الأعمدة

الأستاذ الكبير بابكر عيسى يكتب : د. حسن النعمة … ثروة قومية

"المسكوت عنه" في حياة د. النعمة اكثر مما يعرفه القراء

بقلم/ بابكر عيسى أحمد:

هذا الرجل رغم المسافة أجد نفسي قريباً منه وكثير التفكير في حياته التي كانت حديقة غناء زاخرة بالفن والشعر والإبداع والدبلوماسية … لم أجلس إليه يوماً لأحاوره فقد كان كثير التسفار مثل طائر خرافي يجوب حول العالم شرقاً وغرباً ومثل الفراشة التي تبحث عن الرحيق في فنون الشعوب وآدابهم وتراثهم وفي عيون الناس البسطاء وبهاء الشوارع العريضة وقاعات المؤتمرات المضيئة.
الرجل الرائع والزاهد والنبيل هو الدبلوماسي والشاعر الدكتور حسن علي حسين النعمة الذي يمثل أيقونة لقطر -أسأل الله أن يمد في عمره وأن يمتعه بالصحة والعافية- ولعل أجمل اختياراته انه امتهن الدبلوماسية منذ عام 1975 بعد التدريس الذي عمل به خلال السنوات 1958 إلى 1962.
سطع نجمة في جميع المحافل التي عمل بها ابتداء من الهند التي ابتعث لها سفيراً بين أعوام 1975 وحتى 1989 وقضى بين ربوعها 15 عاماً نهل من معارفها الكثير وعمل سفيراً غير مقيم في كل من سيرلانكا و نيبال وتايلاند وسنغافورة وجمهورية المالديف من 1976 إلى 1989.
انتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث عين مندوباً دائماً لدولة قطر في الأمم المتحدة بنيويورك منذ ديسمبر 1989 حتى العام 1997 … و هذه المرحلة رغم ثرائها لم يتحدث عنها د. النعمة باسهاب يطفئ ظمأ المتعطشين للمعرفة، وكان سفيراً غير مقيم في كندا والبرازيل والأرجنتين وكوبا.
في نهاية فترة عمله في نيويورك التي استمرت إلى ما يقرب الستة سنوات عين سفيراً لدولة قطر في جمهورية تركيا وسفيراً غير مقيم لدى جمهورية اذربيجان وجمهورية جورجيا وجمهورية اوكرانيا … وشكل د. النعمة في كل تلك المحطات إضافة هامة وحيوية في تمتين علاقات بلاده بكل تلك الدول، وكان اختياره في كل موقع هو “الإختيار الذي وافق أهله”.
يسعدني كثيراً أنني دائم التواصل مع د. النعمة عبر “الواتساب” و أبعث له بمقالاتي الأسبوعية ورغم تواضع ما أكتبه قياسا بما عرف عن الرجل موسوعيته فإنه كان دائماً يشجعني بكلمات رقيقة مستذكراً دفء علاقته مع البروفيسور عبدالله الطيب في جامعة كامبريدج في بريطانيا لنيل الدراسات العليا وذهب إليها عام 1968 حيث قضى خمس سنوات لنيل الدكتوراة في الفكر الإنساني المقارن وتخرج العام 1975، و صديقه المسكون بالطيبة الروائي السوداني الرائع الطيب صالح -طيب الله ثراه- في لندن والدوحة والعديد من العواصم العالمية، كما لا يزال يذكر الشاعر السوداني المبدع -عليه رحمه الله- صلاح أحمد ابراهيم صاحب “غابة الأبنوس” وكان يرغب في ضم صلاح الذي كان يعمل سفيراً للسودان في الجزائر و”تركها مغاضبًا” إلى بعثة قطر لدى الأمم المتحدة غير أن سفارة قطر في باريس اختطفته واحتضنته حتى رحيله عن دنيانا.
عندما يتحدث د. النعمة عن السودان وعن امدرمان على وجه التحديد يخيل إليك أنك تستمع إلى رجل قادم للتو من دنقلا أو الدمر أو عطبرة فهو يعشق عطر السودان وأهل السودان وناس السودان.
أراه دائماً مهتماً وقلقاً بما يحدث في السودان وتقلباته السياسية وفقر أهله رغم ثرائهم أرضاً وفكراً وابداعاً.
صحوت فجأة صباح الثلاثاء وأنا أطرح على د. النعمة عدد من الأسئلة التي لم أجد لها أجوبة في القليل الذي نشر عن هذا الرجل الزاهد في الأضواء وفي البهرج الإعلامي … قد يكون الدكتور النعمة قد أجاب على بعض أسئلتي في ديوان “الشاعر حسن النعمة” الذي أعدته د. مريم عبدالرحمن النعيمي وأصدرته “كتارا” وقدم له الدكتور خالد بن ابراهيم السليطي المدير العام للحي الثقافي.
ولكن كل ذلك لم يكن كافياً ولا يشبع شهية الصحفي الباحث عن “المسكوت عنه” في أدب وفكر وحياة د. حسن النعمة.
من الأسئلة التي كانت أكثر إلحاحاً هو السر وراء تعلق د. النعمة بالهند ثقافة وناساً وتراثاً؟ ولماذا تعامل مع محطته الدبلوماسية الثانية في نيويورك بذلك الجفاء؟ وماذا وجد في تركيا -التراث والحضارة- أكثر مما وجد في غيرها من العواصم.
د. حسن النعمة كتاب يجب أن يقرأ من جديد ليقدم لنا عصارة تجربته الثرية والممتدة إلى أبناء وطنه، فالرجل في تقديري المتواضع “ثروة قومية” ليس لأهله في قطر بل على امتداد وطننا العربي العريض.
وأنا على يقين أن “المسكوت عنه” في حياة الدبلوماسي والشاعر والفيلسوف والمبدع د. النعمة أكثر بكثير مما نشر وعرف بين الناس.
عزائي -الذي لا يستند على يقين- أن هناك أوراقاً في مكان ما خط فيها العزيز د. النعمة بعض هذا المسكوت عنه.
كلما زرت أو مررت أو جلست بسوق واقف الذي وضع حضرة صاحب السمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني -أمد الله في عمره- بصماته التي لا تمحى، أتذكر د. النعمة الذي ولد في فريج الجسرة عام 1942 وعاش فيها طفولته وقلبه وعقله معلق بهذا السوق الذي مازال واقفاً في شموخ وبهاء، وأذكر أن الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك وخلال جولة بصحبة الأمير الوالد وصف ما شاهد بأنها عبقرية “الأصالة والمعاصرة” وهو القادم من باريس عاصمة الأصالة والمعاصرة.
د. النعمة في البدء والمنتهى كنز مملوء بالجواهر والدرر و ثروة في العمل الدبلوماسي والإبداع الشعري … وهو انسان يختزن كل طيبة وسماحة أهل قطر دائم الإبتسام في وجه من يعرف ومن لا يعرف.
أعتقد أنه من الأهمية بمكان أن يجلس عدد من الباحثين -بعد استئذانه- ليحكي لنا “أنت يا من رأى” شذرات مشبعة من تلك الذكريات، وأن يضاف ذلك البحث إلى مكتبة قطر الوطنية التي توثق لكل ما هو جميل ورائع ومعتق، وأن يكون هذا التوثيق مدخلاً لتوثيق الكثير من إشراقات أهل قطر الحاضرين والراحلين فإن هذا الإرث سيبقى للأجيال القادمة والترحم على روح المبدع عبدالعزيز ناصر والرجل القامة في الطب والشعر الدكتور حجر أحمد حجر البنعلي متعه الله بالصحة، رفقاء الدكتور النعمة في مشوار حياته وآخرين سنذكرهم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى