الأعمدة

الشكل يفضح المضمون في الشطرنج والسياسة

على رقعة اللعب ، يستطيع أى دارس لعلم الشطرنج أن يكشف استراتيجية صاحب الأحجار البيضاء في الهجوم ، ونظيرتها السوداء في الدفاع ،ويقرأ تكتيك المهاجم لاختراق حصون المنافس ، وكذلك تكتيك الدفاع ، بمجرد أن تتخذ الأحجار أوضاعها على المربعات وتبدأ في تكوين “الشكل” الهجومي” لها.. باختصار ينقلنا “الشكل” في الشطرنج إلى المضمون مباشرة دون وسيط ، حيث يكشف نوايا المهاجم والمدافع في آن ..وعلى تلك القاعدة ، يمكن أن نطالع “الشكل الأمني” الذي عليه الخليج العربي ، لعله يقودنا إلى مضمون السياسة وأهداف “تحركات” القيادات الخليجية قبل وأثناء الحرب الروسية ـ الأوكرانية

: نطالع “الشكل” على الخريطة الجيوسياسية أولا
ـ شبه منحرف .. رباعي الأضلاع غير المتساوية ..الضلع السفلي عند السعودية ، تحرسه 13 قاعدة عسكرية أمريكية وفي الخط الموازي شمالا (الضلع العلوي) ، الذي يمتد على طول الشاطيء الغربي لمياه الخليج العربي المواجه لإيران مباشرة ، تقع دول الكويت ، البحرين ، قطر ، الإمارات ، وعمان ، تحرسه 7 قواعد عسكرية أمريكية وتسهيلات بحرية للسفن الأمريكية في جميع موانيء الخليج.
ـ في اليسار ، يقع الضلع الثالث للمربع (العراق) وسط حراسة أمريكية مشددة قوامها ، خمسة قواعد عسكرية ..وأخيرا ، يغلق الضلع الأيمن الشكل “شبه المنحرف” للمربع الجيوسياسى للخليج ، خط ناري مستقيم يمتد من باب المندب حتى الحدود العمانية.
ـ في أعقاب ما يعرف بالربيع العربي ، وبضغط الأحداث المتسارعة في القاهرة وتونس وسوريا واليمن وليبيا ، اهتزت الأضلاع الأربعة عن أماكنها الجيوسياسية ، ومعها تمايل الملف الأمني للمنظومة العربية بأكملها ، وبدا المشهد في المنطقة أقرب إلى “الإسباكيتي” بتعبير الخبير الاستراتيجي الكبير ، الراحل د. مصطفى اللباد .. حيث تداخلت الأطراف المتصارعة فيما بينها بشكل يدعو إلى التعقيد ، لا تستطيع معه التفريقة بين الصديق و العدو.
ـ العام 2015 شهد تطورا ملحوظا في الضلع الشرقي (اليمن) اهتز بشدة بعد هجوم الحوثيين على عدن ، وتدخل السعودية بالقوة المسلحة (بطلب رئاسي يمني) ، بينما شهد الضلعين المتوازيين ، الجنوبي والشمالي، حركتان مهمتان لم تعرفهما الجغرافيا السياسية للخليج من قبل .. الأولى عندما التقى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الكرملين ، في زيارة هي الأولى من نوعها في تاريخ المملكة
ـ و الثاني كان العام 2020 ، في خط الشمال (الضلع الأول ) الموازي للمملكة ،عندما توصلت الكويت،الإمارات بقيادة السعودية ، إلى إتفاق تاريخي ، يوافق خلاله العرب على الانضمام إلى مجموعة “بلاس” التي تشكلت في أعقاب معركة أسعار النفط (2015ـ2016) وتلزم المنتجين بسقف أعلى من الإنتاج من أجل استقرار أسعار الطاقة ، والمفارقة أن الإتفاقية تمت بوساطة من السيد ترامب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.
ـ في 13 أغسطس 2020، حدث الاهتزاز الأكبر والأخطر في الملف الأمني الخليجي ، على إثر إعلان أبو ظبي عن اتفاق بين ولي العهد محمد بن زايد آل نهيان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ، بمباركة من الرئيس ترمب يبدأ معه تطبيع العلاقات بين البلدين.
ـ في أكتوبر 2020 ، أشار الشيخ محمد بن زايد في تغريده له على موقع “تويتر”، إلى تعزيز علاقات الشراكة الإستراتيجية بين أبو ظبي وموسكو ( تحرك جديد في الضلع الشمالي للشكل شبه المنحرف) “.
ـ مطلع يناير الماضي ، يتحرك “الخط” مرة أخرى إلى روسيا ويلتقي ولي عهد أبو ظبي الرئيس الروسي في الكرملين للتأكيد على الالتزام بإيقاف حرب أسعار النفط وفق اتفاقية “بلاس”
ـ التحركات الخليجية تتسارع خلال الحرب الجارية الآن في أوكرانيا .. الإمارات ، العضو حالي بمجلس الامن ورئيسه خلال الاسبوعين القادمين ، تمتنع عن التصويت داخل مجلس الأمن ضد قرار يدين روسيا.
ـ أخيرا العراق ، الضلع الرابع في “شبه المنحرف” غير مستقر على حاله منذ الدمار الذي لحق به أعقاب الغزو الأمريكي له العام 2003، ويتحرك إلى درجة الاهتزاز، يضربه الأمن من كافة الجوانب ، ويحاصره دستور طائفي يعادي فيه الناس بعضهم بعضا .
نحن إذن أمام تحركات في أضلاع “الشكل” ، يغير من أوضاعها المستقرة ، صحيح أنها تبدو صغيرة لا تحدث انحرافات حادة في أضلاعه ، إلا أن الحركة تلو الأخرى تتراكم ، في ظل أحداث مشتعلة بالنيران ، سواء من الجوار الإقليمي أو من الشرق هناك ، حيث الصواريخ والدبابات الروسية تضرب أوكرانيا ، تتحدى الغرب ، وتشعل أسعار النفط .. تراكم في التحركات السياسية لقادة الخليج ، قد يكشف عن مضمون جديد يتناغم مع الشكل الجديد للسياسة الخليجية في الأمن والاقتصاد.
إلى المضمون مباشرة :
ـ التحركات الخليجية صوب موسكو قد يكون بحثا عن بدائل “أمنية” ، للضمان الأمريكي الذي يقترب رصيده في البنوك السياسية الخليجية من النفاذ ، خصوصا بعد عجزها عن تركيع إيران ، وفشلها في مساعدة حليفها الأكبر في العالم العربي (السعودية) لتجاوز”المطب اليمني” بما كان متوقعا ولائقا بحليف لا يتأخرعند الدفع، فضلا عن الابتزاز المعهود منها باسم حقوق الإنسان (مقتل خاشقجي) ، وباسم “الخطر” الإيراني ، وباسم “حق” اسرائيل في الدفاع عن نفسها ، وبكل الأسماء التي تجعل من السعودية وليمة شهية على مائدة الابتزاز الأمريكي.
ـ كذلك الحصار الرباعي على قطر أضاف للحركة ، حركة ،(كما تقول الأمثال) ، حيث تناثرت أوراق “الملف الأمني” على الخريطة السياسية ، بعدما عجزت “الضمانة” الأمريكية عن الوفاء بتعهداتها في حل الخلافات بين قطر والرباعي العربي حول قضايا الأمن ، خصوصا المتعلق منها بالإرهاب ..ليبدأ بعدها الخليجيون أول محاولة لهم لفك الارتباط العضوي في الأمن مع الولايات المتحدة.
ـ الرئيس الفرنسي ماكرون ، يتصل بولي العهد السعودي يطلب منه رفع زيادة الانتاج من النفط من اجل تعويض النقص المتوقع بسبب الحرب في أوكرانيا ، ويرفض مجلس الوزراء برئاسة الملك سلمان بن عبد العزيز بحجة التزام المملكة باتفاق “بلاس” الذي وقع 2020 بين روسيا والمملكة بوساطة امريكية من ترامب تفسه من اجل استقرار اسعار الطاقة .. ولعلها المرة الأولى منذ انتهاء الحرب الباردة التي تتجه فيها السياسة السعودية ،إلى موسكو في شرق أوروبا وتبتعد قليلا عن السياق الغربي.
ـ أثناء الأيام الأولى من القتال في مدن أوكرانيا ، أجرى ولي عهد أبو ظبي اتصالا هاتفيا مع الرئيس بوتين ، أكد خلاله محمد بن زايد ـ وفقا للكرملين ـ على حق روسيا في ضمان أمنها القومي.
ـ قد يكون امتناع الامارات عن التصويت داخل مجلس الأمن ، من أجل مقايضة موسكو بالتصويت ضد الحوثيين في أي قرار أممي لاحق ، لكن ذلك لا يمنع حقيقة كسر الطوق الأمريكي حول الخليج ، بحثا عن مخارج وبدائل لملفات أمنية متأزمة ومحتقنة.
ـ مضمون التحركات الخليجية نحو موسكو ، إيجاد ممر آمن يمكن أن يلجأ إليه الخليج ‘ خصوصا إذا ما نجح بوتين في تحقيق أهدافه السياسية في أوكرانيا ، في ظل وضع جيوسياسي عربي متجمد بفعل السياسات الأمريكية ، نتج عنه عجز في إيجاد حلول لمشاكل الخليج الكبرى في الأمن.
ـ الإمارات بدورها تسعى إلى إيجاد ممر آمن ، يمكن اللجوء إليه إذا ما أوكلت الولايات المتحدة ، إسرائيل ، نيابة عنها في إدارة ملف الأمن الخليجي بدلا منها ، نظرا لانشغالها بالعملاقين الصيني والروسي ، وهو ما قد يفسر حالة التسارع نحو التقارب الإماراتي مع إسرائيل ، وتوثيق العلاقات الأمنية بينهما.
ـ بالتزامن ،عقدت الامارات صفقة شراء طائرات صينية في نفس الوقت الذي هددت فيه بالغاء صفقة طائرات اف 35 للشروط المجحفة التي اعلنتها امريكا
ـ أخيرا ، كان للحالة الأمنية في العراق (بأبعادها الداخلية والخارجية) تداعيات مهمة على الأمن الخليجي عموما ، حيث نتج عن فوضى التسليح هناك ، انكشاف استراتيجي للأمن شمال وشرق الخليج ، وكأن المشرحة ينقصها القتلى.
ـ الخلاصة : الخليج العربي تحت الحصار ، بمقتضيات الشكل (الجغرافيا) وضرورات المضمون (السياسة) ..الخليج العربي على موائد الطمع ، بمقتضيات الثروة ، وضرورة حمايتها (المضمون) .. ولأن الشكل يؤدي إلى المضمون مباشرة ، كما يقول الشطرنج ، فإن التحركات الخليجية باتجاه موسكو وتل أبييب ـ رغم مبرراتها ـ تبدو وكأنها تبحث عن قطع غيار لـ”أمن” يتفكك يعجز عن الحركة ،ويبحث عن ملاذات آمنة ولا يستطيع حتى أن يقول لميليشيات عسكرية قبلية : كش ملك.
أحمد عادل هاشم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى