Categories: الأعمدة

هذه الحرب التي اعادتني إلى ذاتي .

.الحلقة الأولى.
لعله خطأ لطالما شاع بين الكثيرين من أبناء شعبنا المكتوي بنار هذه الحرب الغريبة الأطوار انها كانت بنت لحظة انطلاقة شرارتها التي بدأت فيما أصبح هشيما في حاضرة البلاد ومن ثم تناثرت ألسنة اللهب شرسة تارة من طرف واحد ينفخ في إوارها ومن ثم اندفع الطرف الآخر لاطفائها بمزيد من صب الوقود الحارق بدلا من الماء !
فهي في حقيقة أمرها وهو رأي يحتمل الخطأ مثلما أزعم إنه صواب نسبي ..انها تطورات نمت في رحم هذا الوطن كجنين مشوه لطالما حذر بعض حكماء الطب السياسي من اكتمال نموها على تلك الكيفية التي جعلت منه نطفة حراما و مضغة نتنتة كست عظمه الفاسد حتى غدا ذلك المخلوق حملا ثقيلا تاوهت منه الام و كابر الاب في عدم قبول اجهاضه قبل أن يسقط فيصبح عنصرا من الصعب التحكم في لجم تصرفاته اللا معقولة.
هذا الطرح قد لا يرضي جهات بعينها ولكنه في ذات الوقت لا يبريء جهات أخرى من تحمل مسئولية ذلك الحمل و عدم درء مخاطر ذلك الكيان الذي نشأ مشوها و غريب الأطوار.
بيد أن ذلك كله لا يجدي فتيلا ولا يفيد تقاذف كرة التلاوم في محافل الادعاءات المرسلة من هنا و تلك الصادرة من هناك .
فقد اندلق اللبن مسكوبا في أحشاء الثرى ..فلا الندم يشفي غليل من سكبه ولا الشماتة ستمكن من يبكون عليه من استعادة ذلك السائل من مسامات الارض.
ولعل محاولة اختزال مشاعر كاتب كشخصي الضعيف كل تداعيات هذه المأساة الكارثية في سلسلة مقالات أو حتى في عدة مجلدات ربما تصبح كمن يقدم للقاري الكريم فقط إذن البعير ويعجز عن طبخ بقية اللحم أن جاز لي التعبير ..لاسيما وأنني وبمحض إرادتي جعلت من نفسي و بكامل قواي العقلية أن أكون شاهدا على مقدمات تلك الحرب و انطلاقة شرارتها وانا أقيم في إحدى ضواحي العاصمة حيث بدأت طائرات الجيش الحكومي تخترق السكون وتمزق الأجواء في طلعات تصطك لها نوافذ وأبواب المساكن كما اسنان من يعاني من ألبرد فيما كانت أصوات رشقات السلاح تخترق المسامع نهارا وليلا تارة من وسط العاصمة و تارة من أطرافها المختلفة .
ومن هنا وظنا منا انها ستكون حربا خاطفة لن تتعدى بضعة أيام بعد أن تجاوزت الساعات الاولى بساعات لاحقة طويلة وشاقة ..فقد قررنا أن نيمم شطر امان الجزيرة الحبيبة وشددنا الرحال في يوم الحرب الرابع أو الخامس من اشتعال القتال في العشر الأواخر من رمضان ذلك العام وكنا نعول على قضاء عيد الفطر المبارك لنعود ونجد أن الحرب قد وضعت أوزارها و لملمت شعث دمارها وذهبت إلى غير رجعة .
لم يكن الطريق الرابط بين العاصمة و الجزيرة كما عهدناه قبل انطلاقة الحرب ..فقد بدت لنا مظاهر انتشار المسلحين منذ أن تركنا أطراف العاصمة الجنوبية خلف ظهورنا ..لم يكن من الواضح إلى أي طرف ينتمي اولئك المسلحون ..ثم بدأت لنا بعض الآليات المحترقة على جانبي الطريق قبل نقطة تفتيش بتري ..ولكن ما أن وصلناها حتى صدمنا باتساع دائرة الفوضى التي تمثلت في تعدي اعداد من الصبية على السيارات والحافلات مستغلين تهدئة السير عند بوابة العبور نظرا لكثافة الحركة هناك.. فطفق اولئك الاولاد في مد أياديهم عبر نوافذ و ابواب السيارات المختلفة لنهب الأمتعة وحقائب السيدات وسط ذهول الركاب الذين لم يتوقعوا مثل هذا الشي إلى أن تيقنوا منه بعد أن اكتشفوا خلو مركز التفتيش من أي مظاهر لموظفي الدولة المكلفين بالتحصيل اورجال شرطة المرور الذين كنا نجدهم يقومون بتنظيم الحركة في الأيام السابقة للاعياد والتحقق من هويات السائقين و تراخيص المركبات في الظروف العادية .
غير أن الأمر اختلف كثيرا حينما توغلنا ونحن نشق الطريق وكانت الحياة طبيعية في كل القرى والأسواق مكتظة بالمتسوقين و البضائع تكاد تسد قارعة الطريق في كلا طرفيه .
تلك المشاهد بثت فينا إحساسا بدفء وحنو الجزيرة و لكم داخلنا شعور بالطمأنينية ونحن نشاهد الحافلات والسيارات الخاصة وهي تنقل طالبي النزوح في صورته الاولى الخجولة وهم يطلبون الامان في ربوع ونجوع وحواضر ارض المحنة و الكل واثق انها في مامن من ألسنة اللهب التي لا زالت لم تغادر العاصمة امتدادا إلى خارجها ولو قيد أنملة !
جاء العيد هادئا ولكن في حذر و متابعة قلقة لما يدور في العاصمة خاصة وأن أجهزة الإعلام كانت تعمل في كامل بثها فيما شبكة الاتصالات تنقل تهاني المغتربين المقرونة بالسؤال الملح عن الأحوال بصورة عامة و تترى تمنياتهم بأن يعود العيد القادم دون دماء إلا دماء الاضاحي التي تراق في عيد الفداء !

يتبع..

ahmed

Recent Posts

(الشيزوفرينيا السياسية)

صباحات وطن الجمال الجديد المنشود وجمعة طيبة مباركة للجميع وعنوان المقال انا وطنيٌ لا علاقة…

ساعة واحدة ago

هل أخطأ د.عبد الله حمدوك قائد مجموعة صمود حين أصر على موقفه الداعي #لوقف الحرب العبثية حتى اغتاظت منه خارجية بورتسودان.؟

✍️ المستشار/مهيد شبارقة... في أزمنة الحرب حين تختلط الأصوات، ويعلو هدير المدافع والطائرات الحربية على…

ساعتين ago

عندما يختبرك القدر: رحلة من الظلم إلى العدالة الإلهية”

بقلم : المستشار معاوية أبوالريش "عندما تنقلب الحياة رأساً على عقب" في لحظة واحدة، قد…

ساعتين ago

الهلال السعودي يتأهل إلى دور 16 بكاس العالم للاندية رفقة ريال مدريد

📘نهاية المباراتين في كأس العالم للأندية :- 🔹ريال مدريد والهلال إلى دور الـ 16 بكأس…

ساعتين ago

مسيرات في سماء بورتسودان.. والدفاعات الجوية تتصدى

تصدت الدفاعات الجوية في بورتسودان، العاصمة الإدارية المؤقتة للسودان، لهجوم جوي محدود عبر مسيرات تم…

ساعتين ago

العثور علي مقابر جماعية جديدة في الواجهة الغربية لسجن ود مدني القومي تم دفنها بطريقة غير لائقة.

كتبت .. سمية السكوتي وتم فتح بلاغ جنائي تحت المادة 47 “أ ج ج” بالقسم…

ساعتين ago