الأعمدة

ما أحوجنا للتسامح فكراً وممارسة لا تضيع وقتك في نقاشات لا فائدة من ورائها ولا طائلأ

بقلم/ بابكر عيسى احمد

 

 

استوقفتني مقطع بأحد وسائط التواصل الإجتماعي يتحدث عن جدل محتدم بين حمار ونمر حيث يرى الحمار أن العشب أزرق فيما يؤكد النمر أن العشب أخضر وبعد تصاعد الخلاف قررا الإحتكام للأسد … فقال الحمار: يا سيدي أليس لون العشب أزرق؟ فأجابه الأسد: إن كنت تعتقد ذلك فإن لون العشب أزرق و كلامك صحيح … و سارع الحمار فرحاً وقال: لقد خالفني النمر و ضايقني و أزعجني فأرجو أن تعاقبه، فأعلن ملك الغابة أن النمر سيعاقب و عليه أن يلتزم الصمت لمدة ثلاثة أيام … وقفز الحمار فرحاً وهو يردد إن العشب العشب أزرق … العشب أزرق.

عندما بقى الأسد والنمر بمفردهما، قال النمر: لماذا عاقبتني وأنت تعلم أن العشب أخضر؟ أجاب الأسد أنت تعلم وتعرف أن العشب أخضر … وهنا تساءل النمر: إذا لماذا عاقبتني؟

أجاب الأسد: هذا ليس له علاقة بكون العشب أزرق أو أخضر … العقوبة بسبب المهانة لمخلوق شجاع وذكي مثلك يضيع وقته في جدال مع الحمار لتتحقق من شيء أنت تعرفه مسبقاً أنه صحيح … هل رأيت عظمة الوقت الذي أضعته في الجدال مع أبله لا يهتم بالحقيقة أو الواقع ولكن بإنتصار تعصبه ومعتقداته وأوهامه … لا تضيع وقتك في نقاشات لا معنى لها ولا طائل من ورائها … هناك أناساً مع كل البراهين المقدمة لهم ليس لديهم المقدرة على الفهم … ليس لأنهم لا يفهمون … فقط لأنهم يريدون الجدال … وآخرون أعماهم الأنا والكراهية والضغينة … والشيء الوحيد الذي يريدونه أنهم على حق، حتى ولو لم يكونوا كذلك … والمثل يقول: عندما يصرخ الجهل يرحل الذكاء.

وفي ذات السياق اسوقفني كتاب تحت عنوان “التسامح في الفكر الإسلامي” صادر عن دار “لوسيل” للنشر والتوزيع لمؤلفه الزبير مهداد الذي لم يرد في الكتاب أي تعريف عنه، وبعد أن فرغت من قراءته تيقنت أن إسلاميو السودان خلال عهد الإنقاذ الذي تطاول على مدى ثلاثة عقود لا يعرفون شيئاً عن “التسامح في الفكر الإسلامي” و أنهم كانوا يأخذون من الدين قشورة ويتاجرون به.

يقول المؤلف في مقدمته “أن ثقافة التسامح في الإسلام واحدة من الضروريات الإنسانية لبناء المجتمع الذي تسودة المحبة والتفاهم والإحترام المتبادل، ويبعد عنه شبح النزاع وروح الكراهية والإستئصال، والتسامح الديني في الإسلام يقر الإختلاف و يقبل التنوع ويحترم مايميز الأفراد والشعوب من خصوصيات لغوية وثقافية وفكرية”.

ويضيف “أن التسامح والثقة في الآخر وحسن الظن بالناس أمور ضرورية تحتمها الضرورة الحياتية و المصالح المشتركة، فالحكمة الربانية اقتضت أن يكون وجود الناس على الأرض في شكل تجمعات بشرية متباينة، ولكنهم على الرغم من تباينهم، فيما ينفرد كل تجمع من خصوصيات عرقية أو دينية أو بيئية وثقافية، فإنهم يتفقون فيما يجمع بينهم من وحدة الأصل والحاجة إلى ضمان المصالح وحمايتها”.

غياب مثل هذه المفاهيم النبيلة في زمن التيه والهوان خلال سنوات المشروع الإسلامي قاد إلى تمزيق البلاد وضياع جزء غال وعزيز منها “جنوب السودان”.

فصول الكتاب تستمد طرافتها من تنوع مشاربها حيث يشترك فيها الفقهاء و الفلاسفة والأدباء وكلها تؤكد أن مثقفينا، فقهاء وفلاسفة كانوا متفاعلين أشد التفاعل مع قضايا مجتمعاتهم، حريصين أشد الحرص على الإسهام الفعال في إرساء مجتمع يسوده التعايش والوئام على قواعد الإسلام السمح وقيمه السامية.

حرصاً على ترشيد مسيرة الحضارة الإسلامية ورفع التحديات السياسية والثقافية التي تحول دون الإرتقاء بأحوال مجتمعاتهم، باذلين كل الجهد الصادق والمخلص في البحث عن إجابات شافية للأسئلة المؤرقة المقلقة التي ما زالت تراود الإنسانية منذ القدم.

ويقول المؤلف في خاتمة الكتاب “أن التسامح في الإسلام ليس موضه سياسية جديدة ولا ترفاً فكرياً، بل هو ركيزة وأساس التفاعلات الداخلية بين المسلم والمسلم و بين المسلم وغيره ممن يختلف عنه في الدين أو المذاهب أو العرق، فالمجتمع المسلم منذ نشأته مارس التسامح بمسميات متعددة كالتسامح والتياسر والتساهل والعفو وغير ذلك من المسميات التي كلها تهدف إلى محاربة التعصب وترمي إلى بناء مجتمعات انسانية قائمة على التعاون والتكافل ومراعاة الكرامة الإنسانية.

اللطيف في الموضوع أن مقاربات الفقهاء والفلاسفة اختلفت بإختلاف تخصصهم و لكنهم أكدوا أن لا يمكن تحقيق أي أمن إجتماعي ولا بلوغ أي تقدم ولا بناء أي حضارة دون مشروع واضح لبناء مجتمع ينهض على التسامح وقبول الآخر واحترامه ومحاربة التعصب والتصدي للعنف والتكفير.

أبو حنيفة الإمام الأعظم، أحد أكبر رواد التربية على التسامح من زاوية الإستحسان والأخذ بالسعة والسماحة ومراعاة المصالح المرسلة إثاراً لليسر ومبرزاً أن أحكام الدين جاءت لخدمة مصالح الناس دنيوياً وصلاحهم في معادهم.

أما المارودي رجل السياسة والقانون فقد اجتهد في الربط بين الأخلاق والمجتمع وأبرز قيمة التسامح الإجتماعية وآثرها في ترسيخ السلم الإجتماعي خاصة في المجتمعات متعددة الثقافات والإثنيات.

الأصولي الفيلسوف وعالم النفس ابن حزم خلف في كتبه آراء مهمة تعكس بقوة تسامحه ودعوته إلى ترسيخ التسامح النفسي والثقافي، عنية بموضوع السلوك الإنساني من زاوية صحية نفسية تشرح أهمية التمسك بالتسامح في تحقيق التوازن النفسي.

الغزالي رائد التصوف يرتب التسامح في سلم القيم الإنسانية والدينية منطلقاً من قناعاتاً عقدية روحية ترفع قيمة التسامح من كونه مجرد خلق إلى كونه عقيدة وإيماناً ومعرفة.

ابن رشد الحكيم والقاضي والفيلسوف والطبيب الذي ظل ينشد الحكمة حيث وجدها ولا يبالي من أي وعاء خرجت كان يدرك أن روح التسامح إذا عمت الإنسانية كفيلة بتحقيق التبادل وتيسير المعرفة وتوجيه المسيرة البشرية.

إذا تجاوزنا ابن خلدون المدرك لأهمية التعليم والتربية في بناء المجتمع و العياشي الذي حارب التشدد والتكفير وفسنقف عند الفيلسوف اليوسي الذي كان همه الكبير أن يحظى الحفاظ على الإستقرار الإجتماعي بالأولوية وهذا الكتاب نهديه للقوى السياسية المتصارعة في السودان و كما نهديه للبرهان وحميدتي.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى