الأعمدة

تَمَثُّلات التَنَوُّع الثقافي في الرواية السودانية

إعداد/ صديق الحلو

مدخل:

​المُنْجَز الإبداعي يشتمل على المُبدع، النَص والمُتَلَقِّي. وكان في المبتدأ ينظر الناقد إلى العلاقة بين المبدع والنص وكان الشعار وقتها:
“الأدب تعبير والأسلوب هو الرجل”. وتطور ذلك إلى أن صار النص هو الأساس؛ تفكيكه، تركيبه، تفسيره وتحليله، أهم ملامحه وكيف أُنتج. ثم تحوَّل الإهتمام من النص إلى القاريء المتلقي وكيف يستجيب ويتفاعل مع النص وكيف أن المتلقي يمكن أن يساعد في إعادة تأليف النص وإنتاجه.
​ثم هناك الإطار السردي، البيئة والمكان والتقاليد الفنية. والمعروف أن النص روح المبدع وعطاؤه الفني وللمتلقي موقف معرفي حيث كان الأثر الفني هو الشكل الخارجي المحسوس؛ فرؤية المبدع لما يراه. أمَّا الآن فاتحدت المادة والصور. الفعل والإنفعال ويقوم كل ذلك على التخيُّل الواعي لدى المبدع والمتلقي معاً. حيث تلتقِ الذات بالموضوع وتمتليء بالحيوية عند المتلقي والعمل الفني في آن.
التعدد والتَنَوُّع:
​الرواية السودانية على مدى خمسين عاماً ناقشت قضايا الهوية والدين والسياسة، قضايا المرأة واضطهادها، غياب الحريات، العبودية والرق، التصوُّف، الحروبات الكثيرة، العنصرية، البغض والكراهية، النزوح، الكوارث الطبيعية، الأمطار والسيول، الجوع والفقر، القهر والمهمشين، قاع المدينة وأبناء الشمس، ثقافة السلام، الفساد والمحسوبية واستغلال النفوذ. ونموذج لذلك رواية محمد سليمان الفكي الشاذلي (صقر الجديان)؛ استلهم فيها وقائع الحرب بين الشمال والجنوب – أطول حرب أهلية في أفريبقيا.
أيضاً نجد:
​نجد أن النقد السوداني درس مختلف الزوايا النحوية واللغوية والمجازية والإيقاعية والشكلية والموضوعية والمعرفية والتطبيقية والانطباعية.
أمثلة للنقاد:
فرَّاج الطيب، عبدالله الطيب، مختار عجوبة، علي المك، محمد الواثق.
ومن الجيل الجديد:
هاشم ميرغني، أحمد الصادق أحمد، لمياء شمَّت، عبدالرحمن الحبُّوب، عزالدين ميرغني، مصطفى الصاوي، مهدي بشرى.
​تعرَّضُوا لكافة المناهج المعروفة والتقنيات منها النفسية والإجتماعية والإقتصادية والسياسية والطبيعية؛ كل ذلك للحصول على حكم وبصيرة عميقة ورحبة من أجل تفسير النص وتحليله وتقويمه.
​المعروف أنَّ لكل سارد اختلاف في الإلتقاط والإنبثاق وعوامل الإستجابة الجمالية والإستعداد الفطري.
​من الروايات التي لم تجد الحظ الوافر من النشر لفرض السلطات الحظر عليها: رواية (الطواويس الغبشاء) لكاتبها عبده فضل الله؛ إذ تناولت الرواية عدة ثقافات. من بينها ثقافة إنسان المَسِيد وطالب العلم في الخلاوي، وتناولت النسيج الإجتماعي الجديد الذي يسمو بقيمة الإنسانية. إذ استطاع الكاتب فيها أن يُوَظِّف لشخوصه باختيارهم من مناطق مختلفة من رِقاع السودان ليحملوا ثقافات مختلفة مع وجودهم داخل رقعة واحدة وهي الخلوة ومسيد (أم ضوّاً بان).
​أيضاً رواية (حارس القبر) لكاتبها السيد محمود الحاج، والتي تمت مصادرتها من قِبَل السلطات في مطار الخرطوم قبل أن تكون في معية القاريء السوداني وكانت الرواية تتميز بحفرياتها التاريخية في ثقافة الإنسان السوداني؛ إذ تتبعت الأنمطة الحياتية له، وعرضت عدة آثار سلبية تنعكس منه واكتشف لنا منبع جزء كبير من المشاكل التي ما زلنا نعاني منها حتى الآن وهي التفرقة القبلية وسيطرة وهيمنة قوة واحدة على الأخرى. وكان الكاتب يعرض كل هذه الجوانب التاريخية والثقافية للإنسان القديم من خلال قصة حب وتجليات رومانسية ليعطي الرواية لونيات متعددة.
نُطَالِع في رواية (سقوط دستوبيا):
​رواية محمد عبدالله كبلو – هل ثمة شيء واحد حقيقي في (دستوبيا)؟
​رواية معبأة بالفظاعات والوحشية، الشر والإغتصاب، العنف والقتل وذلك الحزن والأسى. الرواية تتعرض لفترة قاتمة من تاريخ السودان القريب؛ زمن الإنقاذ الله لا عادها. دستوبيا تناقش قضايا الهوية، القهر والإستبداد. الحرية والعدالة من زوايا متعددة. خيال جارف وأحداث تفوق الواقع إثارةً وتشويقاً. نفوس شائهة وتفاصيل مقززة وعِبَرْ. الأحداث والأفكار وخلفيتها الإنقاذ بكل دمويتها. عين المبدع الراصد تكتب من ناحية جمالية، تُوَثِّق للأحداث الجسام التي هزَّت الوطن. وذلك القهر والوجع. كتابة تخاطب الروح وتهز الوجدان وفي الحلق غصة ومرارة، كدنا نضيع لولا فسحة الأمل. دستوبيا تفتح الجراح الصَدِئَة وتنظف الصديد.

تقنية الكتابة:
​الثيمة هي الصفة الغالبة للنص. كلمة من اللفظ اللاتيني “تايما” ويعني الشيء الذي نضعه. أمَّا الكلمة نفسها “ثيمة” فتعني الفكرة الأساسية أو التكوين الرئيسي للجملة أو النص. بمعنى الموضوعة التي تأخذ مساحة لتصبح محور. يمكن أن تُشير إلى مجموعة كلمات تنتمي إلى حقلٍ واحد لإعطاء دلالة معينة فتُصبح بؤرة.
فمثلاً:
​قد يكون النص موحياً بالحزن ويسيطر على الرواية أو القصة جوٌّ من الأسى فنقول أن الثيمة هنا هي ثيمة الحزن والأسى أو الفرح أو اليأس وهكذا دواليك.
​فهي صفة وليست عنصر وعُرِّفَتْ كذلك:
​أن الثيمة هي نظام توجيه يعمل بالتَصَوُّر الذاتي لخدمتك؛ إنها توجِّه قراراتك حول أي طريق تتخذه، أي الاختيارات ملائمة لروايتك وأيُّها ليست كذلك.
(رونالد . ب . توبياس)

الرواية السودانية كانت ولا زالت تعكس حال السودانيين ولسانهم الثقافي:
التعدد الثقافي ثراء للمكوِّن الراهن:
​إنَّ لكل سارد اختلاف في الميول والرغبات، كما أنَّ النص يشمل الرموز والإشارات والدلالات والصور.
​المُتَّلَقِّي يدرك ويلتقط هو الآخر، يفهم ويفسر ويوجه حسب قدراته وميوله واستعداده المعرفي. وهنا تأتي الخبرة حيث تتفاعل الذات مع الموضوع.
​مهم جداً بناء الخبرات والقدرات في كتابة وتلقي النص، وهنا يكتسب التخيُّل مكانة كبيرة في طريقة تشكله واستجابة للخبرة الجمالية المرتبطة بالتجارب والمفاهيم السابقة واللاحقة.

المُثاقفة المناطقية:
​تلعب كثير من الروايات على الموروث والفلكلور والتقاليد كما في روايات: (صائد اليرقات) لأمير تاج السر، (وقائع جبل مَرَّة) لمهند الدابي، رواية (هيلدا) لأحمد ضَحِيَّة، (نورسة النهر وأنثى الأبنوس والنخيل)، (نسيان ما لم يحدث) لعيسى الحلو، (أشجان البلدة القديمة) رواية أحمد ضحية. واقع مُتْرَع بالقهر والإستبداد، رواية (طاحونة العاجبة) لآمال عكاشة، رواية (المنتهكون) لسمية هندوسة، (مخيلة الخندريس) رواية عبدالعزيز بركة ساكن، رواية (ورشة داليانس) لمحمد الأمين مصطفى، (فريج المرر) لحامد الناظر، رواية (فشودة) لأحمد حسب الله الحاج، رواية (جسر شمانوب) لمروان حامد الرشيد.
قوة السبيكة في تنوعها:
​هناك كثير من الشباب ولجوا التجريب من أوسع أبوابه؛ الرواية النفسية والتداعي الحر… الواقعية السحرية وما بعدها فأنتجوا روايات تعتبر من الروائع؛ خاصةً التمازج العربي الأفريقي فأُنتج أدب وسرد خلاسي الملامح طازج وحار جعل للرواية السودانية ملامحها المتفردة بعناصرها التي بوأتها مكانة رفيعة وصارت مميزة حيث لعبت دوراً هاماً في إحداث التغيير في ثورة ديسمبر بالسودان والتي نالت إعجاب العالم وتقديره. وهنا أشير إلى عماد البليك، عيسى الحلو، وحمور زيادة حمور….سارة الجاك، بثينة خضر مكي، زينب بليل، هشام آدم، منصور الصويم، أسامة رقيعة، أحمد المصطفى الحاج، محمد خير عبدالله، سيف الدين حسن بابكر، محمد الخير حامد، عاطف الحاج سعيد، صلاح التنقاري، عادل سعد.
نتابع المشهد:
​رواية (عَاصِفٌ يا بحر) لعاطف الحاج سعيد؛ رواية عن المجهول، العصابات المتاجرة بالأعضاء والبشر، المروِّجين، شذاذ الآفاق والصعاليك.
​(عاصف يا بحر) كأنها حكايات من شهرزاد؛ غرائبية بتفاصل واقعية طازجة ومدهشة ومليئة بالإثارة. محتفية بالروائح والحب وتفاصيل الجسد.. ياللبهاء!
​يسير القبح والجمال في خطين متوازيين.. الخير والشر، التعصب والإرهاب، العنصرية والتطرف، الغلو في الدين، الإنتهازية، الحب والغضب.
​رواية كأنها فيلم سينمائي، مثيرة في تداعياتها، صور شديدة القسوة وحقائق تتوالد في كل ظرف. صفاء كانت قُبْلَتَهَا حاسمة ومُدَمِّرة؛ ساقتنا إلى القاعة الضخمة يوم أن ألقى الزعيم خطابه الشهير. في صوت صفاء تموجات موسيقية؛ يهيج الأحاسيس القديمة.
​يحكي عاصف عن نعمات ورائحة جسدها بشغف. عندما يسمع صوتها عاصف يُصاب بالرعشة، الخوف، التعامل مع المجهول، ما يثير قلقنا ذلك المصير المجهول لخمسين شخصاً من آسيا وأفريقيا كأنهم أمم متحدة.
​في لفتة مميزة كتب لنا عاطف الحاج سعيد وبأسلوب خاص وقدر كبير من الخيال رواية (عاصف يا بحر).

العلاقات الداخلية في النص:
كَتَبَ الرواة بالرمزية والتفكير الذهني المُجَرَّد وبثنائية الرمز وازدواجيته. في كل ذلك علينا أن نستصحب ظروف الراهن الذي كُتِبَت فيه روايات هؤلاء المبدعين.
المتلقي يحب ما هو مألوف ويرفض التجريب والمبدع مُغامر ويُحَلِّق في آفاقٍ بعيدة.
قراءة النصوص لا بد أن تتم من خلال المعايير النقدية المعروفة ودائماً الجديد مرفوض من الذائقة النمطية ولكنه يفرض نفسه على مر الأيام. بعض القُرَّاء يُقَوِّمون النص من خلال مبدعه سلباً أو إيجاباً وليس بطريقة موضوعية تشمل بناءه وعالمه الخاص.

سِمَات التحوُّل:
تجليات التجريب عند صلاح التنقاري:
​في رواية (شارع جوبا)؛ رواية عن الثورة والهوية. (شارع جوبا) البطل فيها المكان برمزيته. رواية كما الملحمة. الصور المتحركة والمشاهد فيها حيّة ومؤثرة.
​ينتقل طلال – بطل رواية شارع جوبا – من القاهرة إلى بيروت ويظل شارع جوبا بكل تفاصيله في ذاكرته. مطعم عوض بابور بدوره بطل مساعد.
​اللغة هنا مدهشة حد التكثيف. سحر السرد ومقدرة التنقاري على الإمساك بكل الخيوط، الواقعية السحرية وذلك الألق.
​استطاع الروائي صلاح التنقاري أن يأخذنا بشغف لأحداثه الشيِّقة كما قطع الشطرنج، التقطيع في جمل قصيرة، تجريب ومهنية وتكنيك باهر أخذنا بعيداً في مسارات شارع جوبا. في لغة شاعرية ناصعة ومهيبة كتب صلاح التنقاري شارع جوبا.
​بمقدرة على التكثيف والشاعرية ورغم انفصال جنوب السودان الحبيب إلا أن الوحدة لا زالت في الخاطر. دراما عالية الجودة كما في شارع مكة في رواية (طوق الحمام) للسعودية رجاء العالم.
​كتب صلاح التنقاري بلغة رفيعة ذات سقفٍ عالٍ. العذاب وبيوت الأشباح وسحل المعارضين، زمن المتاهة وعهد الإنقاذ الكالح.
​الوصف دقيق عند التنقاري والملاحظات شاملة لأهم خصائص الشارع. لقد خلَّد التنقاري شارع جوبا بالخرطوم بما فيه من مشاعر شخوصه والأشياء.
​الحبكة والتكنيك مسبوكان بعناية، التاريخ القذر للإنقاذ. هنا مُجَسَّد في سرد باهر سيرة وسرد لعهد ما زالت المخيلة به طازجة والسودان هو هذا التمازج الخلاسي لما يحمله من وجوه من الشرق والغرب والشمال والجنوب.
​لمس التنقاري قضايا الوطن، الوحدة والتسامح، السلام والهوية ومطعم عوض بابور كمنتدى يحوي كل ألوان الطيف. رواية مدينية بالكامل، استعمل التنقاري فنيات السينما، توالي الصور والفلاشباك.
تقنية الكتابة:
​النص في المبتدأ لغة؛ لا بد من إجادة هذه اللغة. إشارات ورموز وطريقة استعمال تلك اللغة لتوصيل الفكرة.
​كتب الروائيين السودانيين في هذا المضمار؛ رواية (تشريفة المغربي) لعمر فضل الله، (نايبوه أهزوجة المعارك القديمة – سيرة مكانية) لبشرى مهدي خريف، (فلين جذور الصفصاف) رواية جمال الدين علي، (خيانتئذ) رواية سارة الجاك، (المترجمة) رواية ليلى أبوالعلا، رواية (السواد المر) – معاون الخليفة الذي طعنته سبية يزيدية – لمحمد سليمان الفكي الشاذلي، (مواسم الغزل والدموع) رواية حسن عمر عبدالكريم، (رجل من دلقو) للحسن محمد سعيد، (حصار الأمكنة) لبثينة خضر، (مراسم العتمة) لإبراهيم الروسي، (مغرب الشمس) لبله آدم باشر، (الناجي الغريق) لممدوح أبَّارو، (الأحجية – سقوط شجرة الجميز) لسارة حمزة الجاك، (سرداب الذاكرة) رواية الشاذلي الفنُّوب، (أبوكلام) رواية للصبيان والصبايا من كل الأعمار لصلاح حسن أحمد، (حارة المُغني.. ولَّى المساء) رواية لليلى أبوالعلا، (قافية الراوي) رواية آن الصافي، (كاجومي) رواية هشام آدم محمد، (حبوبه طيَّاره) رواية علي إدريس، (جنوكورو) رواية جمال الدين علي، (فكي جنومنو) رواية الزين بانقا، (مارخدر) لعمر الصايم، (عطر نسائي) لعماد برَّاكة، (الخارج من معطف قوقول) لإسراء الريِّس.
بدايات التعدد الثقافي:
​في رواية (رحلة الشركسي من الشيشان إلى شيكان) رواية إبراهيم جبريل آدم، تظهر تجليات التعدد الثقافي في الرواية السودانية.
​الراوي الدرويش وكثير من الأسماء التاريخية المنا أبوالبتول، النور عنقرة، عبدالرحمن النجومي. رحلة الشركسي رواية عن الحرب والحب. موضوعيتها مستمدة من الأحداث والوقائع ومن اللاوعي حيث محور الرواية من الداخل.. كتابة حداثوية فيها الانفعالات والآمال والمخاوف. الراوي لا يتدخل في الأحداث وإنما تسير بمجراها في عالمها الخاص. هل يمكن اعتبار المهدي ميكافيلياً؟ فقد نجحَ نجاحاً دينياً واستخباراتياً وعسكرياً وسياسياً بوسائل شتى. رواية حيَّة وتمتاز بالحرارة والعمق حيث أنَّ الماضي ليس عقيماً وإننا لا يمكن أن نغمض أعيننا من الراهن وعلينا بناء عالم الغد وإنسانه.
​رواية تثير الإعجاب للمهارة البائنة. قال الحاج بلال:
” أنت لا تصلح تاجراً؛ إنَّ التاجر من يسيطر على عواطفه ويرى كل النساء سواء”. ليس هناك تناقض بين الخلق والوعي. عمل صبور وبناء منهجي في رحلة الشركسي من الشيشان إلى شيكان. رواية تحتفي بالمكان وتمثلها العقلاني فيها من التاريخ المنسي.
التنقيب من منطلق التجريب:
​رواية عيسى الحلو الأخيرة (نسيان ما لم يحدث) رواية فارقة كأنها عصارة ما توصل إليه في الكتابة الإبداعية؛ تجريب منقطع النظير كما عند كونديرا وبورخيس.
​تكنيك متقدم، مدهش ومذهل. وولوج سراديب سردية غير مطروقة كأنما هي شاشة كبيرة تعرض ملايين الصور في ذاكرة صلبة لا تُنْسَى وقرص مرن تتوالى عليه الأحداث منذ بدء الخليقة. والكشف عن أزمنة موغلة في القدم؛ منذ بعانخي والكنداكات والسلطنة الزرقاء، المهدية والعهود الحديثة.
​كتابة منسابة سلسة، تلج لب الواقع وتنفض الغبار من الممكن واللاممكن، وذاك المحتمل الذي يخاطب الراهن في جرأة غير معهودة.
​تناول الحلو المسكوت عنه في رؤية جديدة بذاك البهاء الذي يمتاز به عيسى الحلو والنضارة. وهذا العمق والتميز الذي نحسه في (نسيان ما لم يحدث).
​إذا كانت (نسيان ما لم يحدث) خرجت في بلاد العالم الأول لأُقيمت لها الإحتفالات والليالي النقدية ولرُفعت لها القبعات لما تمتاز به من كشوفات في عالم الرواية الحديثة وما بعد الحداثة وعالم اللارواية وما بعد الرواية.
​غامر عيسى الحلو فكان له ما أراد. وانتصر بنجاح باهر؛ تَفَوَّقَ فأسس لمدرسةٍ جديدة؛ قريبة صعبة المنال في آن. عَرَكَ الحياة وعرف خباياها. غاص كثيراً وأخرج (نسيان ما لم يحدث) دُرَّة تَتَوِّج عالم السرد الروائي في السودان. وجوهرة عصية التناول في عالم الحكي المحلي، الإقليمي والكوني.
​بوعي كامل أحدث التغيير وتوَّج تجربته في الكتابة إلى رواية مدهشة ناجحة رغم اختلافها عن السائد والمألوف. جازف عيسى الحلو فنال ما أراد. رواية جعلته في القمة لما امتاز به من جرأة وتجريب وهو قامة لا تخفى على أحد.
​وبوعي يصنع وشائج لا تمنع الذاكرة من ملامسة الأزمنة البعيدة. هذا التيه الأصفر الممتد لا وقائع يمكن رصدها بدقة ووضوح.
​(نسيان ما لم يحدث) تنتفي فيها قواعد وأصول السرد الحكائي. الأب والإبن يحبان الحلبية روجينا رزق. لا أحد يستطيع أن يثبت أو ينفي وكأننا واقعين في سحر يثير الحكاية من خيال إلى واقع إلى توهم. هي أرواح تحلق في سماء الذاكرة التي بلا حدود. من حصار الخرطوم وكرري حتى الراهن. وتحتضنها الصالة المستديرة في قصر المرايا باحدى الضواحي الجنوبية لريفي أم درمان.
​ رواية (نسيان ما لم يحدث) البطل فيها المكان بجدارة. الـﭬـــيلا التي بالمنطقة الجنوبية لريفي أم درمان الغربي. قصر المرايا حيث تدور الأحداث إذ أنَّ كل جوانبها مغطاة بالمرايا والزجاج المصقول.
​وللزمان دور فاعل وبها صراع الإرادات في كل العهود. الوطنية كأنما هي سيناريو جاهز لفيلم كبير كالملحمة.
​وهنا يطل ميلان كونديرا وعوالمه وعلاء الدين الأسواني في عمارة يعقوبيان. لا بد للمتلقي أن يكون مُلِمَّاً بالأحداث ومُكَمِّل لها ومُشَارِكاً فيها. عَارِفاً بديار الشانخاب، قلي والفشاشوية والحمراية وعلي ودحلو. كرري ومايو والإنقاذ. وكل ذلك الرفض وزبد البحر والقمم. وبذلك يكون مشاركاً في الأحداث وعارف بأدق الحيثيات ولو بعضها.
​الرواية فانتازيا من الخيال الدسم والحلم الجميل. كأنها أحاديث خرافة تبدو مثل سحابة ضخمة تلتمع فوق المكان وتنشر ظلها الذي يتسلل للوعي الجمعي والفردي على حدٍّ سواء. وكأنما هي حلم قابل للتصديق.
​رواية حاذقة تُربك المتلقي الذكي حتى يبدو الزيف أصلاً والأصل زيفاً. وهنا الروائيين الكبار كلهم حاضرين من كافكا وفيرجل، هوميروس، همنجواي وبورخيس. والـﭬـــيلا معلقة على خيط الذكريات التي لا تنضب وتنسى ما لم يحدث.
​رواية مجنونة تتعرض لكل الهم الإنسانسي من داعش وحتى كوﭬــــيد19 والسودان يتحوَّل من براءة الريف إلى التجربة والخبرة والمحتمل. والذي لم يحدث.
​النوراني يتربص بروجينا وكذلك ابنه أمين حقق ذاته فيها لما يمتاز به من الأنا العميقة. جاءت روجينا من بلاد الصقيع إلى هنا حيث الدماء تغلي بالعنف والشهوة.
​الرواية تعمل في المسافة بين ما حدث وما لم يحدث وصوت الراوي السارد يأتي من الصحو والمنام. حب الحياة من جانب وتدميرها من الجانب الآخر. والرواية تعمل منذ بدء الخليقة في الإنفجار العظيم الذي تَشَكّلَّت بعده السموات والأرض. وكان النوراني وابنه صورتان متغيرتان لأزمنة سحيقة ماضية ولأزمنة أكثر حداثة لم تأتِ بعد.
​اخترق أمين ظلمات البنت روجينا الحلبية وولج أغانيم اللذة التي لا تنطفيء مثل نيرانٍ أبدية.
​رواية (نسيان ما لم يحدث) تجمع الزمان السوداني، الزمان القومي الوطني والعمومي.
في سماء الصالة المستديرة سيدي المهيب ود تورشين هاجر إلى غرب البلاد ولم يكن طعم الهزيمة يسمح لمذاقات الحياة بالمرور. لقد امتلأت الأفواه والصور بالحزن والأسف واليأس وهو نفس الشعور الذي خرَّب عقل ووجدان الضمير السوداني كله واصبح سِمَة لازمة له جيلاً بعد جيل.
كانت الهزيمة جارحة تنغرس في جلودهم حتى العظم. حزنٌ عميق متسامي بارد وكئيب تَوَغَّل في الجينات وأصبح لعنة لا فكاك منها. الرواية لا تستطيع التفسير لأصل الأقدار التي تُظْهِرْ نفسها.
ويطل السؤال: هل التاريخ يعيد نفسه؟
الرواية تدور من الفتيحاب مروراً بأبي روف وحتى القماير. تداخل الأزمنة بسبب الوهم أو الخيال المفرط. ويوالي أمين النوراني سرد الحكاية عبر الأزمنة المُشَرَّبة بالغبار والنسيان وتلف الذاكرة التي تحاول أن لا تُنْسَى.
دَوَّنَ النوراني ما حدث أصلاً ثم نَسِيَّ فيما بعد.
اقترن الحزن والكآبة معاً وأصبحا حالة واحدة تُلازم الناس أجمعين ورغم ذلك الناس لا ينفكون من التساؤل: من نكون وكيف نكون ولماذا نحن ما نكون عليه الآن؟
ما تقوم عليه نواة الحكاية هل هي أم درمان المهدي أو أمدرمان الأربعينيات والخمسينيات والستينيات؟ أم هي أم درمان الراهن الآن في السابعة عشر من الألفية الثالثة؟ أين هو الراوي الحقيقي؟
إنها ذاكرات متعددة وهنا تراجيديا السرد الكبرى حيث يتصادم التاريخ والأدب والجغرافيا. لقد قتلت شفاهية الرؤى والسرد حقيقة الحكايات في البلاد الكبيرة. تفادى عيسى الحلو الشفاهة في رواية تأسر اللب والفؤاد والخاطر.
خاتمة:
​هناك كثير من النصوص الساذجة والمسطحة والضحلة. العادية والمكررة تهتم بقضايا خارجة من النص وتهدف إلى متعة الجماهير وليس هناك دور للقاريء في التفسير والتحليل والمشاركة في صنع النص. فهي لا تهز القاريء ولا تحركه.
​النصوص الجيِّدة لها تجربة جمالية كاملة ومعرفة في فضاءٍ عريض بلا أفق. يطرح أسئلة وجودية لا تنتهي ولا تتوقف. لديها قابلية لاستماع الأجوبة وتمتليء بدلالات ليس لها مستقر.
​قراءات متنوعة ومتعددة تدل على عظمة النص وخلوده. تتكرر القراءات للنص الثري فيزداد بدلالات وأبعاد يحملها. نجد ذلك عند الروَّاد عيسى الحلو، أحمد الفضل، مبارك الصادق، عثمان الحوري، إبراهيم إسحاق، الطيب صالح وآخرين.
​المبدع صاحب رؤية وطرق في نقل هذه الرؤية وأسلوب خاص. والناقد يُعنى بالنصوص أفقياً وعمودياً ويتابع تطوُّرها ولا يكتفي بالتذوُّق والإنطباع بل يحلل ويقوم بنظرية للمعالجة ويكون لديه موقف.
​نُقَّاد كنادر السماني، عامر محمدأحمد حسين، مجذوب عيدروس، عزالدين ميرغني، نبيل غالي، هاشم ميرغني، مصطفى الصاوي، النيل مكي قنديل، محمد الجيلاني، محمد حسن المجمر، صلاح محمد الحسن، محمد المهدي بشرى، أحمد الصادق، عبدالرحمن الحبوب، لمياء، شمَّت و عمر القنديل.
يهتمون بالأفكار والتجريد وحتى الرواية الكلاسيكية بفلسفة جمالية جديدة مما جعلهم يساعدون في فهم العمل وتذوقه. وبلفت نظر المبدع لفهم أدبه بإثارة الأسئلة مما يدفع بالمبدع للتقدم والتطور وهم يمتازون بالمعرفة والفراسة والبصيرة والحساسية الجديدة والوعي والدِرْبَة والمهارة.
​ينظرون إلى النص من كل إتجاه. زمن قراءة النص وزمن كتابته وتنتج من ذلك قراءة واعية وصحيحة حيث يتنمَّى إدراكنا ويهذب ذوقنا.
تتعدد القضايا في الرواية السودانية، تتشابك المواقف، ويكثر الجدل. فالسرود تحاول إعادة صياغة تفكير الإنسان وإعادة صياغة المتلقي فنياً ومعرفياً. فكان تميزها بالحوار الأصيل مما جعل لها سِمَات تتميَّز بها من غيرها في المحيط المحلي والإقليمي بعمقها وثراء بيئتها وكيماؤها الداخلية المعقدة. إنفعالاتها وما يكابد المبدع من مخاض وأجواء تساعد في تكوين النصوص مما يجعلها كائن حي يمشي بين الناس ككائن فريد لفت له الإنتباه العربي والأفريقي ورغم ذلك لم تصل الرواية السودانية إلى المركز العربي الأفريقي والعالمي لعدم الترجمة وقصور الإعلام.

المراجع:
* مجلة الموقف الأدبي – نوفمبر 1994.
* الخروج من التيه – دراسة في سلطة النص – دكتور عبدالعزيز حمودة.
* اللغة، السلطة، الخطاب – مقاربات نقدية – د.هاشم ميرغني.
* الكتابة مشروع إنحياز جمالي – دراسات في الرواية السودانية – صلاح عوض الله النعمان.
* أوراق في الثقافة السودانية – عبدالمنعم عجب الفيا.
* الرواية الجديدة والواقع – نتالي ساوروت ، آلان روب غريه – ترجمة/ رشيد بن جدو.
* إختفاء الأثر – مقاربات نقدية في السرد السودانية – د. هاشم ميرغني.
* تخوم السرد أرخبيل الحكايا – مقدمة في التقنية وسيسيولوجيا السرد في السودان – أحمد ضحية.

صديق الحلو
​​​​​​0907753690
Siddigelhilo9@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى