعتباره المسار الطبيعي في التطور السياسي للدول العربية في العصر الحديث.
وعلى أية حال كان هذا رأي الكثيرين في السودان وفي غيره من البلاد العربية، وكذلك عدد من المراقبين الأجانب للواقع السياسي العربي. وكانت هناك بالفعل أنظمة للحكم يرأسها ضباط الجيش في مصر وسوريا والعراق، وهي البلاد الرائدة في الشرق الأوسط، وحتى لبنان كانت الحرب قد انتهت وانتخب رئيس الأركان فؤاد شهاب رئيسا للجمهورية.
رغم أن هناك رواية متماسكة لتبرير الظروف التي قادت عبد الله خليل إلى تسليم السلطة للجيش، إلا أن ما قام به الفريق عبود من استيلاء على السلطة لم يكن انقلابا عسكريا بقدر ما هي عملية تسليم وتسلم بين ضباط 17 نوفمبر ورئيس الوزراء عبد الله خليل الذي أجبرته الظروف السياسية على تلك الخطوة، وهنا يتعين علينا أن نقدم لمحات موجزة عن عبود وظروف حكمه وكيف سارت البلاد في سنوات حكمه الستة.
*****
ولد الفريق إبراهيم عبود ثاني رئيس للسودان وقائد أول انقلاب عسكري فيه، يوم 26 أكتوبر 1900 في محمد قول في شرق السودان. وتوفي في الخرطوم يوم 8 سبتمبر 1983.
واسمه إبراهيم أحمد البشير أحمد عبود وجده أحمد عبود هو شقيق مهيرة بت عبود وأشهر أبناء الشيخ عبود. وإبراهيم عبود شايقى سوارابي له جزور في أوسلي.
أما والده فهو أحمد البشير عبود الموظَّف بنقطة محمد قول الجمركية التابعة لمصلحة الجمارك السودانية وهذه النقطة تقع على ساحل البحر الأحمر. ووالدته هي عائشة الجعلي عمة الفريق أحمد محمد الجعلي أول قائد عام للجيش السوداني.
**********
نشأ إبراهيم عبود في مدينة سواكن ودرس في مدرستها الوسطى. ثم التحق بكلية غوردون التذكارية، وتخرج فيها مهندساً عام 1917.
اختير إبراهيم عبود طالبا بالكلية الحربية المصرية وتخرج فيها ضابطًا عام 1918م.
عمل إبراهيم عبود بسلاح قسم الأشغال العسكرية بالجيش المصري، حتى انسحاب القوات المصرية من السودان في عام 1924م.
*********
انضم إبراهيم عبود إلى قوة دفاع السودان، وعمل في سلاح خدمة السودان وفرقة العرب الشرقية وفرقة البيادة.
خدم إبراهيم عبود أثناء الحرب العالمية الثانية في الجيش البريطاني في إرتريا، إثيوپيا وشمال أفريقيا.
عين إبراهيم عبود قمنداناً لسلاح خدمة السودان عند السودنة، ورقي إلى رتبة أميرلاي عام 1951م.
نقل إبراهيم عبود إلى رئاسة قوة الدفاع كأركان حرب ثم ترقى إلى منصب نائب القائد العام عام 1954م.
وفي عام 1954م أصبح الفريق أحمد محمد قائدا للجيش السوداني بعد انسحاب القوات الأجنبية من السودان تمهيدا لاستقلاله. ولما تقاعد خلفه الفريق إبراهيم عبود على المنصب.
***************
قاد إبراهيم عبود أول انقلاب عسكري بالسودان في 17 نوفمبر 1958م. وكانت حقيقة هذا الانقلاب عملية تسليم للسلطة من رئيس وزرائها آنذاك عبد الله خليل الذي دفعته الخلافات المتفاقمة بين الأحزاب السودانية داخلها وفيما بينها، إلى تسليم السلطة للجيش. وجاءت خطوة تسليم رئيس الوزراء السلطة للجيش تعبيراً عن حسمه لخلافات داخل حزبه، وخلافات مع أحزاب أخرى.
************
بعد أن استلم إبراهيم عبود السلطة بارك انقلابه كل من السيد عبد الرحمن المهدي زعيم الأنصار، والسيد علي الميرغني زعيم الختمية. ولكن انخرط في معارضته معظم الأحزاب السودانية وقاد المعارضة كل من السيد إسماعيل الأزهري رئيس الحزب الوطني الاتحادي والسيد الصديق المهدي رئيس حزب الأمة.
استلم إبراهيم عبود السلطة، وأوقف العمل بالدستور، وألغى البرلمان، وقضى على نشاط الأحزاب السياسية. واتجه حكمه باتجاه التضييق على العمل الحزبي والسياسي وقد حل الأحزاب وصادر دورها. كما اتخذ سياسة فاقمت من مشكلة جنوب السودان. ومنح المجالس المحلية المزيد من السلطة وحرية العمل.
*******************
قضي الفريق إبراهيم عبود ست سنوات في حكم السودان من 1958 إلى 1964، وشهد السودان في عهده خطواته في التنمية بعد الاستقلال. وأرسى أقوى البنى التحتية لاقتصاد السودان مثل إنشاء السدود ومصانع السكر والنسيج والصناعات الغذائية وتأسيس وتوسيع المشاريع الزراعية بشقيها النباتي والحيواني ومد خطوط السكك الحديدية جنوبا حتى واو وغربا حتى نيالا واستبدل قاطرات البخار بقاطرات الديزل.
*****************
على صعيد التنمية شهدت سنوات حكم الفريق إبراهيم عبود الست طفرة كبرى، وهذه بعض من إنجازاته الكثيرة في المحالات المختلفة.