Categories: الأعمدة

” أقلام مأجورة: عندما تتحول الصحافة من سلطة رابعة إلى بوق للطغيان”

بقلم /معاوية أبوالريش
في تاريخ الأمم والشعوب، تقف الصحافة شامخة كسلطة رابعة تراقب وتحاسب وتكشف المستور، وتنير الطريق للشعوب نحو الحرية والعدالة. لكن ماذا يحدث حين تتخلى هذه السلطة عن رسالتها السامية وتتحول إلى مجرد أداة في يد الطغاة؟ ماذا يحدث حين يبيع الصحفي ضميره ويحول قلمه من سيف للحقيقة إلى خنجر مسموم يطعن به كرامة الوطن والمواطن؟
الصحافة السودانية، ذات التاريخ العريق، شهدت على مر الزمان نماذج مشرفة من الإعلاميين الذين وهبوا حياتهم لخدمة الحقيقة، وفي المقابل عرفت نماذج أخرى باعت ضميرها بثمن بخس، وارتضت لنفسها أن تكون بوقاً للاستبداد ومدافعاً عن الفساد والظلم.
” أبواق النظام البائد: حين تتحول الأقلام إلى سيوف في خدمة الطغيان”
خلال العقود الثلاثة التي حكم فيها نظام البشير وحزب المؤتمر الوطني المحلول السودان، برزت أسماء إعلامية كثيرة كانت بمثابة الدرع الواقي للنظام وأبواقه الإعلامية. أسماء مثل عادل الباز، مزمل أبو القاسم، ضياء الدين بلال، عثمان ميرغني، عبد الماجد عبد الحميد، حسين خوجلي، أم وضاح، وبكري المدني، وغيرها من الأسماء الأخرى، سخرت أقلامها للدفاع عن نظام ظالم فاسد مقابل امتيازات مادية هائلة وسلطة ونفوذ.
هؤلاء الإعلاميون استغلوا مناصبهم وأقلامهم لتلميع صورة النظام وتبرير جرائمه، متناسين الرسالة النبيلة للصحافة، ومتجاهلين معاناة الشعب السوداني الذي كان يرزح تحت وطأة الظلم والفساد والاستبداد. لقد حولوا منابرهم الإعلامية إلى منصات لبث السموم وتضليل الرأي العام، وتشويه صورة المعارضين، والتستر على جرائم النظام وفساده المستشري.
ومن المفارقات المؤلمة أن هؤلاء الإعلاميين، الذين كانوا يتشدقون بالدفاع عن الوطن والدين، كانوا في حقيقة الأمر شركاء في نهب ثروات البلاد، وتدمير مؤسساتها، وتمزيق نسيجها الاجتماعي، من خلال خطابهم التحريضي الذي يغذي الفتن ويعمق الانقسامات.
” صمت مريب أمام جريمة العصر”
وعندما اندلعت ثورة ديسمبر المجيدة، وأطاحت بنظام البشير، وتعرض المتظاهرون السلميون لأبشع أنواع القمع والعنف، خاصة في جريمة فض اعتصام القيادة العامة، التزم هؤلاء الإعلاميون صمتاً مريباً. لم نسمع منهم كلمة واحدة تدين هذه الجريمة النكراء التي راح ضحيتها العشرات من شباب السودان الذين خرجوا مطالبين بالحرية والعدالة والسلام.
هذا الصمت لم يكن مفاجئاً، فقد كان امتداداً لنهجهم القائم على تغليب المصلحة الشخصية والولاء للنظام على حساب الحقيقة والمهنية والضمير. لقد أثبتوا بهذا الصمت أنهم لم يكونوا يوماً صحفيين بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل مجرد مرتزقة يبيعون أقلامهم وضمائرهم لمن يدفع أكثر.
” كيف يؤثر فساد الإعلام على المجتمع؟”
إن فساد الإعلام ليس مجرد انحراف مهني، بل هو جريمة بحق المجتمع بأسره. فالإعلام الفاسد: يحجب الحقيقة عن المواطنين ، ويحرمهم من حقهم الأساسي في المعرفة والاطلاع، مما يجعلهم فريسة سهلة للتضليل والتلاعب. كما أنه يمنح الشرعية للفساد والظلم من خلال تجميله وتبريره، مما يؤدي إلى استمراره وتفشيه في المجتمع. كما أنه يشوه الوعي الجمعي ويخلق حالة من الارتباك والتشويش الفكري، مما يعيق قدرة المجتمع على التطور والنهوض.
و يقتل روح النقد والمساءلة في المجتمع، مما يسمح للفاسدين والمستبدين بالإفلات من العقاب ، و يدمر ثقة المواطنين في وسائل الإعلام بشكل عام، حتى تلك النزيهة منها، مما يخلق فجوة خطيرة بين المواطن ومصادر المعلومات.
” نماذج مشرفة في تاريخ الصحافة السودانية”
في مقابل هذه النماذج السلبية، عرفت الصحافة السودانية نماذج مشرفة من الإعلاميين الذين وقفوا في وجه الطغيان وتحدوا السلطة دفاعاً عن الحقيقة والمبادئ، صحفيون شجعان رفضوا بيع أقلامهم وضمائرهم، وظلوا أوفياء لرسالتهم النبيلة رغم التهديدات والملاحقات والضغوط.
ومن آخر هؤلاء الصحفي الكبير الفاتح جبرا، الذي رحل عن دنيانا مؤخراً تاركاً خلفه إرثاً من الشجاعة والنزاهة والمهنية. لقد كان جبرا نموذجاً للصحفي الحر الذي لا يخشى في الحق لومة لائم، والذي يضع مصلحة الوطن والمواطن فوق كل اعتبار.
هؤلاء الصحفيون الشرفاء سيخلدهم التاريخ، وستذكرهم الأجيال القادمة بكل فخر واعتزاز، لأنهم اختاروا الطريق الصعب، طريق الحقيقة والنزاهة، ولم يغريهم بريق المال أو السلطة.
” صحافة حرة لسودان حر”
إن السودان الجديد الذي يطمح إليه السودانيون بعد ثورتهم المجيدة، يحتاج إلى صحافة حرة نزيهة، تكون صوتاً للحقيقة، وعيناً ساهرة على المصلحة العامة، وسلطة رقابية فاعلة على مؤسسات الدولة.
ولتحقيق هذا الهدف، لا بد : أولا من إرساء قواعد قانونية تضمن حرية الصحافة وتحميها من تغول السلطة ، وكذلك لا بد من تعزيز استقلالية المؤسسات الإعلامية مالياً وإدارياً، لتحريرها من هيمنة السلطة أو رأس المال. و تطوير منظومة أخلاقية تحكم العمل الصحفي وتضبط مساره. وكذلك لا بد من تأهيل وتدريب الصحفيين على المهنية والموضوعية والنزاهة و توعية المجتمع بأهمية الصحافة الحرة ودورها في بناء الديمقراطية وتحقيق التنمية.
” خاتمة”
إن الصحافة رسالة قبل أن تكون مهنة، والصحفي هو حامل هذه الرسالة وأمينها. فعندما يخون الصحفي هذه الأمانة، ويبيع قلمه وضميره، فإنه لا يخون نفسه فحسب، بل يخون وطنه ومجتمعه وتاريخه.
لقد علمتنا تجربة السودان المريرة مع نظام البشير وأبواقه الإعلامية، أن الصحافة المأجورة هي أحد أخطر أسلحة الاستبداد، وأن تحرير الصحافة من قبضة السلطة هو الخطوة الأولى على طريق تحرير الوطن.
فلنعمل معاً من أجل صحافة حرة نزيهة، تكون في خدمة الحقيقة والوطن، وليس في خدمة السلطان والمال. ولنتذكر دائماً أن حرية الصحافة ليست ترفاً، بل هي ضرورة لبناء دولة ديمقراطية حديثة يسودها العدل والقانون، ويتمتع فيها المواطن بكرامته وحقوقه.
وسيذكر التاريخ هؤلاء الذين باعوا أقلامهم وضمائرهم بثمن بخس، وسيكتب أسماءهم بحروف من عار، ليكونوا عبرة لمن يعتبر، وتحذيراً لمن تسول له نفسه بيع قلمه وضميره في سوق النخاسة السياسية.

ahmed

Recent Posts

الجكومي يتجه لتدريب 50 ألف شاب من أبناء الشمال في إريتريا

أفادت مصادر مطلعة بحصول رئيس كيان الشمال محمد سيدأحمد سرالختم الجكومي، رئيس مسار الشمال في…

44 دقيقة ago

السودان … وزير الداخلية يجري تنقلات واسعة وتغييرات إدارية من أجل الإرتقاء بالأمن

في خطوة مفاجئة ومثيرة للجدل، أصدر وزير الداخلية السوداني أول قراراته عقب توليه المنصب، والتي…

48 دقيقة ago

مصر … لجنة الاستثمار والتطوير العقاري بجمعية رجال الأعمال المصريين، تنظم مائدة مستديرة عن ” الملكية الجزئية “

متابعه : المغيرة  بكري  : " أمدر  تايمز" شارك المستشار الإعلامي أيمن أبو زيد في…

ساعة واحدة ago

وزير الثقافة المصري و المستشار الإعلامي أيمن أبو زيد فى عزاء الكاتب الصحفي محمد عبد المنعم

متابعة : صحيفه امدر تايمز حرص المستشار الإعلامي أيمن أبو زيد خبير الإعلام الإقتصادي وكبير…

ساعة واحدة ago

المحكمة العليا الأميركية تقرر تقييد منح الجنسية الأميركية بالولادة

أشاد الرئيس الأميركي دونالد ترمب بقرار المحكمة العليا الأميركية، الجمعة، الذي قيّد سلطة القضاة الفيدراليين…

ساعتين ago