الأعمدة

“أكتوبر” شهر الذكريات والأوراق المجهولة !

دخلت حرب أكتوبر دولاب الذكريات ، ربما لطبيعة الزمن ذاته، الذي يستمر دون توقف ويشهد أحداثا لا تقل في أهميتها عن عبور 73 ، تتوالى وتتلاحق ، عبر مسيرته المستمرة ..وربما بسبب “السياسة” التي منعت “أكتوبر” من التواصل مع أشقاءه : يناير ، فبراير، ابريل ، يونيو.. وباقي أفراد عائلة الميلاد المجيدة ، فانقطع تواصل الزمن ، ومعه فقد “أكتوبر” إحداثياته السياسية ـ الاجتماعية ، وبات مهددا بالتيه في فضاء الزمان، ما يهدد باختفاء الحقائق الكاملة لنتائج الحرب ..
عموما ، إذا كان لهذا السبب أو ذاك ، فلن يلغي حقيقة أن أكتوبر، دخل دولاب الذكريات ، المعلومة ، والمجهولة ..وللأخيرة قصة .. قد لا تكون الأخيرة.
في الذكرى الثانية والعشرين لانتصار أكتوبر المجيد فتحت إدارة الشئون المعنوية الباب أمام الصحفيين لإجراء مقابلات وحوارات صحفية مع أبطال ورموز لحرب أكتوبر ، وكان من حسن طالعي أن تلقى أمامي ، بالمصادفة أحيانا ، والقصد أحيان أخرى ، بعض من تلك الأوراق ، تكشف بعض من تفاصيل ذات دلالات كبرى ، لأحداث يعرفها الرأي العام .. بيد أن الأوراق المجهولة للحرب ، كشفت للرأي العام للمرة الأولى ، عن بعض أسماء الضباط االذين ساهموا بدرجة عالية في تحقيق المفاجأة الاستراتيجية في الحرب ، مثل المقدم (ترقى إلى رتبة اللواء) باقي زكي يوسف ياقوت ،رئيس فرع المركبات بالجيش الثالت الميداني فى حرب أكتوبر، وصاحب فكرة استخدام ضغط المياة لإحداث ثغرات في الساتر الترابي لخط بارليف في سبتمبر عام 1969 والتي تم تنفيذها في حرب أكتوبر عام 1973 ..كان المعلوم من الحرب أن قواتتنا فتحت ثغرات الساتر االترابي لخط بارليف بقوة دفع المياة ، بينما كان اسم الضابط الذي اقترح على اللواء جمال علي ، مدير إدارة المهندسين ـ وقتها ـ ، فتح الثغرات بأسلوب تجريف المياة ، غير معلوم للغالبية من الرأي العام .
ومن الأوراق المجهولة أيضا ، أسماء قادة عظام كشفوا لي خلال الحوار معها ، عن طرائف “قاتلة” مثل اللواء (ترقى إلى رتبة االفريق) عبد المنعم واصل القائد البطل للجيش الثالث الميداني أثناء الحرب ، والذي اعتقدت القيادة العامة للقوات المسلحة أنه نال الشهادة بعد سماعها دوي هائل لانفجار صاروخ اسرائيلي بجواره أثناء محادثتة اللاسلكية مع رئيس أركان حرب القوات المسلحة الفريق سعد الدين الشاذلي ، وتم تكليف اللواء فائق البوريني (القائد السابق) بتولي قيادة الجيش الثالث بدلا منه اعتقدا أن الصاروخ أودى بحياة المقاتل العظيم.. إلا أنه (رحمه الله) كان بسبعة أرواح كما قال للرئيس الراحل انور السادات خلال مكالمة للإطمئنان عليه.. لتعود أوضاع القيادة “كما كنت”.
إلا أن بعض الحقائق التي كشفت عنها لقاءاتي مع المقاتلين الذين شاركوا في الحرب ، عن ذكريات ” أكتوبر” تثير قضايا وملفات سياسية ما تزال حبيسة إلى اليوم داخل أدراج التاريخ ، نعجز عنها.. إلى الذكريات :
كان لوقوع العقيد عساف ياجوري قائد اللواء 190 مدرع في الأسر ، دويا إعلاميا هائلا في العالم كله ..وخلال الحوار مع النقيب (ترقى إلى رتبة العميد) يسري عمارة في أكتوبر 1995 ، قائد الفصيلة التي قام مقاتلوها بعملية الأسر ، كشف لي عن واقعة ، قد ترضي البعض ، وتغضب البعض الآخر ، إلا أن أبعادها وما وراءها ، له دلالات ، تتجاوز أية مشاعر إنسانية تحضر في التو واللحظة لتقييم الماضي بعيدا عن سياقه السياسي والاجتماعي في زمنه .. نبدأ الحكاية بأقوال السيد العميد يسري :
في أحد أوائل شهر يناير من العام 1971 ، كنت برتبة النقيب( يتذكر العميٍد يسري) وبعد استشهاد جندي كان عائدا للتو من حفل خطوبته ، عبرت دورية مصرية من قطاع فصيلتي بقيادة النقيب أحمد ابراهيم (استطلاع) إلى الضفة الشرقية.
وصلت الدورية هناك ونصبت كمينا لاصطياد أي مركبة أو أفراد تعبر منطقة الكمين .. وبالفعل دخلت عربة جيب إسرائيلية ، فأطلقنا عليها النيران وأصيب 4 بداخلها وتم أسرهم مع النقيب دان أفيدان شمعون قائدهم، وكان بطلا للمصارعة بالقطاع الجنوبي العسكري الإسرائيلي ، ونظرا لضخامة جسده ، وإصابته بطلقات نارية في الفخذ ، طلبت الدورية مني (بالإتصال اللاسلكي) ، إرسال أفراد من الضفة الغربية إلى الشرقية لمعاونتهم على نقل الأسرى الأربعة.. وبالفعل ذهب إليهم الملازم أول أحمد عبد الرؤوف ومعه فردين وعبروا القناة وعادوا ومعهم أول أسير إسرائيلي يقع في أيادي رجال الفرقة الثانية مشاة.
استقبلت الدورية وأخذت الأسير إلى ملجأي واستدعيت الطبيب لمعالجته من الإصابات أن قواتهم أبادت قوة مصرية عبرت القناة ظهر اليوم.. وبعدها أدرت المؤشر على الإذاعة المصرية التي قالت أن قواتنا تمكنت من عبور القناة وأسر ضابط إسرائيلي برتبة نقيب .. أمسكت بالراديو وقلت للأسير : أحكم أنت .. من الكاذب مصر أم إسرائيل ، فسألني الأسير : أسمك إيه ؟ أجبت : جمال عبد الناصر / وما أسم الطبيب ؟ أجبت : جمال عبد الناصر / وما أسم الجندي الذي أصابني ؟ أجبت : جمال عبد الناصر .. نظر لي مندهشا وقال متسائلا ” كلكم جمال” / ضحك كل من كان معي في الملجأ وقالوا : أيوة .
دعونا قبل أن يتناول أحدنا “حكاية عبد الناصر” سواء بالمدح أو القدح ، في الرواية التي قدمها العميد يسري عمارة ، نلقي أولا نظرة سريعة على زمنها السياسي والاجتماعي :
الأول (السياسي ) كان مأزوما ، في أحد جوانبه ، بضغط من نخبة سياسية صاعدة قاعدتها الاجتماعية من طلاب الجامعات أعمارهم تتراوح ما بين (19 ـ 28 عاما) ، الغالبية الساحقة منهم ، أبناء الطبقة المتوسطة الذين حصلوا على تعليم مجاني بدون أعباء “تقريبا” ، ما دفع بإنفاقها على الأولويات يتجه إلى احتياجات أخرى لم تكن متوافرة من قبل (الترفيه مثلا ) .. باختصار كان زمنا سياسيا يبدأ وينتهي عند الطبقة الوسطى ، التي سيطرت نخبتها الاجتماعية على مفاصل الدولة والحياة.
استعادت الحركة الطلابية (الشبابية) زخمها وحضورها “التاريخي” في الحياة السياسية ، بعد هزيمة يونيو ، وخرجت في مظاهرات حاشدة داخل الجامعات تطالب بتشديد الأحكام على ضباط سلاح الطيران ) وبالديمقراطية والحريات السياسية ، ونعتت بعض قوى اليسار السياسى عبد الناصر نفسه ، ووصفته بالرجل الذي بلغ “الشيخوخة السياسية”..فقد كان تأثير االهزيمة على جيل الشباب الجامعي العام 1968 بالغ التأثير في الحياة المصرية عموما ، وكان يسري عمارة شابا مثل غيره من أبناء هذا الجيل الذي خرج مرة ليعارض عبد الناصر ، وخرج مرة ثانية لوداعه بالدموع.
بالنظر إلى هذا السياق العام الذي جرت خلاله وقائع حكاية ” أيوة كلنا عبد الناصر” ، يمكن فهم دوافع الشاب المصري ، النقيب يسري عمارة قائد الفصيلة ، لتعمده أن يدعي على نفسه اسم جمال عبد الناصر ، وبعيدا عن مشاعر الحب والكراهية لناصر ، كان جيل االشباب المقاتل على الجبهة ، لايختلفون عن غيرهم من الشباب في الجامعات ، جيل جديد نشأ وعاش وشاهد بلده يتحدى الغرب واسرائيل .
في هذا الزمن ، كان عبد الناصر ، يمثل التحدي الأخطر الذي يواجه المصالح الأمريكية والصهيونية في المنطقة ، خصوصا بعد انتصاره السياسي المدوي في العام 1956 ، وحصوله على “صك” الزعامة من التاريخ ، وبتوقيع من دول أفريقيا وأسيا وأمريكا اللاتينية (والطبع العرب)، وشهادة الغرب ذاته رغم العداء ، ما جعل منه ( كره البعض أو حب) رمزا من رموز حركة التحرر الوطني التي اجتاحت هذا الزمن الذي تلا الحرب العامية الثانية.
النقيب الشاب ، يسري عمارة ، المتخرج من الكلية الحربية ، ، والطبيب الشاب ، المتخرج من طب جامعة القاهرة ، والمجند الشاب الذي عاد بالضابط الإسرائيلي المصاب ، حاصل على دبلوم ( على ما يتذكر العميد يسري عمارة) ، كانوا أبناء شرعيين لجيل الشباب الذي رفض الهزيمة وقبل التحدي، وخاض معركة تحرير سيناء ،
ولأن أوضاع القتال لا تسعف لدردشة مع الأسير ، اختصر عمارة الوقت وأوجز وادعى أن أسماءهم واحدة (عبد الناصر) ، وبدلا من أن يقول له (افتراض) : لن نستسلم ونتحداكم، و “هانقرف عيشتكم” بالرصاص والقنص أوبالكمائن والإغارة على خط بارليف ، قال له اسمي جمال عبد الناصر، ليوجز الموضوع في كلمتين : لن نستسلم ونتحداكم .
الرموز ، يمكن وصفها تجاوزا بلغة الإشارة .. إذا شاهدت الهلال أو الصليب ، ستدرك على الفور إنه الدين الإسلامي أو المسيحي .. والرموز عموما ، قد تغنيك عن الاسترسال في شرح المعاني والدلالات .. والمشاعر الإنسانية تستطيع أن تحب أو تكره أي رمز ، لكنها لا تستطيع أن تلغي هوية الرمز ومقصده ودلالته .
الجين الوراثي المصري يحمل خاصية “التحدي” والدارس للتاريخ الاجتماعي للمصريين ، يعلم أن “التحدي” كان سر بقاء المصريين الذين واجهوا خطر الموت من النيل بسبب الفيضان ، وواجهوا التحدي ببناء السدود ، وبنوا ، حضارة يخلدها الزمان .. ولأن ناصر ، كان رمزا لخاصية التحدي (الجيني) لدى جيل الشباب في هذا الزمن ، أراد يسري عمارة الذي أسر عساف ياجوري لاحقا ، أن يسرع في توصيل رسالة التحدي .
الموقف من عبد الناصر عند المقاتل الشاب يسري عمارة ، على ما يبدو ، لا علاقة له بحب أو كره الرجل ، إنما كان موقفا وليد اللحظة ، لم يخطط لها الزمن.. لحظة “إنسانية” تتجمع خلالها الأفكار والمعاني والصور ، تتشابك جميعها وتتداخل فيما بينها، وتنتج سلوكا (رد فعل) في أقل من ثانية ، يكشف عن مقاصدك الحقيقية ..التحدي.
انتهت الرواية ، وسيبقى الكارهون لناصر والمحبين له على مواقفهم .. هكذا تعلمنا من الزمن.
****
بيد أن أهم الأوراق المجهولة التي ساقني إليها حسن الطالع ، كانت مع اللواء عبد المنعم خليل ، الذي تم استدعاءه من قيادة المنطقة العسكرية المركزية يوم 16 اكتوبر لتولى قيادة الجيش الثاني ، بعد إصابة قائده اللواء سعد مأمون بأزمة قلبية ، وداخل منزله الكائن في شارع نبيل الوقاد بمصر الجديدة تشرفت بالجلوس معه في شرفة المنزل وحدنا ، يواجه كل منا الآخر ، وبيننا في الوسط تماما ،طاولة ، زهرية بها أورق ذكريات القتال، وطاولة عليها مناورات الزمن التي دفعت به إلى خط النار بمجرد تخرجه العام 1942 من الكلية االحربية أثناء الحرب العالمية الثانية ، وحتى حرب أكتوبر 1973 ، مرورا بحروب فلسطين والعدوان الثلاثي على مصر 1956 ثم اليمن 1962، و 5 يونيو 1967، وحرب الاستنزاف.
لم تسعفني الذكريات المتلاحقة للاواء عبد االمنعم في بلوغ أسئلتي ، وحاولت المناورة بالزمن ، لنصب “منطقة كمين” داخل ذكرياته ، باستراتيجية “القفز” فوق الأحداث ، وتكتيك “الاستدراج” ، إلا أنه كان (رحمه الله) كريما معي ، ولم يمهلني كثيرا ، وكشف على الفور ـ ببصيرته ـ استراتيجي في القفز ، وتكتيك الاستدراج الذي استخدمه، ورمقني بنظرة ، كأنها من نظارة ميدان تستكشف مواقع العدو، فابتسمت ، ورفعت بعيناي ، راية الاستسلام ، ووقعت أسيرا لذكرياته عن حرب أكتوبر والثغرة ، وكتبت “تقرير قتال” ..ولهذا حديث منفصل.
.
أحمد عادل هاشم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى