#image_title
بقلم : معاوية أبوالريش
في عالم الشعر الغنائي السوداني، تقف قصيدة “يا حليلهم دوام بطراهم” للشاعر عبد المنعم عبد الحي كمنارة إبداعية تضيء دروب الحنين والشوق. هذا النص الاستثنائي، الذي تزاوج مع عبقرية التلحين عند برعي محمد دفع الله وروعة الأداء عند الفنان الراحل عبد العزيز محمد داؤود، يمثل قمة التعبير عن المشاعر الإنسانية العميقة في أبهى صورها الفنية.
عندما نتأمل البناء الشعري لهذا النص، نجد أنفسنا أمام معمار لغوي محكم يقوم على أسس بلاغية راسخة. يبدأ الشاعر بالنداء “يا حليلهم” وهو نداء محمل بالعاطفة والرثاء، حيث تحمل كلمة “حليل” في العامية السودانية معنى الرثاء والشفقة الممزوجة بالحب. هذا الاستهلال يضع المتلقي فوراً في أجواء الحزن والحنين، ويهيئه لاستقبال ما سيأتي من مشاعر وصور شعرية.
التعبير “دوام بطراهم” يحمل دلالة عميقة على الاستمرارية والحضور الدائم في الذاكرة، فكلمة “دوام” تشير إلى الديمومة والاستمرار، بينما “بطراهم” تعني تذكرهم واستحضارهم في المخيلة. هنا يؤكد الشاعر أن تذكر الأحباب الغائبين ليس مجرد لحظات عابرة، بل حالة دائمة من الاستحضار والتذكر تسكن القلب والذاكرة. هذا التركيب اللغوي يعكس فهماً عميقاً لطبيعة الحب الحقيقي الذي يجعل صورة الأحباب حاضرة دوماً في مخيلة المحب، لا تغادرها أبداً رغم الفراق والمسافة.
وفي العبارة التالية “في قلبي دوام ذكراهم”، نلحظ التوازي البلاغي الجميل مع المطلع، حيث يكرر الشاعر كلمة “دوام” ليؤكد على فكرة الاستمرارية، لكنه هذه المرة يحدد المكان وهو “القلب”. هذا التخصيص المكاني يضفي على النص طابعاً حميمياً ويجعل العاطفة أكثر صدقاً وتأثيراً. فالذكريات لا تسكن مجرد الذهن، بل تتغلغل في أعماق القلب لتصبح جزءاً من كيان الإنسان.
السؤال “انا بريدهم….ديارهم ووين” يمثل قمة التعبير عن حيرة المحب الباحث عن أحبابه. كلمة “بريد” في العامية السودانية تحمل معنى “أحب” لكنها تحمل دلالة أقوى وأعمق، فهي تعبر عن الرغبة الملحة والاشتياق الجارف الى المحبوب. والسؤال عن الديار “ووين” (وأين) ليس مجرد استفهام عن المكان، بل هو صرخة روح تائهة تبحث عن ملاذها وسكنها. هذا السؤال المتكرر عبر القصيدة يشكل اللازمة الشعرية التي تربط أجزاء النص وتوحد مشاعره.
في المقطع “يا حليل ناس هم ناسنا… ذكرياتهم ديمة في راسنا”، يستخدم الشاعر تقنية التأكيد والتكرار البلاغي. عبارة “ناس هم ناسنا” تحمل معنى الانتماء العميق والترابط الروحي، فليسوا مجرد أصدقاء أو معارف، بل هم جزء من الهوية والكيان. كلمة “ديمة” (دائماً) تؤكد على استمرارية حضور هؤلاء الأحباب في الذاكرة، وتشير إلى أن الذكريات ليست مجرد لمحات عابرة بل حالة دائمة من الاستحضار والتذكر.
التعبير “شالوا نومنا وشالو نعاسنا… شالوا روحنا وشالوا انفاسنا” يقدم صورة بلاغية قوية عن تأثير الفراق على الشخص. الفعل “شال” (أخذ/سلب) مكرر أربع مرات ليؤكد على شدة التأثير وعمقه. البدء بـ”النوم” و”النعاس” يشير إلى تأثير الفراق على الراحة الجسدية، ثم الانتقال إلى “الروح” و”الأنفاس” يعمق الصورة ليشمل التأثير الروحي والوجودي. هذا التدرج من الخارجي إلى الداخلي، ومن الجسدي إلى الروحي، يرسم صورة متكاملة لمعاناة الفراق.
في المقطع “يا حليل مجلسنا الهادي… ويا حليل بلبلنا الشادي”، ينتقل الشاعر إلى استحضار الأماكن والأجواء التي كانت تجمعه بالأحباب. “المجلس الهادي” يرمز إلى السكينة والأمان والدفء الإنساني، بينما “البلبل الشادي” يشير إلى الجمال والطرب والفرح. هذان التعبيران يخلقان صورة مثالية للماضي الجميل، ويجعلان المقارنة مع الحاضر المؤلم أكثر حدة وتأثيراً.
التعبير “العزول الرايح وغادي… كان قريب وكانوا قصادي” يحمل دلالات بلاغية عميقة ومؤلمة. “العزول” هو الذي يعزل ويفرق بين الحبيب وحبيبه، أي الوشاة والنمامون والحاسدون الذين يسعون لإفساد العلاقات الجميلة، و”الرايح وغادي” تعبير يدل على كثرة حركتهم ونشاطهم في الإفساد والوشاية. المفارقة المؤلمة في العبارة “كان قريب وكانوا قصادي” (كانوا أمامي) تشير إلى أن هؤلاء المفسدين كانوا قريبين جداً، ربما من الدائرة المقربة، مما يجعل إيذاءهم أكثر قسوة وألماً، ويفسر سبب الفراق الذي يعيشه الشاعر الآن.
في المقطع الأخير “يا حليل ناس حفظوا محبة… يا حليلهم ديل كانوا احبة”، يركز الشاعر على قيمة الحب والوفاء. التعبير “حفظوا محبة” يشير إلى الأمانة العاطفية والوفاء للمشاعر، وهي صفة نبيلة تزيد من قيمة هؤلاء الأحباب في نفس الشاعر. كلمة “احبة” (أحباب) تحمل كل معاني الحب الصادق والعلاقة الحميمة.
الصورة الطبية “الفؤاد الليهم حب… كان جريح وكانوا اطباء” تمثل قمة الإبداع البلاغي في النص. هنا يشبه الشاعر قلبه بالمريض الجريح، ويشبه الأحباب بالأطباء الذين يداوون الجراح. هذه الاستعارة تحمل عدة دلالات: فهي تؤكد على أن الحب له قوة شفاء وعلاج، وأن وجود الأحباب كان بمثابة الدواء للنفس المتعبة، وأن غيابهم الآن يعيد الجراح إلى حالتها الأولى.
من الناحية الإيقاعية، نلاحظ أن الشاعر استخدم بحراً شعرياً يتناسب مع اللهجة السودانية ويحافظ على التدفق الموسيقي للنص. القوافي المتنوعة والمتجانسة تخلق إيقاعاً داخلياً يسهل الحفظ والترديد، مما ساهم في انتشار النص وخلوده في الذاكرة الشعبية.
اللغة المستخدمة في النص تتميز بالبساطة والعفوية، لكنها في الوقت نفسه محملة بالمعاني العميقة والدلالات البلاغية القوية. هذا التوازن بين البساطة والعمق هو من أهم عوامل نجاح النص وتأثيره على المتلقي. فالشاعر لم يلجأ إلى التعقيد اللفظي أو الغموض الفكري، بل استطاع أن يعبر عن أعمق المشاعر الإنسانية بلغة واضحة ومؤثرة.
التكرار في النص ليس مجرد تقنية فنية، بل هو وسيلة لتعميق الأثر العاطفي وترسيخ المعنى في ذهن المتلقي. تكرار “يا حليل” في بداية كل مقطع يخلق إيقاعاً حزيناً يشبه النواح أو البكاء، بينما تكرار السؤال “انا بريدهم…ديارهم ووين” يؤكد على استمرارية المعاناة وعدم انقطاعها.
عندما تلقف الموسيقار برعي محمد دفع الله هذا النص الثري، أدرك أنه أمام قصيدة تحتاج إلى معالجة موسيقية خاصة تحافظ على روحها وتضيف إليها أبعاداً جديدة. فاللحن الذي وضعه برعي يتميز بالطابع الطربي الأصيل الذي يتناغم مع طبيعة النص الحزين. استخدم مقامات موسيقية شرقية تناسب حالة الحنين والشوق، مع إضافة لمسات خاصة تحمل الطابع السوداني المميز.
التوزيع الموسيقي للأغنية يظهر عبقرية برعي في فهم النص ومعايشته. فالآلات الموسيقية تتحاور مع الصوت لتخلق جواً عاطفياً متكاملاً يخدم المعنى ويعمق الأثر. العود بنغماته الدافئة يحاكي أنات القلب، والناي بصوته الشجي يعبر عن حسرة الفراق، والإيقاع المتوازن يحافظ على تدفق العاطفة دون إفراط أو تفريط.
وعندما وصل العمل إلى الفنان الراحل عبد العزيز محمد داؤود، قدم أداءً يعتبر من القمم الفنية في تاريخ الغناء السوداني. صوت عبد العزيز الذهبي استطاع أن ينقل كل ذرة من المشاعر المختزنة في النص واللحن إلى قلوب المستمعين. أداؤه يتميز بالصدق العاطفي والتقنية الفنية العالية، حيث نجح في استخدام صوته كآلة موسيقية معبرة تنوع في التلوين حسب مقتضيات المعنى.
قدرة عبد العزيز على التطريب الشرقي الأصيل ظهرت بوضوح في هذه الأغنية، حيث استخدم تقنيات الانتقال بين النغمات والتلاعب بالإيقاع بطريقة تخدم النص وتزيد من تأثيره. كما أن حضوره العاطفي القوي جعل كل من يستمع إلى الأغنية يشعر وكأنه يعيش التجربة بنفسه، مما يؤكد على قوة الأداء وصدق التعبير.
هذا التزاوج الثلاثي المبارك بين شعر عبد المنعم عبد الحي ولحن برعي محمد دفع الله وصوت عبد العزيز محمد داؤود أنتج تحفة فنية خالدة تجاوزت حدود الزمان والمكان لتصبح جزءاً من التراث الإنساني. فالأغنية تعبر عن مشاعر إنسانية عامة يمكن لأي شخص في أي مكان وزمان أن يتفاعل معها ويجد فيها صدى لتجاربه الشخصية.
من الناحية الثقافية، أصبحت هذه الأغنية رمزاً للتراث الغنائي السوداني الأصيل، وأحد أهم النماذج التي تُدرّس في الجامعات والمعاهد الموسيقية. كما أثرت على أجيال من الشعراء والملحنين والمطربين، وما زالت تلهم المبدعين حتى اليوم.
إن نجاح هذا العمل الفني وخلوده يعود إلى عوامل متعددة: صدق التجربة الشعرية، وجمال التعبير، وروعة التصوير البلاغي، وعبقرية التلحين، وبراعة الأداء. كل هذه العوامل تضافرت لتنتج عملاً فنياً متكاملاً يحمل في طياته كل مقومات الخلود والاستمرار.
في النهاية، تبقى أغنية “يا حليلهم دوام بطراهم” شاهداً على عظمة الفن السوداني وقدرته على التعبير عن أسمى المشاعر الإنسانية بأجمل الأساليب وأروع الطرق. إنها ليست مجرد أغنية تُسمع، بل تجربة حياتية تُعاش، ودرس في الجمال يُتعلم، وشاهد على أن الفن الحقيقي لا يعرف الحدود ولا يموت مع الزمن، بل يبقى خالداً في القلوب والأرواح.
أعلنت الصين عن تطوير سلاح فضائي متقدم يثير قلقاً دولياً، إذ يمكنه ضرب أي هدف…
مبارك الفاضل : لماذا يتمسك بعض قادة الحركات بوزارة المالية ووزارة التعدين ووزارة الشؤون الإنسانية…
نفذت اليابان، الجمعة، حكم الإعدام في رجل تمت إدانته بجريمة قتل وتقطيع أوصال 9 أشخاص…
عدد من نجوم ومشاهير العالم يتوافدون لحضور حفل زفاف مؤسس ورئيس "أمازون " الملياردير جيف…