” ثورة الوعي في شعر محجوب شريف: قراءة تحليلية في قصيدة “يا شعباً لهبك ثوريتك

”
بقلم : معاوية أبوالريش
تُعد قصيدة “يا شعباً لهبك ثوريتك” من أبرز القصائد الوطنية في تراث الشاعر السوداني الكبير محجوب شريف، الذي اشتهر بنضاله السياسي وانحيازه للقضايا الوطنية والإنسانية. تمثل القصيدة نموذجاً للشعر الثوري الذي يجمع بين العمق الفكري والجمال الفني، متخذاً من اللغة الشعبية أداةً للتواصل المباشر مع وجدان الجماهير. نسعى في هذا المقال إلى تفكيك بنية النص والوقوف على أبعاده الدلالية والجمالية والسياسية، مع تسليط الضوء على الخصائص الأسلوبية التي ميزت شعر محجوب شريف.
” السياق التاريخي والاجتماعي”
يرتبط إبداع محجوب شريف بشكل وثيق بتاريخ السودان ونضالات شعبه من أجل الحرية والاستقلال والعدالة الاجتماعية. ولد الشاعر عام 1936 وعاش فترات متقلبة من تاريخ السودان الحديث، بما فيها مرحلة الاستعمار البريطاني والاستقلال وما تلاه من أنظمة سياسية متعاقبة.
انتمى محجوب شريف إلى الحزب الشيوعي السوداني، مما أثّر بشكل واضح على توجهاته الفكرية والسياسية، وانعكس ذلك في قصائده التي كانت صوتاً مدوياً في وجه الاستبداد والظلم. تأتي قصيدة “يا شعباً لهبك ثوريتك” في سياق تاريخي مرتبط بالصحوة الوطنية ومقاومة الاستبداد، حيث تخاطب الشعب وتستنهض همته للتغيير والثورة.
” البنية اللغوية والفنية”
اللغة والأسلوب
تتميز لغة القصيدة بمزجها بين الفصحى والعامية السودانية، وهي سمة أساسية في شعر محجوب شريف الذي آمن بأن اللغة الشعبية هي الأقدر على مخاطبة الجماهير. نلاحظ في القصيدة: المزج بين الفصحى والعامية “يا شعباً لهبك ثوريتك” و”تلقى مُرادك والفي نيتك”، حيث تظهر كلمات مثل “ثوريتك” و”نيتك” بصياغة عامية بينما تحافظ على السياق الفصيح.
الأسلوب الخطابي المباشر: يستخدم الشاعر أسلوب النداء “يا شعباً” والأمر “أرفع صوتك”، “خلي نشيدك” في مخاطبة الشعب، مما يضفي على القصيدة حيوية وحماسة.
التكرار : يكرر الشاعر عبارات وكلمات معينة لتأكيد المعنى وترسيخه، مثل تكرار “ديل” في “ديل أولادك، ديل أمجادك”.
الصور الشعرية : تزخر القصيدة بصور شعرية موحية، مثل “على أجنحة الفجر ترفرف فوق أعلامك” و”من بينات أكمامك تطلع شمس أعراسك”.
“الإيقاع والموسيقى”
تعتمد القصيدة على إيقاع داخلي نابع من التقفية الداخلية حيث تتكرر قافية الكاف في نهايات الأسطر (أعلامك، أكمامك، أعراسك،ثوريتك…)، مما يخلق وحدة موسيقية متناغمة.
التنويع في طول الأسطر الشعرية: يتراوح طول السطر الشعري بين الطويل والقصير، وهذا يخلق إيقاعاً متنوعاً يتناسب مع الحالة الانفعالية.
التجانس الصوتي : تكرار أصوات معينة مثل السين والكاف يضفي جرساً موسيقياً خاصاً. المحاور الدلالية للقصيدة.
“الهوية والانتماء”
يؤكد الشاعر على الهوية الوطنية والانتماء للأرض، ويظهر ذلك في:
الإشارة إلى نهر النيل “ونيلك هيلك جرى قدامك”، بوصفه رمزاً للهوية الوطنية. التأكيد على سيادة الشعب: “سيد نفسك، مين أسيادك؟”
الإشارة إلى الأجيال: “يبقى ملامح في ذريتك”، في إشارة إلى استمرارية الهوية عبر الأجيال.
” الثورة والتغيير”
تحمل القصيدة دعوة صريحة للثورة والتغيير: العنوان نفسه: “يا شعباً لهبك ثوريتك”، يحمل دلالة الثورة والاشتعال. عبارة “أرفع صوتك هيبة وجبرة”، تدعو إلى الجهر بالحق ورفض الصمت. الإشارة إلى “الإصرار” كقيمة ثورية “يا الإصرارك سطراً سطراً ملأ كراسك”.
” الأمل والتفاؤل”
على الرغم من الألم والمعاناة، تبشر القصيدة بفجر جديد “على أجنحة الفجر ترفرف فوق أعلامك”، ترمز إلى بداية عهد جديد. “من بينات أكمامك تطلع شمس أعراسك”، إشارة إلى الفرح القادم. “خلي جراح أولادك تبرا”، تبشير بالشفاء والتعافي.
” الرموز والدلالات”
تزخر القصيدة بالرموز ذات الدلالات العميقة، الفجر: رمز للتجدد والانبعاث والأمل بمستقبل أفضل ، الشمس : ترمز إلى النور والحقيقة والوضوح، وربما الثورة التي تشرق من “أكمام” الشعب ، النيل: رمز للعطاء والخصب والاستمرارية، وهو أيضاً عنصر أساسي من عناصر الهوية السودانية. الأعلام : ترمز إلى السيادة والوطنية والانتماء.
الكراس : يرمز إلى التاريخ والذاكرة الجمعية التي تسجل نضالات الشعب.
” الأبعاد الاجتماعية والسياسية”
تعكس القصيدة وعياًسياسياًواجتماعياً عميقاً: نقد الاستبداد ، يظهر ذلك في سؤال “مين أسيادك؟” الذي يرفض الوصاية والاستبداد ، الإيمان بقوة الشعب : “تلقى مرادك والفي نيتك”، تأكيد على أن إرادة الشعب لا تقهر.
التضامن الاجتماعي : الإشارة إلى “أولادك” و”أمجادك” تؤكد وحدة المجتمع وتضامنه ، الوعي بالذات : “سيد نفسك”، دعوة إلى الوعي بالذات والهوية.
” الأثر النفسي والوجداني للقصيدة”
تترك القصيدة أثراً وجدانياً عميقاً على المتلقي من خلال: الحماسة،والتحفيز، واستخدام أسلوب الخطاب المباشر يحفز المتلقي للاستجابة.
التعاطف : الإشارة إلى “جراح أولادك” تثير التعاطف والشعور بالألم الجماعي.
الفخر والاعتزاز : عبارات مثل “إنت نسيج الفداء هندامك” تعزز الشعور بالفخر والاعتزاز ، الأمل : تبث القصيدة روح الأمل والتفاؤل رغم المعاناة.
” محجوب شريف شاعر الثورة والوطن”
تعكس القصيدة سمات أساسية في تجربة محجوب شريف الشعرية:
الالتزام السياسي والاجتماعي : وهو ما يظهر في المضامين الثورية للقصيدة.
التجديد في الشكل الشعري ، المزج بين الفصحى والعامية وكسر القوالب التقليدية، الاقتراب من الجماهير استخدام لغة قريبة من وجدان الناس ومفهومة لديهم ، الإيمان بدور الشعر في التغيير، و توظيف الشعر كأداة للتحريض والتوعية.
تقف قصيدة “يا شعباً لهبك ثوريتك” شاهدة على عبقرية محجوب شريف في توظيف الشعر كسلاح ثقافي وسياسي. تجمع القصيدة بين الجمال الفني والعمق الفكري، وتخاطب الوجدان الشعبي بلغة تمزج بين الفصحى والعامية. إنها ليست مجرد نص أدبي، بل هي وثيقة تاريخية ترصد مرحلة من مراحل النضال الوطني في السودان، وتستشرف مستقبلاً أكثر إشراقاً.
لقد نجح محجوب شريف في أن يقدم نموذجاً للشعر الملتزم الذي لا يفقد قيمته الفنية رغم انحيازه السياسي الواضح. وتبقى قصيدته “يا شعباً لهبك ثوريتك” منارة للأجيال القادمة، تستلهم منها روح الثورة والتغيير، وتستشعر من خلالها عمق الانتماء للوطن.