البرهان في مواجهة المجتمع الدولي: الفيتو الروسي طوق نجاة مؤقت.
استخدمت روسيا حق النقض (الفيتو) لإسقاط مشروع قرار مشترك قدمته المملكة المتحدة وسيراليون في مجلس الأمن، أمس الاثنين 18 نوفمبر. وكان مشروع القرار يهدف إلى وقف فوري للاقتتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وحماية المدنيين المتضررين من الحرب المستمرة التي اندلعت في السودان منذ 15 أبريل 2023.مشروع القرار دعا، إلى جانب وقف الحرب وحماية المدنيين، إلى الامتناع عن “التدخل الخارجي الذي يؤجج الصراع”، كما طالب الأطراف المتحاربة باحترام الالتزامات السابقة بحماية المدنيين، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية بسرعة وأمان.▪ تفاصيل الجلسة:ترأست السفيرة البريطانية جلسة مجلس الأمن وأعلنت تعليقها لفترة قصيرة بناءً على طلب السفير الفرنسي لإجراء مشاورات مغلقة بين الأعضاء. بعد التشاور، تم استئناف الجلسة والتصويت على مشروع القرار، حيث حصل على تأييد 14 عضوًا من أصل 15.رغم التأييد الكبير، استخدمت روسيا حق الفيتو لتعطيل القرار. ووفقًا لتقارير صحفية، أشار أحد الدبلوماسيين الحاضرين إلى أن روسيا أدلت بتعليقات كثيرة خلال مشاورات ما قبل التصويت، أظهرت انحيازها الواضح إلى جانب قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان.▪ ردود الأفعال داخل المجلس:بعد استخدام روسيا للفيتو، وجهت السفيرة الأمريكية “ليندا توماس غرينفيلد” انتقادًا حادًا، قائلة إن روسيا “تزعم أنها تؤيد الأفارقة وتقف إلى جانبهم، لكنها تصوت ضد قرار يدعمه الأفارقة ويخدم مصالحهم”، ووصفت معارضة روسيا بأنها “غير مقبولة”.بدوره، أدلى وزير الخارجية البريطاني “ديفيد لامي” بتصريح قوي، قال فيه:“لقد حال بلد واحد دون صدور موقف موحد لمجلس الأمن. هذا الفيتو الروسي مشين، ويظهر للعالم الوجه الحقيقي لروسيا.”واتهم لامي روسيا بأنها عدوة السلام، مشيرًا إلى معاناة المدنيين في السودان من العنف الذي وصفه بأنه “ندبة على الضمير الجماعي”. كما وجه انتقادات للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قائلاً:“عار على بوتين لشن حرب عدوانية على أوكرانيا، وعار عليه لاستخدام مرتزقته لإثارة الفوضى والعنف في أفريقيا. إنه يدفع السودانيين نحو القتل والجوع بينما يدّعي الوقوف مع السلام العالمي.”▪ سبب استخدام روسيا للفيتو:في تبريرها لاستخدام الفيتو، قالت موسكو عبر “ديمتري بوليانسكي”، مساعد السفير الروسي لدى الأمم المتحدة، إن مشروع القرار يخلو من أي إشارة إلى “السلطات الشرعية في السودان”، في إشارة إلى عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش السوداني، الذي أسس سلطته الحالية بعد الانقلاب العسكري في أكتوبر 2021، متخذاً من مدينة بورتسودان الساحلية عاصمة له بعد خروجه من العاصمة الخرطوم مضطراً عقب سيطرة قوات الدعم السريع على أجزاء واسعها منها، بما فيها القصر الرئاسي والقيادة العامة للجيش.يرى محللون سياسيون أن روسيا استغلت الوضع الراهن لتحقيق مكاسب استراتيجية في السودان. فالسودان يشعد حالة هشاشة شديدة بسبب الحرب وسقوط الدولة أصبح ميدانًا مناسبًا لتحقيق مصالح موسكو. ويعتقد المحللون أن البرهان، الذي يطمح إلى السيطرة المطلقة على البلاد، يقدم تنازلات كبيرة مقابل دعم روسيا له لتحقيق طموحاته في حكم البلاد.▪ الثمن الذي دفعه السودان:وفقًا لمصادر متعددة، كان ثمن الفيتو الروسي مرتفعًا، حيث قدم البرهان تنازلات ضخمة لتحقيق مصالح موسكو ، أهمها:🔺قاعدة عسكرية على البحر الأحمر:تشير مصادر عسكرية إلى أن البرهان أعاد إحياء اتفاق سابق مع روسيا لإنشاء قاعدة عسكرية بحرية على البحر الأحمر، لاستضافة سفن روسية، بما في ذلك سفن تعمل بالوقود النووي. الاتفاقية وُقّعت في أبريل الماضي خلال زيارة الجنرال الروسي “ميخائيل بوغدانوف” إلى بورتسودان – وهو مبعوث خاص للرئيس الروسي “بوتين ” إلى افريقيا، والمسؤول الرئيسي عن قوات الفيلق الافريقي (فاغنر Wagner سابقاً)-، وقد دخلت الاتفاقية حيز التنفيذ الآن.🔺ضمانات اقتصادية:أكد مسؤول بوزارة المالية أن وفدًا عالي المستوى من البنك المركزي الروسي زار بورتسودان في أغسطس الماضي لمناقشة تقديم ضمانات مالية ورهون لمشاريع طويلة الأجل تتعلق بالكهرباء ومواد نفطية وقمح إلى جانب أسلحة وامدادات عسكرية أخرى.🔺التنقيب عن المعادن:منحت الحكومة السودانية روسيا حقوق تنقيب كبيرة عن الذهب والمعادن الأخرى في مساحات شاسعة من السودان، تعادل مساحة بعض الدول، بما يشمل (اليورانيوم)، وخاصة في ولاية البحر الأحمر والولايات الشمالية.🔺اتفاقيات نفط وغاز:وقّع وزير الطاقة والنفط السوداني “محي الدين نعيم” في زيارته الأخيرة إلى روسيا اتفاقيات مع شركتي “ليغاسي كابيتال” و”بروم غاز” الروسيتين لتطوير استكشافات النفط والغاز في السودان، وقد وقعتا (الجمعة) قبل يومين من جلسة مجلس الأمن الدولي.▪ وصف الصفقات:قال محلل سياسي سوداني بارز، مقيم في القاهرة، طلب عدم الكشف عن هويته، ان البرهان ولانه مستجدّ سياسة وديكتاتور لا يرى أبعد من كرسي الحكم الذي يتطلع للجلوس عليه، لذلك يورط نفسه ويضعها في مواجهات خاسرة مع المجتمع الدولي، واصفاً الفيتو الروسي بانه عابر لا يحقق رغبات البرهان السلطوية المندفعة.وختم المحلل السياسي قائلاً: ” ما من رئيس دولة عادى العالم مستنجداً بروسيا إلا وسقط سقوطاً مريعاً”، مضيفاً لو أن روسيا تحمي أحد لقدمت الحماية لسلفه “عمر البشير” من السقوط وقد جاءها منكسراً طالباً الحماية”.ووصفت مصادر الاتفاقات بأنها “تنازل كامل” لمقدرات السودان، يقدمها البرهان لروسيا في سبيل تحقيق مصالحه الشخصية، مقابل دعم موسكو له سياسيًا وعسكريًا.▪ خاتمة:أظهر الفيتو الروسي في مجلس الأمن، والذي أوقف قرارًا يهدف إلى حماية المدنيين في السودان، كيف يتم تسخير (حق الفيتو) لخدمة المصالح السياسية بدلاً من القيم الإنسانية، ما يعزز الاستبداد، ويطيل أمد النزاعات، ويفاقم الأزمات الإنسانية، تاركًا ملايين الابرياء بلا ملجأ أو أمل.في حين تعمق هذه الصفقات هيمنة روسيا على السودان، فإنها تترك الشعب السوداني في مواجهة المزيد من المعاناة، مع استمرار الحرب وتدهور الأوضاع الإنسانية. ويبقى المجتمع الدولي مطالبًا بالتحرك الفوري لحماية المدنيين، وضمان عدم إفلات الأطراف المتورطة من المحاسبة بعيدًا عن الحسابات السياسية الضيقة.