موطئ قلم ) محمد عبد الله برقاوي.. / بيني وبينك والايام ..
امس 18فبراير تمر علينا الذكرى السنوية لرحيل العملاق الفنان محمد عثمان وردي ..عليه الرحمة والغفران .
فحينما كنت صبيا .. وكان همي كلُ همي واجباتي المدرسية وكان معنى الحبِ عندي قبلة من والديّا . على رأي الشاعر اليمني لطفي جعفر امان وقد غناها له الأستاذ حمد الريح. داهمني شغف آخر في تلك السن التي حرام عليها العشق .. فتمرد وجداني وأحب النغم الذي كان يتدلى من نافذة دكان القرية الوحيد في حاج السيد الحلاوين للخال الهادي محمد الأمين رحمه الله ومن ثم إنتقل ذلك الوله معي الى مناقزا حيث كنت اظن أن من يغنون او يتحدثون هم مصابيح المذياع التي ترسل ضوءاً من خلال ثقوبه الخلفية وأنا أجلس مع الكبار على خلاف اقراني في نادي القرية وقتها الواقع قريباً من منزلنا هديةً من الخالة السرة عبد الماجد ام قرشي وإخواته ..عليها رحمة الله وغفرانه . و ولم يكن المبنى مؤجرا طبعا قبل بنائه الحالي
كمركز للتنمية الإجتماعية !
لو ان احداً قال لي وقتها بانني سارى أي واحد ممن ينطلق صوتهم عبر الإذاعة لقلت له انك تكذب على عقلي الصغير !
ولكن يشاء الله ان أقابل الأستاذ محمد وردي في اوائل السبعينيات وهو نائب في لجنة الميثاق الوطني مع والدي وهم أعضاء معينين لدى اول برلمان في حكومة مايو التي تزعمها الرئيس الراحل المشير جعفر محمد نميري .
وحينما اختلف وردي مع ذلك النظام على خلفية تاييده لإنقلاب الرائد هاشم العطا ..1971 و قد خرج من معتقله العام 1973 وكان حبيسا في كوبر ومن ثم عاد الى مايكرفون الإذاعة و بعد ان ظل بعيداً عن شاشة التلفاز الحكومي لما يقارب العام ونصف .. وكنت متدربا حنيئذً بصحيفة الأيام العملاقة .. فكلفني محرر الصفحة الفنية استاذي رسام الكاريكاتير العظيم عزالدين عثمان بتغطية الحفل الأول لوردي بعد الإفراج عن صوته و الذي اقيم في إحدى ليالي رمضان الممتدة الي ما قبل السحور في حوش الإذاعة بام درمان وكنت برفقة مصور الصحيفة في ذلك الزمان الشاب امين بدوي الطاهر.
لم تمضِ ثلاث سنوات حتى هاجرت عن الوطن الى دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة ..!
ثم ترنح نظام نميري على حبال السقوط وبمرجيحة شريعته الشوهاء المسماة قوانين سبتمبر فخرج وردي الى اليمن للمشاركة في إحتفالات ثورة أكتوبر العشرينية بعدن .. ومن ثم عرّج على الإمارات فكنت على موعدٍ معه في لقاء صحفي مطول!
وفي عام 2003 كان حضوراً شرفياً في حفل تكريم الشعراء المغتربين الذي اقيم بدار جريدة المشاهدفي الخرطوم .. وقبلها حينما وضع عصا الترحال في قاهرة المعز بعد كارثة الإنقاذ .. كان قد شرفتي و اعترف بي كشاعرٍ .. وقد اهديته اغنية .. صورتك في الخيال فكرة ,, وصفِك زينة النبرة .. بكتب في غناك واقرأ .. اداوي الغصة بالذكرى !
إلتقيته مرة بعدها في عجمان ثم العين مع صديقي وأستاذي إسحق الحلنقي في أوئل التسعينيات .. ثم كانت آخر مرة قبل وفاته بعامين في دار الفنانين بأم درمان وهو يتوكأ على عصاه قوياً لا يستسلم ولا ينهار لصروف الزمن و معطيات العمر وقبضة المرض اللعين و إن كان مسنوداً على كتف مرافقه .. وكنت على يقين أن هذا الهرم لن يسقط من عمق ذاكرة الوجدان نغماً وفكرة وجسارة وإن غاب جسداً .. ولكنه سيبقى خالداً في العقول والشعور والعيون مثل إهرامات الفراعنة التي جرفها الإعلام شمالاً وإن كانت منابتها جنوباً وذهبت في إتجاه مجري المياه وليس التاريخ بالضرورة .