Categories: الأعمدة

سحر البيان وروعة التصوير: رحلة في عالم قصيدة “أقيس محاسنك بمن”


بقلم : معاوية أبوالريش
في عالم الشعر الغنائي السوداني، تتلألأ بعض القصائد كالنجوم في سماء الشعر، وتبقى عالقة في الذاكرة الجمعية لأجيال متعاقبة. من بين هذه الدرر الأدبية، تبرز قصيدة “أقيس محاسنك بمن” للشاعر المبدع سيد عبد العزيز، التي تحولت إلى أغنية خالدة ألهبت مشاعر المستمعين وأسرت قلوبهم بسحرها الأخاذ.
“سحر الكلمة وموسيقى النص”
تتفرد هذه القصيدة بموسيقى داخلية تنساب كالسيل الرقراق بين ثناياها، تُعززها قافية النون المتكررة التي تضفي إيقاعاً آسراً على النص. يبدأ الشاعر بمطلع قوي يأسر الألباب:
” أقيس محاسنك بمن؟
يا الدرة الما ليك تمن
والله نور عيني و نور الزمن”
هذا المطلع يرسم صورة لمحبوبة استثنائية، لا نظير لها، ولا يمكن مقارنة محاسنها بأحد. سيد عبدالعزيز هنا يستخدم أسلوب الاستفهام الاستنكاري ليؤكد تفرد محبوبته وتميزها عن سائر البشر.
” الصور البلاغية: رحلة في خيال الشاعر”
ينسج سيد عبد العزيز في قصيدته لوحة فنية متكاملة، مستعيناً بألوان بلاغية متعددة من تشبيهات واستعارات وكنايات. فهو يصف محبوبته بأنها “بدر في داخل كمن”، في إشارة إلى وجهها المشرق المحاط بالحجاب أو الثوب. كما يشبه جبينها بـ “فلق الدجن”، وهو انكشاف الظلام وظهور ضوء الصباح، وهي صورة بديعة تجمع بين النور والتفاؤل.
ومن الصور الفنية البارزة في القصيدة:
– “جسمك بالطيب إنعجن”: استعارة تصور المحبوبة وكأنها خُلقت من عجينة معطرة بأطيب العطور.
– “هيبة أسد في عيون شدن”: صورة تجمع بين جمال العيون وقوة تأثيرها، مشبهة إياها بهيبة الأسد.
– “روضك زي عارضين صفن”: تشبيه يرسم صورة للمحبوبة كروضة من الجمال، مقارنة خديها بالخيول الأصيلة الواقفة بثبات وشموخ.
” البناء الدرامي للقصيدة”
تتميز القصيدة ببناء درامي متصاعد، حيث تبدأ بالتساؤل عن كيفية مقارنة محاسن المحبوبة، ثم تنتقل إلى وصف تفاصيل جمالها من الوجه والعيون والابتسامة، مروراً بالقوام والهيئة والرائحة، وصولاً إلى التأكيد على تفردها وعجز الواصفين عن الإحاطة بكمال حسنها:
“فيك عيون للرائين أرن
محاسن بالحسن إزدرن
و مهما أفكارهم يكبرن
عن حسنك .. ما بعبرن”
هذا التدرج في الوصف يخلق حالة من التشويق المتنامي، ويعكس استغراق الشاعر في حالة من الانبهار المستمر بجمال محبوبته.
” الجذور الثقافية والتراثية”
تستمد القصيدة جذورها من التراث الشعري العربي العريق، وتحديداً من قصائد الغزل العفيف. نلمح في القصيدة صدى لشعراء العصر الأموي مثل جميل بثينة وقيس بن الملوح، في تقديس المحبوبة والارتقاء بها إلى مرتبة تكاد تكون إلهية. كما نجد تأثراً واضحاً بالموروث الصوفي، خاصة في وصف المحبوبة بصفات تقترب من الكمال الإلهي:
” بدور الكون .. لو ينصفن
يسجدن ليك ما يكون وفن”
هذا المزج بين الغزل العذري والمفاهيم الصوفية يعطي القصيدة عمقاً فلسفياً يتجاوز مجرد الوصف الحسي للجمال.
“اللغة بين الفصحى والعامية السودانية ”
يمزج الشاعر في قصيدته بين مفردات الفصحى المعربة وبعض التعبيرات ذات النكهة المحلية، مما يعكس تأثره بالبيئة الثقافية التي نشأ فيها. هذا المزج يجعل القصيدة قريبة من وجدان المتلقي العربي، سهلة الفهم والحفظ، مع احتفاظها بقيمتها الفنية والأدبية العالية.
من النماذج الواضحة لهذا المزج اللغوي:
– “الما ليك تمن”: تعبير يجمع بين الفصحى والعامية في وصف قيمة المحبوبة التي لا تقدر بثمن.
– “في فاهك يتبسمن”: استخدام كلمة “فاهك” بدلاً من “فمك” في إشارة إلى التأثر باللهجة المحلية.
– “أملدن” و”اللدن”: مفردات فصيحة تعبر عن الليونة والنعومة، تظهر ثقافة الشاعر اللغوية العميقة.
” الأبعاد الرمزية والدلالية”
تحمل القصيدة أبعاداً رمزية تتجاوز المعنى الظاهري للغزل. يمكن قراءة المحبوبة في هذا السياق كرمز للوطن أو الأمة أو حتى اللغة العربية نفسها. فالصفات التي يخلعها الشاعر على محبوبته من نور وبهاء وعظمة تجعلها أقرب إلى الرمز منها إلى الإنسان العادي.
وربما كان وصف الشاعر للمحبوبة بأنها “الجبرة المازجة العجن” إشارة إلى قدرتها على توحيد الشتات وجمع المتفرق، وهي سمات ترتبط بالوطن الذي يلم شمل أبنائه ويوحد صفوفهم.
” تأثير القصيدة في الثقافة الشعبية”
تحولت هذه القصيدة إلى أغنية شعبية محبوبة، حفرت لنفسها مكانة خاصة في الوجدان السوداني الجماعي. وقد ساهم التلحين المتقن والأداء الصوتي المعبر في نقل روح القصيدة وإيصال معانيها العميقة إلى جمهور واسع، متجاوزة بذلك حدود النخبة المثقفة إلى عامة الناس.
هذا الانتشار الواسع جعل من القصيدة جزءاً من الذاكرة الثقافية المشتركة، وأسهم في الحفاظ على التراث الشعري من النسيان والاندثار في عصر طغت عليه الثقافة البصرية والرقمية.
في زمن تتسارع فيه وتيرة التغيير وتتبدل فيه الأذواق بسرعة قياسية، تظل قصائد مثل “أقيس محاسنك بمن” شاهدة على جمال اللغة العربية وقدرتها الفريدة على التعبير عن خلجات النفس الإنسانية. إنها ليست مجرد كلمات تُنشد أو تُقرأ، بل هي نبض حي لثقافة عريقة تأبى الانقراض، وصوت أصيل يصدح في أرجاء الوطن ، مذكراً الأجيال الجديدة بروعة تراثهم وأصالة لغتهم.
فـ “أقيس محاسنك بمن” ليست قصيدة عادية، بل هي درة ثمينة من درر الشعر السوداني الغنائي ، تستحق الدراسة والتأمل والاحتفاء. ولعل أبلغ ما يمكن أن نختم به هذا المقال هو بيت الشاعر نفسه:
“مع البدرين سيرك سرن
و من وزنك هن بقصرن”
فمهما علت المقارنات وسمت التشبيهات، تبقى هذه القصيدة متفردة في جمالها، عصية على المثال، سامقة في سماء الإبداع الشعري السوداني.

ahmed

Recent Posts

الهلال السوداني بوضعه الراهن لو جاب مورينهو ما بشيل بطولة أفريقية… .

** الأخ إيهاب نور الجليل.... أمين المال باتحاد كريمة أوضح لي ان معتز الشاعر لم…

14 دقيقة ago

الشرطة السودانية : 810 مركبة جمعتها اللجان المختصة بالخرطوم والجزيرة ويناشد المواطنين بالتوجه لاماكن تجميعها

كتبت .. سمية السكوتي كشف العميد شرطة / فتح الرحمن محمد التوم الناطق الرسمي باسم…

3 ساعات ago

السودان .. حريق كبير بالجهة الغربية من كبري السليم بمدينة دنقلا

حريق كبير بالجهة الغربية من كبري السليم بمدينة دنقلا عصر اليوم وقوات الدفاع المدني تقوم…

3 ساعات ago

مصادر تكشف عن تغييرات في قيادة القوات النظامية السودانية

كشفت مصادر عن اكتمال مشاورات اجراها القائد الأعلى للقوات النظامية الفريق اول ركن عبد الفتاح…

3 ساعات ago

سي إن إن”: ترامب يدرس تعويض إيران ببرنامج نووي سلمي في فوردو بـ30 مليار دولار يدفعها الخليجيون

- ذكرت شبكة "سي إن إن"، مساء اليوم الخميس، أن الولايات المتحدة تدرس استبدال موقع…

3 ساعات ago

مبابي يتقدم بشكوي ضد نادي باريس سان جيرمان

تقدم قائد المنتخب الفرنسي لكرة القدم كيليان مبابي بشكوى مضايقة أخلاقية ضد ناديه السابق باريس…

3 ساعات ago