الأعمدة

الأرواح النبيلة .. مقابلة مع الكاتب الألماني شتيفان هرملين

تقديم : أهدي هذا العمل الأبداعي للصديق الدكتور عبدالقادر الرفاعي الذي انتظرني طويلا في موسكو والتقينا ذات يوم جميل في صوفيا . الرفاعي مبدعا ومنتجا ومقاتلا في سبيل الاستنارة ونشر الوعي في بلادي . وفي الحقيقة ثمة أشياء لم تفقد قيمتها وأهميتها في هذه المرحلة من تطور الوضع السياسي والاجتماعي في السودان كما في العالم من حوله .
حينما عدت الى بلغاريا للمرة الثانية بتاريخ أول أبريل 1990 طالبا لشهادة الكتوراة كان المعسكر الاشتراكي يسلم قياده لمرحلة جديدة ومختلفة . في المكتبة الوطنية العتيده في العاصمة صوفيا حيث أمضيت أحلى سنوات عمري ومنذ سنوات الدراسة المبكرة في ذلك البلد المضياف باحثا عن المعرفة ويسلمني موج بحرها الواسع موجة بعد أخرى . بدا الشرق الأوروبي كله مختلفا هذه المرة . أرفف المكتبة الوطنية بدت لي مختلفة . طفت على سطح أرففها كتب من نوع آخر . بطعم آخر مختلف . وأصبحنا نقرأ أشياء مختلفة ونتعرف على كتابات طفت على سطح المكتبه تماما كما يشق الفطر طريقه من باطن الأرض . وتكاثرت وتنوعت وتعرفت من خلالها على أدب وأدباء آخرين . لم يعد الكسندر سولجنيتسن وحيدا في دائرته . تعرفت على كتابات رائعة للتشيكي فاتسلاف هافل الذي لم تكد تمر شهور كثيرة حتى أصبح أول رئيس لجمهورية التشيك مابعد حقبة الاشتراكية الواقعية . وقرأت لكتاب بعثت في أعمالهم الحياة من جديد وأعيدوا لأماكنهم وسط الأرشيف بالمكتبه الوطنية ، وغالبهم من مبدعي الحقبة الستالينية .
باختصار ماقرأته خلال أشهر قليلة وماسمعته عبر شاشات التلفزيون البلغاري وماشاهدته بنفسي من جموع وهتافات في شوارع العاصمة صوفيا أكد لي ماكان يساورني منذ قدومي الأول الى بلغاريا وتجربتي الشخصية فيها بأن ثمة شئ معطوب في كل المنظومة الإشتراكية . هذه المقابلة التي اخترتها تعبر وبعممق ماتفعله الديمقراطية الاشتراكية في الفرد داخل المنظومة الحزبية . لقد عبر عن هذه التجربة المريعة في الديمقراطية المركزية رئيس جهاز المخابرات في المانيا الديمقراطية ( شتازي ) ماركوس فولف في ذلك المؤتمر الصحفي وكنت حضورا به حينما قدم كتابه المترجم الى اللغة البلغارية ماجرى لوالده ورفاقه . لقد آمنوا وبشكل حاسم أن كل تلك المجازر التي سمعوا بها لم يرتكبها جوزيف ستالين وإنما هي من صنع (اللعين ) بيريا . وحتى آخر لحظة حينما اقتيدوا الى المقصلة كانت قناعتهم هذه لم تتزحزح . ما أنشره هنا ترجمة لمقابلة هامة ظللت محتفظا بها وقراتها مرات ومرات ، وتأملت فيها كثيرا ففيها من الدروس الكثير . قمت بترجمتها عن صحيفة ” كلتورا ” البلغارية والتي بدورها نقلتها عن الألمانية وقد أجريت مع ستيفان هرملين الكاتب الألماني ، والذي أجرى الحوار أحد تلامذته و أحد مثقفي المانيا فريتس رادتس .
وستيفان هرملين كاتب ألماني معروف من المانيا الشرقية وكان أحد نشطاء المعارضة المعروفين . انضم للحركة الشيوعية منذ صغره . وشارك في المعارضة السرية لحكم هتلر عقب توليه الحكم في المانيا . وشارك في الحرب الأهلية في أسبانيا ، ثم هاجر فيما بعد الى فرنسا حيث التحق بالمعارضة السرية الفرنسية للنازية ، ثم رحل الى سويسرا . عمل هرملين لفترة قصيرة في راديو فرانكفورت تحت قيادة غولدمان ابن الكاتب الألماني توماس مان . عقب ذلك توجه الى برلين الشرقية . في المانيا الشرقية وجد نشاطه الأدبي اقبالا كبيرا حيث نال العديد من جوائز الدولة . غير أن ابداعه ومؤلفاته وشخصيته كانت مثار جدل واختلف حول تقييمها الناس ، رأى البعض فيه ملهما لجيل الشباب من المبدعين . ورأى البعض الاخر فيه منهزما متراجعا أمام هونيكر ورجل مساومات ومجرد (مفتي) للحزب .
وقد نشرت هذه المقابلة صحيفة ” ذي تسايت ” في احتفالية بمناسبة بلوغه سن التسعين عاما ، ونشرت في منتصف التسعينات وعرض فيها بشكل دقيق رأي جيله وأفكاره :
*سؤال – هل فضلت أن تستقل بكل وعيك قاصدا أم حدث ذلك مصادفة ؟ وكمثال أحد أشهر قصائدك كانت ” رماد بيركيتاو “. لكن ليس لك قصيدة لماندلشتام أو لاسحق بابيل لماذا ؟
بالامكان ان تقول هذا . فقد جسدت معاصري الذين لم يشاركوا في معاركنا لكن فيما بعد شعروا بأنهم معنيون بالكتابة عن بابيل واخماتوفا وكثيرون اخرين . وكأنما قد شاركوهم معاركهم ومعاناتهم وهذا مالم يحدث هكذا . ذات مرة سألني أحدهم هل كان لدي علم بأن ستالين سفاح ؟ اجبته : بالطبع كنت على علم .
*منذ متى ؟
– بالتأكيد منذ مؤتمر الحزب العشرين عام 1956 ، وقتها كنت أنا وكذلك الغالبية من اعضاء الحزب قد علمنا بأعمال ستالين البربرية . وقبل ذلك كان لدي شكوكي ولكن لم تكن لدي معرفة دقيقة بالأمر ، وبالطبع كنت أرفض مثل هذه الفكرة .
* – في احدى المقابلات مع أولاهان قلتم ” لقد كانت كلمتي ان ماندلشتام يعيش في هدوء في مكان ما ، وفي الواقع كان ذلك انكار جاهل . لقد كانت معلوماتي سيئة لأنني أردت أن تكون كذلك ” هل هذا صحيح ؟
– نعم .
* – هذا يعني أنه كان هناك فلتر أدبي واخلاقي وسياسي !!
– نعم لقد كان ، وقد قلت ذلك بكل وضوح في تلك المقابلة عام 1978 . واعتقد وحتى ذلك الوقت لم يدل أحد منا نحن الكتاب الشيوعيون بكلمة واضحة بتلك الدرجة . وليس هناك مايدعوني الى التراجع عن أي كلمة قلتها .
* – وضح لي كيف يكون هذا الفلتر . كيف ظهر في وعيك ، وفي روحك وكيف تحملته كل هذا الوقت ؟ قلتم لقد أدركتم ذلك فقط بعد المؤتمر العشرين وقبل ذلك كنتم تشكون فقط في ان ستالين سفاح . وفي موضع اخر قلتم ” لقد تحالفت مع سفاح ضد سفاح اخر متوحش “.
– نعم بالضبط هكذا كان الأمر .
* – واليوم هل ستقول نفس الشيء ؟
– نعم سأقول نفس الشيء .
* – هل مثل هذا الفلتر مضر بالانسان؟ هل أضر بكم ؟
– ولو أضرني فهو ليس بأكثر من الاخرين لأنه لايوجد احد من الذين اتخذوا قرارا في ذلك الوقت قد سلم من الضرر . لا أحد . كان على الشخص ان يختار بين ان يصيبه الضر أو أن يجلس سليما معافى . اولئك الذين آثروا سلامتهم تلك الارواح النبيلة الذين لم ينطقوا بكلمة في أي من الاتجاهات ، وابتعدوا من هذه المعركة ، اولئك الذين لم يشاركوا فيها خرجوا سالمين وأنا لا أريد ان أخرج سليما وبهذه الطريقة .
* – هل بامكانكم وصف توماس مان بأنه روح نبيلة سليمة ؟ في الكلمة التي وجهها بالراديو ربما ذكر الكلمات الأكثر دقة حول الوحشية النازية وحول مسئولية الشعب الألماني وهو بذلك لم يلحق أي أذي بنفسه ؟
– بالطبع أضيف توماس مان للكتاب الذين شاركوا وبحزم في معركتنا آنذاك . لقد انطلق من موقف قومي ثم تحرك كثيرا نحو اليسار .
* – اسمحوا لي ومن خلال معايشتي الشخصية أن أوضح اكثر مغزى سؤالي . فلقد تعرفت عليكم منذ فترة مبكرة وكنت وقتها في السابعة عشر أو الثامنة عشرمن عمري ، وكثير الفضول شغوف بالمعرفة . ونحن الشباب لم نكن نعرف شيئا وبرزنا كالفطر ، فكيف يمكنني في السابعة عشر من العمر أن اسمع باسم تروتسكي أو أوريل ؟ لم نعرف شيئا وكان هرملين يحكي لنا عن أشياء متنوعة وقتها أثرت في كثيرا ، وبسببها كنت شديد الاعجاب به . لكنكم خبأتم في الواقع عنا الوجه الاخر . أنتم بالصيغة المفردة وبالجمع انتم جميعا بلوخ وبريخت وزيغرس جميعكم كنتم على علم بالمحاكمات في موسكو وكنتم على علم بأمر ” جي بي أو ” في اسبانيا – اثناء الحرب الأهلية في اسبانيا وقتلهم لأنصار الملك عام 1937 – وكأن شيئا من ذلك لم يحدث . ان التاريخ الذي علمتمونا إياه كان حكايا فارغة .
– طبيعي
* – إذن كيف عرفنا بالأشياء الأخرى ؟
– لقد تمكنتم . كنت انت مستقلا وهذه كلمة لها صوت ووقع حسن . لقد كان بإمكانكم البحث عن ما يعجبكم ويبدو لكم واقعيا . لكنني لم استطع . كان باستطاعتي أن أقود المعركة مع نفسي وداخلها فقط . لأنني كنت عضوا في الحزب وهو الذي بنى نشاطاتي وأسسها على الصمت عن الكثير من الحقائق ، وعندما كنا في عصر المعارك الكبرى هذه الحقائق بدت لنا خطرة ، لأن العدو كان يحيط بنا وكان في كل مكان وكان أكثر قوة منا .
* – ألم يكن من المهم بالنسبة للكاتب هرملين إطلاع جيل الشباب آنذاك ، لو أنه لم يخضع للتنظيم الحزبي ؟
– لا أستطيع ان أخلو الى نفسي . فهذا يعني .. أتذكر ماكنت عليه في الخمسينات ثم الستينات فما زلت نفس الشخص . أعلم ماذا على أن انتظر من نفسي ومن زملائي . ان الاشياء دائما تبدو من خلال هذا المنظور . مثلا لو أنني قلت في المقابلة مع اولاهان عام 1978 مباشرة بعض الاشياء لكرهت نفسي . فقد كان بمقدوري قول بعض الأشياء قبل خمس سنوات من ذلك التاريخ . لكن ظل هناك الخوف من قطع علاقاتي نهائيا مع زملائي . وهذا مالم أود فعله مطلقا . قد يكون ذلك خطأ .
* – لماذا احتاج شخص مثل ستيفان هرملين الى مثل هذا المجتمع الرفاقي ؟
– لأنه قد اختار أن يكون الى جانبهم .
* – هل هذه القرارات لايمكن أن تتبدل ؟
– بالتأكيد ممكن . لكن هذا عمل لايناسبني . فلقد جبلت على طريقة مختلفة ، منذ الصغر وللعديد من الاسباب اخترت أقصى الحركة العمالية اليسارية وبقيت هناك .
* – عن إيمان ؟
– نعم بالتأكيد .
* – بغض النظر عن الثمن ؟
– نعم . بغض النظر عن كوني قد اخترت توحشا عن توحش اخر . هذا الايمان دوما مايشفع لتاريخ الانسان . وحتى اليوم وفي هذه اللحظة لا أرى في أي بقعة في العالم شيئا يمكن أن يحل مكان هذه الحركة . وهي حركة قد تعود وبالتأكيد ستعود .
* – تقولون ستعود ؟
– نعم سوف تعود وان كانت تحت شكل جديد . ان ذلك الذي جرى لن يتكرر أبدا وبنفس الطريقة . وقد تظهر من جديد وفي الغالب في شكل أسمى وأرقى ، بعد أن تصحح الأخطاء التي ارتكبتها والتخلص من سيئاتها . ستعود لأن المجتمع المعاصر ليس في وضع يستطيع معه حل المعضلات التي يعاني منها .
* – هل تتقبلون القسوة وعدم الرحمة كشرط للثورة ؟
– لقد حدث ذلك مع عيسى المسيح . لقد تعامل المسيح بشكل غير متسامح تماما مع التجار في المعبد الخ ..
* – الا ترون أن هذا يحمل مضمونا دينيا له علاقة بحزبكم ؟
– انتم على حق تماما . بالطبع إن الحزب كان دائما أشبه بالكنيسة . وقد كان اعضاء الحزب بدرجة أو بأخرى يأخذون ذلك في اعتبارهم على الرغم من ان الكثير من الشيوعيين قد احتجوا بشدة حينما حاول البعض مقارنتهم بالكنيسة . لكنني لم أجد أبدا مبررا للاحتجاج . ببساطة لأنني دائما كنت على وضوح من أن الاشتراكية الحديثة انبثقت من صلب التعاليم المسيحية ، وحتى من ماقبل المسيحية ، من الانبياء . ان العلاقة بين الأديان السماوية المعروفة والاشتراكية كانت دائما واضحة أمامي .
* – والتي منها أيضا انبثقت “قوانين اللعبة” ؟ لأن الكنيسة قد منعت كتبا وأحرقت هراطقة
– نعم كان أمرا طبيعيا .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى