“عذابات الحب ونداء الذاكرة: قراءة في قصيدة “السنين” للطيب عبد الله”

بقلم : معاوية أبوالريش
في عالم الشعر والغناء السوداني، تقف قصيدة “السنين” للشاعر والمطرب الطيب عبد الله كنموذج بارز للرومانسية العربية المعاصرة. هذه التحفة الأدبية والموسيقية، التي ولدت من رحم المعاناة العاطفية، تحكي قصة حب عميق يأبى أن يموت رغم جحود الحبيب ونصائح الناصحين.
” الشاعر والمبدع: الطيب عبد الله”
الطيب عبد الله ، المولود في مدينة شندي عام 1941، هو واحد من أبرز الأصوات التي عرفها السودان في عصره الذهبي للفن والطرب. اشتهر بعذوبة صوته ذي الطابع الحزين، وقدرته الفائقة على امتلاك القرار والجواب في الأداء الغنائي، وانتقائه للكلمات الرقيقة البالغة الحساسية. كان الطيب عبد الله شاعراً وملحناً ومؤدياً في آن واحد، مما جعل أعماله تحمل طابعاً خاصاً من الصدق والعمق العاطفي.
“البناء الفني للقصيدة”
الإيقاع والموسيقى الداخلية:
تتميز قصيدة “السنين” بإيقاعها الموسيقي المتدفق الذي يحاكي نبضات القلب المتألم. استخدم الطيب عبد الله بحراً يتناسب مع الحالة العاطفية للنص، حيث تتناغم التفعيلات مع المعنى في انسجام بديع. الأصوات المختارة تخدم المعنى، فالكلمات الرقيقة مثل “هنايا” و”ضحايا” و”أماني” تضفي نعومة صوتية تعكس رقة المشاعر.
” التكرار كأداة تعبيرية”
يستخدم الشاعر التكرار بمهارة عالية، فتكرار كلمة “السنين” في البيت الأول من المقطع الثاني يؤكد على قوة الذكريات وعمق الأثر الذي تركته تلك الأيام. كما يكرر حروف الجر والضمائر بطريقة تخدم الإيقاع وتعمق المعنى.
” التحليل البلاغي والجمالي”
المقطع الأول: صدى النصائح وقوة الذكريات
“قالوا لي أنساه.. و امسح من خيالك ذكرياتو
أنسى كل الماضي و ابعد عن طريقو و عن حياتو
فات و خلاك للزمن ضاعت آمالك سداً
ليه تحن من تاني.. ليه تفكر في صلاتو”
يبدأ الطيب عبد الله بتصوير مشهد النصح والإرشاد، حيث يحكي عن الأصوات التي تحاول إقناعه بنسيان حبيبه. استخدام الفعل “قالوا” يشير إلى تعدد الناصحين، مما يعكس حالة الإجماع الاجتماعي على ضرورة النسيان.
الجملة “امسح من خيالك ذكرياتو” تحمل استعارة بليغة، حيث شبه الذكريات بشيء مكتوب يمكن محوه، لكن هذا التشبيه يكشف في الوقت ذاته عن استحالة هذا المحو، فالذكريات الحقيقية لا تُمحى بسهولة.
التعبير “فات و خلاك للزمن ضاعت آمالك سداً” يحمل صورة بيانية قوية، حيث يشبه الآمال بشيء ضائع في العدم. كلمة “سداً” هنا تعني “عبثاً” أو “بلا فائدة”، وهي تضفي على النص طابعاً محلياً سودانياً أصيلاً.
المقطع الثاني: قوة الحب وثبات المشاعر
“السنين العشت فيها معاك هنايا
أقوى من قول العوازل واسمى من كلمة وشاية
لو خلاص قلبك نسى الأيام معايا
برضي راضي في الغرام كم من ضحايا
بس تأكد يا حبيبي إنو حبك في دمايا”
هنا يأتي الرد القوي من الشاعر العاشق، حيث يؤكد أن السنوات التي عاشها مع حبيبه كانت مليئة بالسعادة (“هنايا”). التضاد بين “هنايا” و”عوازل” و”وشاية” يبرز قوة الحب الحقيقي أمام كلام الناس والوشايات.
استخدام كلمة “العوازل” (جمع عاذل) يشير إلى التراث الشعري العربي، حيث كان العذال جزءاً من التقليد الشعري في وصف معاناة العشاق. كما أن التعبير “راضي في الغرام كم من ضحايا” يحمل فلسفة عميقة عن طبيعة الحب وتضحياته.
الجملة الختامية “إنو حبك في دمايا” تحمل أقوى الصور البيانية في هذا المقطع، حيث يشبه الحب بالدم الذي يجري في العروق، مما يعني أن هذا الحب جزء لا يتجزأ من كيانه.
المقطع الثالث: الصبر والأمل
“بالأمل صبرت قلبي وعشت في دنيا الأماني
أهدهد الشوق بين ضلوعي واترجم الآلام أغاني
أروي للناس سر عذابي واحكي ليهم ما شجاني
لا نفع دمعي السكبتو و لا شفع عندك حناني”
في هذا المقطع، يكشف الطيب عبدالله عن آليات التعامل مع الألم العاطفي. الاستعارة في “أهدهد الشوق بين ضلوعي” صورة شاعرية رائعة، حيث يشبه الشوق بطفل يُهدهد في الحضن، مما يعكس حنان الشاعر حتى مع ألمه.
التعبير “اترجم الآلام أغاني” يكشف عن وظيفة الشعر والفن في حياة المبدع، فالألم يتحول إلى إبداع، والمعاناة تصبح مادة للجمال. هذا التحويل الإبداعي هو ما يميز الشاعر الحقيقي.
الجملة “أروي للناس سر عذابي” تشير إلى البعد الاجتماعي للشعر، حيث يصبح الألم الشخصي تجربة إنسانية عامة يشارك فيها الآخرون.
المقطع الرابع: المقارنة والتمني
“الغريب عن وطنو مهما طال غيابو
مصيرو يرجع تاني لي أهلو و صحابو
ينسى آلامو وشجونو ينسى حرمانو وعذابو
إلا قلبي يا حبيبي في هواك طال إغترابو”
المقطع الأخير يحمل مقارنة بليغة بين الغريب عن وطنه والعاشق المهجور. هذه المقارنة تبرز طبيعة الحب العميق الذي لا يشبه أي نوع آخر من أنواع الفراق. الغريب يمكنه العودة إلى وطنه ونسيان آلام الغربة، لكن العاشق يبقى في حالة اغتراب دائم.
استخدام كلمة “إغتراب” في نهاية القصيدة يخلق تماسكاً فنياً مع بداية القصيدة، حيث تبدأ بالنصح بالنسيان وتنتهي بإعلان استحالة هذا النسيان.
“الخصائص الأسلوبية”
اللغة الشعرية:
يتميز أسلوب الطيب عبد الله بالبساطة والعمق في آن واحد. يستخدم لغة قريبة من اللهجة السودانية دون أن يفقد النص قيمته الأدبية أو جماليته الشعرية. كلمات مثل “هنايا” و”سداً” و”شجاني” تضفي على النص طابعاً محلياً أصيلاً.
” الصور الشعرية”
القصيدة غنية بالصور البيانية المبتكرة مثل: “امسح من خيالك ذكرياتو” (استعارة)
“أهدهد الشوق بين ضلوعي” (استعارة مكنية)
“اترجم الآلام أغاني” (استعارة تصريحية)
“حبك في دمايا” (تشبيه بليغ)
“التناص والتراث”
تحمل القصيدة إشارات للتراث الشعري العربي، خاصة في استخدام مفردات مثل “العوازل” و”الغريب عن وطنه”، مما يربط النص بالتقليد الشعري العربي الأصيل.
” البعد النفسي والفلسفي”
تقدم القصيدة تحليلاً نفسياً عميقاً لحالة العاشق المهجور، حيث تكشف عن: مراحل الحب: من السعادة إلى الألم إلى القبول والرضا
آليات التعامل مع الألم : التحويل الإبداعي، المشاركة الاجتماعية، الصبر
فلسفة الحب : الحب كحالة وجودية لا يمكن تجاوزها أو نسيانها
” التأثير الموسيقي والأدائي”
عندما قام الطيب عبد الله بتلحين وأداء هذه القصيدة، أضاف إليها بعداً موسيقياً يتناسب مع حالتها العاطفية. الصوت الحزين للمطرب والتنويع في الأداء بين القرار والجواب جعل من هذه الأغنية علامة فارقة في تاريخ الغناء السوداني.
تمثل قصيدة “السنين” نموذجاً راقياً للشعر السوداني المعاصر، حيث تجمع بين عمق التجربة الإنسانية وجمال التعبير الفني. إنها ليست مجرد قصيدة حب، بل تأمل فلسفي في طبيعة العلاقات الإنسانية والذاكرة والزمن.
الطيب عبد الله نجح في خلق تحفة أدبية وموسيقية تتجاوز حدود الزمان والمكان، وتتحدث إلى كل قلب عرف الحب والفراق. هذه القصيدة تبقى شاهداً على عبقرية الطيب عبد الله وقدرته على تحويل الألم الشخصي إلى جمال فني يلامس قلوب الملايين.
في عالم يسير بسرعة نحو المستقبل، تبقى “السنين” تذكرنا بقيمة الذكريات وقوة المشاعر الصادقة، وتؤكد أن الشعر الحقيقي هو الذي يولد من رحم التجربة الإنسانية العميقة والصادقة.