Categories: الأعمدة

عندما يبكي القلب شوقاً: رحلة روحية في قصيدة البرعي الخالدة”

بقلم : معاوية أبوالريش
تُعدّ قصيدة “يا راحلين إلى منى بقيادي” للإمام العارف بالله الشيخ عبدالرحيم البرعي من أجمل ما نُظم في الأدب الصوفي السوداني و العربي، وهي قصيدة تحمل في طياتها قصة مؤثرة تضفي على أبياتها عمقاً إنسانياً استثنائياً. فقد كان الشيخ البرعي في طريقه لأداء فريضة الحج، وبينما كان يقترب من هدفه المنشود – مكة المكرمة – حيث لم تعد تفصله عنها سوى مسافة قريبة لا تتجاوز الخمسين ميلاً، أعاقه المرض من إكمال رحلته المقدسة. هذه التجربة المريرة – القرب الجغرافي والبُعد القسري – ألهمته هذه القصيدة الخالدة التي تجسد تجربة إنسانية عميقة تتأرجح بين الشوق المحرق والحرمان المؤلم.
” البناء الفني والإيقاع الموسيقي”
تنتمي القصيدة إلى البحر الكامل، وهو بحر يتميز بموسيقاه الهادئة العذبة التي تناسب موضوع الشوق والحنين. أما القافية المختارة وهي حرف الدال المكسور، فتضفي على القصيدة نبرة حزينة متكررة تشبه النحيب المكتوم، كما أن تكرار هذا الصوت يخلق إيقاعاً داخلياً يحاكي دقات القلب المتلهف المحروم من وصاله.
” شرح القصيدة بيتاً بيتاً”
” يا راحلين إلى مِنى بقيادي
هَـيَّـجتُمُ يومَ الرَّحيلِ فؤادِي”
يستهل الشيخ البرعي قصيدته بنداء مؤثر موجه للحجاج الذين استطاعوا إكمال رحلتهم إلى منى، بينما بقي هو محروماً من هذه النعمة. كلمة “بقيادي” تشير إلى قوافل الإبل التي تُساق بالقياد، وهي صورة تستدعي مشهد الرحيل التقليدي. رؤية هؤلاء الحجاج وهم يكملون ما عجز هو عن إتمامه أثارت في قلبه مشاعر الشوق والحسرة.
“سِرتُم وسَارَ دلِيلُكم يا وَحْشَتِي
الشَّوقُ أقْلَقني وصَوتُ الحادي”
يصف البرعي مشهد رحيل القافلة بدليلها، ويعبر عن مشاعره بقوله “يا وحشتي” وهو تعبير يدل على شدة الألم النفسي. صوت الحادي (منشد القوافل) الذي يحدو بالإبل ويغني لها ليخفف عنها مشقة السفر، أصبح مصدر قلق وألم للشاعر لأنه يذكره بما فاته.
“أحرمتمُ جَفْنِي المنامَ بِـبُـعدِكُم
يا سَاكِنين الْمُنحنَى والـوادي”
استعارة بديعة حيث يجعل بُعد الحجاج سبباً في حرمان عينيه من النوم، فكأن رحيلهم قد “أحرم” عينيه أي منعهما من النوم، وهو تورية لطيفة على معنى الإحرام في الحج. “المنحنى والوادي” إشارة لمعالم مكة المكرمة وما حولها من جبال ووديان.
“فإذا وَصَلْتُم سالِـمِـينَ فَبَلّـغُـوا
مِنَّي السَّلامَ إلى النَّبيَّ الهـادي”
يتوجه البرعي بطلب مؤثر للحجاج بأن يبلغوا سلامه للنبي محمد صلى الله عليه وسلم عند زيارتهم للمدينة المنورة. هذا البيت يعكس عمق محبة البرعي للرسول الكريم ورغبته في أن يصل سلامه إليه ولو عن طريق الوسطاء.
“ويَلُـوحُ لِي مابَـينَ زمزمَ والصَّفا
عِندَ المَقامِ سَمِعتُ صوتَ مُنادِي”
يصف البرعي روحية أو حلماً رآه، حيث يتخيل نفسه في الحرم المكي بين بئر زمزم وجبل الصفا، وعند مقام إبراهيم عليه السلام يسمع صوت منادٍ. هذا يدل على شدة تعلق قلبه بالأماكن المقدسة حتى أنه يراها في أحلامه ورؤاه.
“ويقولُ لِي يَـا نائما جِدَّ السُّرى
عَرفاتُ تَجلِي كُلَّ قَلبٍ صادِي”
يكمل البرعي وصف الرؤية، حيث ينادي المنادي الشاعر قائلاً له أن يجدّ في السير ليلاً (السُّرى)، وأن عرفات – ذلك المكان المقدس – تجلي وتروي كل قلب صادٍ (عطشان روحياً). هذا يشير إلى البُعد الروحي لعرفات كمكان للتجلي الإلهي.
” تاللهِ مَـا أَحلى المَبيتَ علَى مِنَى
فِي لَـيْـلِ عِيدٍ أَبرَك َالأعيادي”
يقسم الشاعر بالله على حلاوة المبيت في منى ليلة العيد (عيد الأضحى)، ويصف هذا العيد بأنه أبرك الأعياد. هذا القسم يعكس شدة شوقه لتلك التجربة الروحية التي حُرم منها.
” مَن نَالَ مِن عَرَفات نَظرة سَاعَةٍ
نَالَ السُّرورَ ونَالَ كُلَّ مُرادِي”
يؤكد البرعي على القيمة الروحية العظيمة لعرفات، فمن نال منها ولو نظرة واحدة لساعة واحدة، فقد نال السرور وكل ما يريده من الخير. هذا يعكس المكانة الخاصة لعرفات في قلوب المؤمنين.
” ضَحُّوا ضَحَايَـاهُم و سَالَ دِماؤُهَا
وأَنَا المُتَيَّمُ قَد نَحرتُ فُـؤَادِي”
صورة شعرية بديعة يقابل فيها البرعي بين تضحية الحجاج بالأنعام وسيلان دمائها، وبين تضحيته هو بقلبه الذي “نحره” حزناً وشوقاً. كلمة “المتيّم” مصطلح صوفي يدل على المحب الذي بلغ درجة عالية من الحب والشوق.
” لَـبِسُوا ثِيَابَ البِيضِ شَارَات الرَّضـا
وأنَا المتَـيَّـمُ قد لَبِستُ سَوادِي”
مقابلة ضدية بديعة بين بياض ثياب الإحرام التي يرتديها الحجاج كعلامة على الطهارة والرضا، وبين السواد الذي يلبسه الشاعر كرمز للحزن والأسى على ما فاته من الحج.
” يَارَبَّ أنتَ وَصَلْـتَـهُم صِلنِي بِـهـمْ
وبِـحَـقّـهِم يا رَبَّ حُلَّ قِـيَـادِي”
دعاء مؤثر يتوسل فيه الشاعر إلى الله أن يصله بالحجاج كما وصلهم إلى بيته الحرام، ويطلب منه أن يحل قياده (أي يفك قيوده) بحق هؤلاء الحجاج الصالحين. هذا يظهر إيمانه بالتوسل بحق الصالحين.
” بِـالله يَـا زُوَّار قَـبر مُحَمَّدٍ
مَن كَـانَ مِنْكُم رائِحاً أَو غَـادِي”
يتوجه البرعي بالقسم لزوار قبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم، سواء كانوا ذاهبين إليه أو راجعين منه، وهو تمهيد لطلب سيذكره في البيت التالي.
” يُبْـلِـغ إلى الـمُخْتارِ ألَفَ تَحِيَّـةٍ
مِن عاشِـقٍ مُتَـفَـتّتِ الأَكْبـادِ”
يطلب من زوار المدينة أن يبلغوا النبي الكريم (المختار) ألف تحية من عاشق (محب صادق) متفتت الأكباد من شدة الحب والشوق. تعبير “متفتت الأكباد” يدل على شدة الألم النفسي والحسرة.
” قُولُوا لَـهُ عَبْدُ الرَّحيمِ مُتَيَّمٌ
وَمُفَارِقُ الأَحْبَـابِ والأَوْلادِ”
يطلب منهم أن يذكروا اسمه “عبد الرحيم” وأنه متيم (عاشق صادق) مفارق للأحباب والأولاد، أي أنه مستعد للتضحية بكل شيء من أجل زيارة النبي الكريم.
“صَلَّى عَلَيكَ الله يَا عَلَمَ الْـهُـدَى
مَا سَارَ رَكْبٌ أَوْ تَرَنَّـمَ حَادِيْ”
يختتم البرعي القصيدة بالصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، واصفاً إياه بـ”علم الهدى” أي راية الهداية. ويدعو له كلما سار ركب أو ترنم حادي، وهو دعاء يستمر مع استمرار الحياة والسفر.
” البُعد الروحي والمأساة الشخصية”
إن معرفة الظروف التي نُظمت فيها هذه القصيدة تضفي عليها بُعداً إنسانياً مؤثراً. فالبرعي لم يكن محروماً من الحج لأسباب مالية أو اجتماعية، بل كان في طريقه إليه فعلاً، وقد قطع معظم المسافة، ولم يعد يفصله عن هدفه سوى خمسين ميلاً فقط. هذا القرب الجغرافي مع البُعد القسري بسبب المرض يجعل الألم أكثر حدة والحسرة أعمق أثراً.
هذه التجربة الشخصية المريرة حولت القصيدة من مجرد نص شعري إلى صرخة روح محترقة، ومن أبيات منظومة إلى اعتراف إنساني صادق. كل بيت فيها يحمل جزءاً من معاناة الشاعر الحقيقية، وكل صورة شعرية تعكس ألماً عاشه بالفعل.
” قصيدة الشوق الخالدة”
إن قصيدة “يا راحلين إلى منى بقيادي” تمثل نموذجاً فريداً في الأدب السوداني و العربي، حيث تجتمع فيها عبقرية الصياغة الشعرية مع صدق التجربة الإنسانية وعمق المعاناة الروحية. إنها ليست مجرد قصيدة عن الحج، بل هي سجل صادق لتجربة إنسانية مؤلمة، وصرخة قلب محروم، ودعاء روح متعطشة للقاء الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وبذلك تبقى هذه القصيدة شاهداً على قدرة الشعر والشيخ البرعي على تحويل المعاناة الشخصية إلى فن خالد، والألم الفردي إلى تجربة إنسانية عامة يتفاعل معها كل من ذاق طعم الحرمان والشوق إلى بيت الله الحرام.

ahmed

Recent Posts

صحيفة “إسرائيل هيوم” العبرية  تنشر تفاصيل خطيرة عن خطة وضعها ترامب ونتنياهو تخص غزة وسوريا ودولا عربية أخرى

نشرت صحيفة "إسرائيل هيوم" العبرية، يوم الخميس، تفاصيل محادثة بين ترامب ونتنياهو وديرمر وماركو روبيو،…

6 ساعات ago

وزير الخارجية الإيراني يعترف بتعرض المنشآت النووية لأضرار كبيرة

أول اعتراف رسمي.. وزير الخارجية الإيراني: أضرار كبيرة طاولت المواقع النووية بعد 12 يومًا من…

7 ساعات ago

قائد إستخبارات الفرقة (19) مشاة مروي يطمئن بهدؤ الأحوال الأمنية ويدعو لعدم الإنسياق وراء الشائعات المضللةَ

  مروي إعلام المحلية.رصد الحسن عبدالمهيمن طمأن قائد شعبة* إستخبارات الفرقة (19) مشاة مروي العقيد…

7 ساعات ago

الإعلامية *مروة عيد* تتقدم بالتهنئة إلى الأمة الإسلامية والعربية بمناسبة حلول العام الهجري الجديد

تقدمت الإعلامية *مروة عيد*، مقدمة البرامج المعروفة وصاحبة البصمة الإعلامية المتميزة، بأصدق التهاني والتبريكات إلى…

7 ساعات ago

يدفعها الخليجيون … سي إن إن”: ترامب يدرس تعويض إيران ببرنامج نووي سلمي في فوردو بـ30 مليار دولار

ذكرت شبكة "سي إن إن"، مساء اليوم الخميس، أن الولايات المتحدة تدرس استبدال موقع فوردو…

8 ساعات ago

الميرغني: دفعنا بمقترحات جديدة لاطراف اجتماع بروكسل بشأن حل الأزمة السودانية

لندن / الخميس 26 / 06 / 2025 رحَّب رئيس الكتلة الديمقراطية نائب رئيس الحزب…

9 ساعات ago