الأعمدة

حينما يصفعنا كف الحقيقة !

اصدق لحظات المواجهة مع النفس الإمارة بالسوء هي أن تحاول فيها الخروج عن مراية الذات التي ترى فيها وجهك لازال هو الاجمل وعمرك لا زال غضا زاهيا .. و أن تصغي إلى صوتك بمسامع الغير فتكتشف اين مكامن النشاز فيه .
فالكثيرون منا رجالا ونساء وبرغم عدد الاحفاد الذين باتوا يملأؤون الدار عطرا كالازهار و يضيئون جنباتها كالشموع حفظهم الله فإنهم لا يرون في ذلك دليلا على أن الزمن قد مضى بهم قدما إلى محطة يا جدو ويا حبوبة ..فتراهم يكابرون بالوقوف عند مربع بابا فلان وماما فلانة !
بل تجدهم دائما يتزينون ببضاعة العطار التي يراها غيرهم في خطوط الوجوه و سواد الشعر ليست ذات جدوى في إصلاح ما أفسده الدهر ..وهو حق قد تفرضه بعض الظروف ومقتضيات النشاط الاجتماعي احيانا .
في احدى رحلاتي الخارجية منذ سنوات وانا في منتصف الاربعينيات من عمري ونحن نشق ركام السحب و نسبح على متن الطائرة ما بين الأرض والسماء اقترب مني شاب ثلاثيني وناداني محييا كيفك يا عمو محمد …وذكرني بنفسه فقد كان والده صديقا قديما ..ساعتها أحسست بكف الحقيقة يصفعني بقوة ليوقظني من غفوة الشعور التي كانت تغيبني عن إدراك انني قد دخلت في مرحلة ابعدتني عن ايام الشباب و من يومها هيأت نفسي لما هو قادم من بقية الألقاب ..يا خال ..يا كبير..بل إن الأبناء أنفسهم لا سيما الاولاد دون البنات باتوا يستخدمون الان لقب الحاج أو الشايب .
والكثير من السيدات الكبار يتحرجن من سماع كلمة يا خالة خاصة إذا صدرت من الرجال غير الأقارب ..اما عبارة يا حبوبة فإنها تبدأ عندهن بلوي الفم يمينا ويسارا وقد تنتهي بالمقت والخصام !
ولكن اليس من الأجدر بنا أن نستسلم لواقع العمر الذي يتناقص مع اتساع رقعة وقارنا بين الأجيال التي ترى فينا القدوة و الخير والبركة ويكفينا ذلك رصيدا قيما يتلاشى معه وقع الألقاب والمسميات مهما كان صادما لأن الحقيقة تظل هي مثل الزمن نفسه الذي تتبدل ادوارنا فيه مع تقدم عجلات حياتنا صعودا نحو الأدوار العليا في العطاء بالحكمة و احترام الذات ..لأن مجرد الشعور بانحدار دورك في المجتمع بعد أن تجلس على كرسي التقاعد فذلك هو الاحباط بذاته الذي يكلس الركب و يقتل خلايا الدماغ و يذهب بنا قبل الأوان إلى الزهايمر والخرف ..بينما علينا فهم أن لكل مرحلة نعيشها اهميتها بالنسبة لمن هم حولنا وينبغي عليهم أن بعوها جيدا بالمقابل على الرغم من تفاوت المفاهيم وحداثة معطيات الحياة بين الأزمنة والحقب .
فالدهر لو تعلمون خؤرن ..
وكم ذبلت ازهار وحسان ..
لكن جمال الروح كالتبر..
براق وان تقضى زمان ..
فرببع الحسن إذا ولى ..
يبقى في العود انسان ..
وخريف العمر له غيمات..
تحيا من نشرها أغصان .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى