Categories: الأعمدة

” عندما يصبح الشبه لعنة: كيف حوّل فيديو رياضي مصري السودان إلى “ترند” مضلل؟ “

بقلم : معاوية أبوالريش
في زمن وسائل التواصل الاجتماعي، تنتشر المعلومات بسرعة البرق، وأحياناً تسبق الحقيقة وتتجاوزها. هذا بالضبط ما حدث مع فيديو انتشر مؤخراً في السودان، حيث أصبح “ترند” واسع النطاق بسبب سوء فهم جماعي حول هوية الشخص الظاهر فيه، وهو ما يكشف عن ظواهر اجتماعية ونفسية معقدة في عصر المعلومات الرقمية.
انتشر الفيديو بسرعة مذهلة عبر منصات التواصل الاجتماعي السودانية، يظهر فيه مجموعة من الشباب والشابات يؤدون تمارين رياضية داخل صالة ألعاب، وهم يرددون كلمات أغنية “الليلة بالليل نمشي شارع النيل”. وسط هذه المجموعة، ظهر شاب أسمر البشرة يرتدي ملابس رياضية، وكان يرقص ويردد كلمات الأغنية بحماس واضح. الغريب في الأمر أن ملامح هذا الشاب تشبه إلى حد كبير ملامح البروفيسور كامل إدريس، رئيس الوزراء السوداني الجديد الذي تم تعيينه مؤخراً. هذا التشابه الواضح في الملامح كان السبب المباشر وراء انتشار الفيديو كالنار في الهشيم بين السودانيين، الذين اعتقدوا أن الشخص الظاهر في الفيديو هو رئيس الوزراء نفسه.
لكن الحقيقة كانت مختلفة تماماً. بعد انتشار الفيديو وتحوله إلى حديث الشارع السوداني، خرج الشاب الظاهر في الفيديو بتوضيح مفاجئ على منصة تيك توك. أكد أنه شاب مصري، وأن الفيديو الذي انتشر هو فيديو خاص به تم تصويره في مصر، وليس له أي علاقة بالسياسة السودانية أو بالبروفيسور كامل إدريس. أبدى الشاب المصري اندهاشه واستغرابه الشديد من الانتشار الواسع للفيديو في السودان، خاصة وأنه حقق نسب مشاهدة عالية جداً وأصبح ترنداً حقيقياً. كما عبر عن احترامه وحبه للشعب السوداني، لكنه في الوقت نفسه استنكر عدم أخذ إذنه قبل نشر الفيديو من قبل الجهات والأشخاص الذين تداولوه، محذراً من عدم نشر أي مقاطع له مستقبلاً دون الحصول على موافقته المسبقة.
يكشف هذا الحدث عن ظاهرة مثيرة للاهتمام في علم النفس الاجتماعي، وهي كيف يمكن للتشابه الجسدي أن يؤدي إلى خلط في الهوية على نطاق واسع. الشعب السوداني، في حالة من الترقب والاهتمام بالتطورات السياسية الجديدة، كان مستعداً نفسياً لتقبل أي محتوى يتعلق بالشخصيات السياسية الجديدة. هذا الاستعداد النفسي، مقترناً بالتشابه الجسدي الواضح، خلق البيئة المثالية لانتشار المعلومة المضللة بسرعة البرق.
الأمر الأكثر إثارة للقلق هو الدافع وراء هذا الانتشار الواسع. يبدو واضحاً أن هناك محاولة من قبل الرافضين لتعيين رئيس الوزراء الجديد لاستغلال هذا الفيديو للنيل منه وتشويه صورته. الهدف المقصود هو إظهاره كشخصية غير جدية لا تستحق تقلد منصب رئاسة الوزراء، خاصة في ظل الظروف الصعبة والحساسة التي يمر بها السودان. هذا الاستغلال السياسي يعكس مدى حساسية المناخ السياسي في البلاد، وكيف يمكن لأي محتوى أن يتحول بسرعة إلى أداة سياسية، حتى لو كان ذلك بناءً على سوء فهم كامل.
يسلط هذا الحدث الضوء على القوة المدمرة والبناءة لوسائل التواصل الاجتماعي في آن واحد. فبينما يمكن لهذه المنصات أن تكون أداة قوية لنشر المعلومات والتواصل، يمكنها أيضاً أن تكون أداة لنشر المعلومات المضللة والشائعات. السرعة التي انتشر بها الفيديو تُظهر مدى فعالية هذه المنصات في إيصال المحتوى، لكنها تكشف أيضاً عن خطورة عدم التحقق من صحة المعلومات قبل نشرها.
بالنسبة للشاب المصري، هذا الحدث يُظهر كيف يمكن أن يصبح أي شخص عادي محور اهتمام إعلامي واسع دون قصد أو رغبة منه. كما يطرح تساؤلات مهمة حول حقوق الخصوصية في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، وكيف يمكن لمحتوى شخصي أن يتحول إلى قضية عامة بين عشية وضحاها. هذا الواقع الجديد يتطلب إعادة النظر في مفاهيم الخصوصية والموافقة على النشر، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمحتوى الذي يتم إنتاجه في بيئات شبه خاصة مثل صالات الألعاب الرياضية.
من ناحية أخرى، يكشف هذا الحدث عن مدى حساسية المناخ السياسي في السودان، وكيف يمكن لأي محتوى أن يتحول بسرعة إلى أداة سياسية، حتى لو كان ذلك بناءً على سوء فهم. هذا يعكس حالة من التوتر السياسي والترقب التي يعيشها المجتمع السوداني، والتي تجعل الناس أكثر استعداداً لتقبل وتداول أي معلومة قد تكون ذات صلة بالأوضاع السياسية الجارية.
كما يسلط هذا الحدث الضوء على أهمية التحقق من المعلومات قبل نشرها، وضرورة تطوير مهارات التفكير النقدي لدى مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي. في عالم تنتشر فيه المعلومات بسرعة البرق، يصبح التحقق من الصحة أمراً بالغ الأهمية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالشخصيات العامة والقضايا السياسية الحساسة.
هذا الواقع يتطلب من المواطنين تطوير قدراتهم على التمييز بين المعلومات الصحيحة والمضللة، وضرورة التحقق من المصادر قبل نشر أي محتوى. كما يتطلب من الجهات الإعلامية تطبيق معايير صحفية صارمة في التحقق من المعلومات، وتجنب نشر المحتوى المضلل أو غير المؤكد، وتحمل المسؤولية الاجتماعية في التعامل مع المعلومات الحساسة.
بالنسبة للسلطات، يطرح هذا الحدث ضرورة وضع قوانين وضوابط واضحة لحماية الخصوصية الرقمية، وتطوير آليات للتعامل مع انتشار المعلومات المضللة، وتعزيز الوعي العام حول مخاطر المعلومات المضللة ووسائل التعامل معها.
في النهاية، هذا الحدث يقدم لنا درساً مهماً في عصر المعلومات الرقمية. يُظهر كيف يمكن لخطأ بسيط في التعرف على الهوية أن يتحول إلى قضية سياسية واجتماعية معقدة، ويؤكد على أهمية التروي والتحقق قبل نشر أي معلومة، خاصة في ظل الأوضاع السياسية الحساسة. كما يدعونا جميعاً إلى التفكير في مسؤوليتنا الفردية والجماعية في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، وضرورة الحفاظ على التوازن بين حرية التعبير والمسؤولية الاجتماعية.
إن التحدي الحقيقي ليس في منع انتشار مثل هذه الأحداث، بل في تطوير مجتمعات رقمية أكثر وعياً ومسؤولية، قادرة على التمييز بين الحقيقة والوهم، وعلى احترام كرامة وخصوصية الآخرين حتى في عالم افتراضي بلا حدود. هذا الحدث يذكرنا بأن التكنولوجيا هي مجرد أداة، وأن الاستخدام الحكيم لها يتطلب وعياً ومسؤولية من جميع الأطراف المعنية، سواء كانوا مستخدمين عاديين أو شخصيات عامة أو جهات إعلامية أو سلطات رسمية.

ahmed

Recent Posts

جبريل إبراهيم.. دهاء سياسي أم استماتة لضمان مكاسب اتفاق جوبا؟

يستحق د. جبريل إبراهيم، رئيس حركة العدل والمساواة، أن يُمنح عن جدارة “نوط الدهاء والذكاء…

52 دقيقة ago

محمد سيدأحمد ( الجكومي ) يكتب : “ابو نمو والتزييف المتعمد التاريخ “

  حزنت كثيرا لابو نمو و هو يمارس التزييف المتعمد للتاريخ و يحرف الكلم عن…

ساعة واحدة ago

قبل جلسة مجلس الأمن اليوم … البرهان يوافق على هدنة إنسانية لمدة أسبوع في الفاشر

وافق رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، خلال مكالمة هاتفية مع الأمين العام…

ساعتين ago

الطيران السودان يدمر معسكر للدعم السريع بقرية “هبايل” قرب الجنينة

كشفت معلومات متطابقة عن تدمير سلاح الطيران السوداني  معسكر يتبع لقوات الدعم السريع المتمردة تدميرا…

3 ساعات ago

تعيين سفير جدبد للسودان لدى إرتريا

سلّم سفير السودان المرشح لدى دولة إريتريا ، أسامه أحمد عبد الباريء امس نسخة من…

3 ساعات ago

تاركو للطيران تستأنف رحلاتها إلى مطار كسلا

أعلنت شركة تاركو للطيران عن استئناف رحلاتها المجلية إلى مطار كسلا الدولي ابتداءً من 1…

3 ساعات ago