Categories: الأعمدة

“أرجوك يا نسيم يوماتي أبقى بريدا”: درة المديح النبوي في الشعر السوداني”

بقلم : معاوية أبوالريش
مدخل:
تُعد قصيدة “أرجوك يا نسيم يوماتي أبقى بريدا” للشاعر السوداني إبراهيم ود الفراش، والتي أبدع في أدائها المادح عبدالله الحبر، من أجمل وأروع القصائد في المديح النبوي في الأدب السوداني المعاصر. تتميز هذه القصيدة بعمق المشاعر الدينية وصدق العاطفة، وتجمع بين الشوق إلى الأراضي المقدسة والحب العميق للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، مُصاغة بلغة شعرية رقيقة تمزج بين الفصحى والعامية السودانية بأسلوب فني متميز يعكس عبقرية الشاعر في التعبير عن المشاعر الإنسانية النبيلة.
” التحليل المفصل للقصيدة”
الاستهلال الشاعري والتوسل بالطبيعة
“أرجوك يا نسيم يوماتي أبقى بريدا ، كلما تمشي جيب لي من خبارا جريدة”
يفتتح ود الفراش قصيدته بهذا الاستهلال الشاعري البديع الذي يكشف عن مدى تأثره بالتراث الشعري العربي الأصيل، حيث يستلهم تقليد الشعراء القدامى في مناجاة الطبيعة وجعلها وسيطاً للتعبير عن المشاعر. كلمة “أرجوك” تحمل في طياتها التوسل والرجاء، وهي تعكس حالة الضعف الإنساني أمام عظمة الشوق والحنين.
النسيم هنا ليس مجرد عنصر طبيعي، بل هو “بريد” أي رسول يحمل الأخبار والرسائل. هذا التشخيص للنسيم يضفي على النص بُعداً شاعرياً عميقاً، فالشاعر يحوّل الهواء إلى كائن حي قادر على التواصل والنقل. كلمة “يوماتي” بالعامية السودانية تعني “يومياً” أو “كل يوم”، وهي تشير إلى استمرارية الحاجة لهذا التواصل، فالشوق لا ينقطع والحنين دائم.
“جريدة” في هذا السياق تعني الرسالة أو الخبر، وهي مأخوذة من الاستخدام العربي القديم لكلمة “جريدة” بمعنى صحيفة أو رسالة. الجمال في هذا البيت يكمن في البساطة التي تحمل عمقاً فلسفياً، فالشاعر يطلب من النسيم أن يكون واسطة اتصال دائمة بينه وبين الأماكن المقدسة.
“السبب المخلّي لأفكاري ديمة شريدة ، قلبي يحن إلى أرض الحجاز وبريدا”
في هذين البيتين يكشف الشاعر عن الدافع وراء حالة القلق النفسي التي يعيشها. كلمة “المخلّي” بالعامية السودانية تعني “الذي يجعل” أو “المسبب”، و”ديمة” تعني “دائماً” أو “باستمرار”. الأفكار “الشريدة” تعني المشتتة والمتناثرة، وهي صورة بلاغية تعكس حالة الاضطراب النفسي الذي يعيشه الشاعر. الحنين هنا ليس مجرد شعور عابر، بل هو حالة وجودية تسيطر على كيان الشاعر بأكمله. أرض الحجاز ليست مجرد مكان جغرافي، بل هي رمز للقداسة والطهارة والكمال الروحي. تكرار كلمة “بريدا” في نهاية البيت يخلق نوعاً من الموسيقى الداخلية ويؤكد على فكرة الرسالة والتواصل.
” التعلق الروحي والانشغال الدائم”
“أرضاً فيها ياسين ابن عبدالله ،جايل عقلي فيها.. وديمة بيها بلاهي” يبدأ الشاعر هنا في تحديد سبب تعلقه بأرض الحجاز، فهي ليست مجرد أرض، بل هي الأرض التي تضم الرسول الكريم. “ياسين ابن عبدالله” إشارة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث “ياسين” من أسمائه الشريفة المذكورة في القرآن الكريم في قوله تعالى “يس والقرآن الحكيم”، و”ابن عبدالله” نسبة إلى والده عبدالله بن عبد المطلب.
“جايل عقلي فيها” تعبير عامي سوداني بديع يعني أن عقله منشغل ومتجول في هذه الأرض، وهو تصوير دقيق لحالة الانشغال الذهني والتفكير المستمر. “بلاهي” كلمة عامية تعني “منشغل” أو “مشغول البال”، وهي تعكس كيف أن هذا التعلق الروحي يسيطر على جميع حواس الشاعر وأفكاره.
“حبها ليا آمر في فؤادي وناهي ، هو الخلاني ينطق بالجواهر فاهي”
هنا يصل الشاعر إلى ذروة التعبير عن قوة هذا الحب وسيطرته على قلبه. الحب هنا ليس مجرد عاطفة، بل هو “آمر وناهي”، أي أنه يأمر وينهى في القلب، وهذا تصوير بليغ لقوة التأثير. هذا التعبير مستوحى من القرآن الكريم في وصف النفس بأنها “أمارة بالسوء”، لكن الشاعر هنا يجعل الحب هو الآمر الناهي، مما يعكس نبل هذا الحب وطهارته. “الخلاني” تعني “الذي جعلني” أو “الذي سبب لي”، و”الجواهر فاهي” تعني الكلمات الثمينة المتدفقة. هذا البيت يكشف عن فلسفة الشاعر في الإبداع، فهو يرى أن حب الأماكن المقدسة والرسول الكريم هو مصدر إلهامه الشعري، وهو الذي يجعله ينطق بالكلمات الجميلة كالجواهر المتناثرة.
” مخاطبة الأرض المقدسة”
“يا بلد الرسول فوقك بجر القافية، يا وطن الرجال أهل السريرة الصافية”
ينتقل الشاعر إلى أسلوب المخاطبة المباشرة للمدينة المنورة، وهو أسلوب شائع في الشعر العربي للتعبير عن المشاعر القوية. “بلد الرسول” تعبير محبب يضفي على المكان قداسة خاصة، فهو ليس مجرد بلد، بل هو بلد الرسول الكريم.”فوقك بجر القافية” تعبير شاعري بديع يعني أن هذا المكان يستحق أجمل الشعر وأروع القوافي. كلمة “بجر” في العامية السودانية تعني “أسحب” أو “أجلب”، والمعنى أن الشاعر يجلب ويسحب أجمل القوافي لتكون مناسبة لعظمة هذا المكان.
“وطن الرجال أهل السريرة الصافية” وصف لأهل المدينة المنورة بأنهم رجال في الحق والصدق، وأن سرائرهم صافية نقية. هذا الوصف يعكس نظرة الشاعر المثالية لأهل المدينة،باعتبارهم امتداداً لجيل الصحابة الكرام الذين عاشوا مع الرسول وتربوا على يديه.
“لي قلبي السقيم فد نظرة منك شافية شوقي عليك زي شوق المريض للعافية” يصف الشاعر قلبه بأنه “سقيم”، وهو تعبير عن حالة المرض الروحي الناتج عن البعد عن الأماكن المقدسة. “فد نظرة منك شافية” تعني أن مجرد نظرة واحدة من هذا المكان المبارك كافية لشفاء هذا القلب السقيم. هذا التعبير يحمل بُعداً صوفياً عميقاً، حيث يؤمن الشاعر بالبركة والشفاء الروحي المنبعث من الأماكن المقدسة.
التشبيه في البيت الثاني بديع ومؤثر، فالشاعر يشبه شوقه للمدينة المنورة بشوق المريض للعافية والشفاء. هذا التشبيه يعكس شدة المعاناة التي يعيشها الشاعر، فكما أن المريض يتوق للشفاء ليتخلص من ألمه، كذلك الشاعر يتوق لزيارة المدينة ليتخلص من ألم الفراق والبعد.
“القسم والعزم المقدس”
“قسماً بي مناها وكعبتها وأركانها، والقبة البتتمنى الثريا مكانها”
يقسم الشاعر هنا بأقدس الأماكن في الإسلام، وهو أسلوب شائع في الشعر العربي للتأكيد على صدق المشاعر وقوة العزم. “مناها” إشارة إلى منى، وهي من المشاعر المقدسة في الحج. الكعبة وأركانها رمز للوحدانية والتوحيد. “القبة البتتمنى الثريا مكانها” صورة شعرية رائعة للقبة الخضراء في المسجد النبوي. “الثريا” هي مجموعة النجوم المعروفة،والشاعر يصور القبة النبوية بأنها عالية ومرتفعة لدرجة أن النجوم تتمنى أن تكون في مكانها. هذا التصوير يعكس عظمة مكانة الرسول صلى عليه وسلم ومدفنه الشريف في قلب الشاعر.
“غاية قصدي أزورها.. وأبقى من سكانها، لكن المقادير بالقيود مالكانا”
يعبر الشاعر عن غايته وهدفه الأسمى وهو زيارة هذه الأماكن المقدسة، بل والإقامة فيها وأن يصبح من سكانها. هذا التعبير يعكس عمق التعلق والرغبة في الانتماء الدائم لهذه الأماكن المباركة. “لكن المقادير بالقيود مالكانا” تعبير مؤثر عن الواقع المر الذي يحول بين الشاعر وتحقيق حلمه. “المقادير” إشارة إلى القدر الإلهي، و”مالكانا” تعني “قيدتنا أو حبستنا”. هذا البيت يعكس الصراع بين الرغبة القوية والظروف المانعة، وهو صراع إنساني عميق يعيشه كل من يشتاق لأماكن لا يستطيع الوصول إليها.
“جذور الحب العميقة”
“مغرم بيها من أيام قراية لوحي، مالقيت لي دواياً بيهو أشفي جروحي”
يؤكد الشاعر أن حبه للأماكن المقدسة ليس وليد اللحظة، بل هو حب قديم نشأ معه منذ الصغر. “أيام قراية لوحي” إشارة إلى أيام الطفولة عندما كان يتعلم القراءة في الكتاب (الخلوة) على اللوح الخشبي، وهو تقليد تعليمي سوداني أصيل.
هذا التعبير يحمل بُعداً حضارياً مهماً، فهو يربط بين التعليم الديني الأول والحب للأماكن المقدسة، مما يعكس كيف أن التربية الدينية في السودان تنمي حب الرسول والأماكن المقدسة في نفوس الأطفال منذ الصغر.
“مالقيت لي دواياً بيهو أشفي جروحي” تصوير بليغ لحالة الألم الروحي التي يعيشها الشاعر. الحب هنا أصبح “جرحاً” يحتاج لدواء، وهذا الدواء الوحيد هو الوصال والزيارة. التعبير بـ”دواياً” بالعامية السودانية يضفي على النص عفوية وصدقاً في التعبير.
“غير يا نفسي ترحلي للحجاز وتروحي، وأكرف من صبا طيبة البينعش روحي”
يخاطب الشاعر نفسه مخاطبة المؤنث، وهو أسلوب شائع في الشعر العربي. “ترحلي وتروحي” تعبير عن الرغبة في السفر والذهاب، والتكرار هنا يؤكد على شدة الرغبة. “أكرف من صبا طيبة البينعش روحي” من أجمل الأبيات في القصيدة. “أكرف” تعني “أشرب” أو “أرتشف”، و”صبا” هو الرياح الشرقية العليلة، و”طيبة” هو الاسم القديم للمدينة المنورة. “البينعش روحي” تعني “الذي ينعش روحي”. هذا البيت يجمع بين الحاسة الجسدية (الشرب) والحاسة الروحية (انتعاش الروح)، مما يخلق صورة شعرية متكاملة تعبر عن التوق الكامل للمدينة المنورة.
“العجلة واللهفة للوصول”
“مشتاق لي هواها ولي زلال أبيارها، آه أنا في الزمان لمتين أمر بديارها؟”
يعبر الشاعر عن اشتياقه لهواء المدينة المنورة ومائها العذب. “زلال أبيارها” تعبير جميل عن الماء العذب الصافي في آبار المدينة، والزلال هو الماء البارد العذب. هذا الاشتياق للهواء والماء يعكس رغبة الشاعر في الاندماج الكامل مع هذا المكان المقدس.
“آه أنا في الزمان لمتين أمر بديارها؟” تعبير مؤثر عن الألم والحسرة. “آه” تعبير عن التوجع والألم، و”لمتين” تعني “متى” أو “إلى أي وقت”. الاستفهام هنا استفهام استغراب وتحسر، فالشاعر يتساءل عن الوقت الذي سيتمكن فيه من زيارة هذه الديار المقدسة.
“ما بتنفع معاي القافلة والسيّارة، مستعجل.. بدور أمشيلا بي طيّارة”
هذا البيت من أروع ما في القصيدة في التعبير عن شدة الشوق واللهفة. الشاعر يقول أن وسائل النقل العادية مثل القافلة (وسيلة النقل التقليدية) أو السيارة لا تكفي لتلبية عجلته في الوصول. “بدور أمشيلا بي طيّارة” تعني “أريد أن أذهب إليها بالطائرة”، وهذا التعبير يعكس رغبة الشاعر في الوصول بأسرع ما يمكن.
هذا البيت يحمل بُعداً زمنياً مهماً، فهو يعكس تطور وسائل النقل والمواصلات، حيث ينتقل الشاعر من القافلة (التراث) إلى السيارة (الحداثة) إلى الطائرة (المعاصرة)، مما يظهر مدى تأثر الشعر السوداني بروح العصر.
“رسم لوحة شاعرية للمدينة المنورة”
“يا نخلا مفرهد والنسيم يتكيلو، يا زهرا بيبسم والسحاب يبكيلو”
ينتقل الشاعر إلى رسم لوحة شاعرية خلابة للطبيعة في المدينة المنورة. “نخلا مفرهد” تعني النخيل المتفرع الجميل، و”يتكيلو” تعني “يحتضنه” أو “يداعبه”. هذا التصوير يضفي حيوية على الطبيعة، فالنسيم والنخيل يتفاعلان في مشهد شاعري جميل.
“زهرا بيبسم والسحاب يبكيلو” صورة شعرية رائعة تجمع بين المتناقضات. الأزهار تبتسم (الفرح) والسحاب يبكي (الحزن أو الخشوع)، وهذا التناقض يخلق توازناً جمالياً في الصورة الشعرية. يمكن فهم بكاء السحاب على أنه بكاء من الخشوع والإجلال لهذا المكان المقدس.
“البلد المنوّر بي نهارو وليلو، من نور الهدى الجاهو البعير يشكيلو”
يصف الشاعر المدينة المنورة بأنها منورة ليلاً ونهاراً، وهذا النور ليس نوراً مادياً فحسب، بل هو نور الهداية النبوية المنبعث من وجود الرسول فيها. هذا التصوير يحمل بُعداً روحياً عميقاً، فالمدينة تستمد نورها من نور الرسالة المحمدية.”من نور الهدى الجاهو البعير يشكيلو” صورة شعرية مبتكرة، حيث يصور الشاعر كيف أن نور الهداية قوي لدرجة أن حتى الإبل تشكو من شدته. هذا التصوير يعكس عظمة هذا النور الروحي الذي يملأ المكان.
” بداية المديح النبوي الصريح”
“صاحب المعجزات يا حليل زمانو وجيلو، إن مشى في الأرض وحش القفار يأويلو” يبدأ الشاعر هنا في المديح النبوي الصريح، واصفاً الرسول الكريم بـ”صاحب المعجزات”. “يا حليل زمانو وجيلو” تعبير سوداني يعني “يا حبذا زمانه وجيله”، وهو تعبير عن الإعجاب والتقدير للزمن الذي عاش فيه الرسول والجيل الذي عاصره.
“إن مشى في الأرض وحش القفار يأويلو” إشارة إلى المعجزات النبوية، حيث كانت الوحوش البرية تأوي إلى الرسول وتطمئن في حضرته. هذا التصوير يعكس الأمان والسكينة التي كانت تنبعث من شخصية الرسول الكريم.
“يبراهو الغمام مشتاق إلى تظليلو، من فرقو بينوح جذع الشجر يبكيلو”
يشير الشاعر إلى معجزتين مشهورتين من معجزات الرسول. الأولى هي كيف أن الغمام كان يظلل الرسول في رحلاته، والثانية هي حادثة حنين جذع النخلة عندما فارقه الرسول وانتقل إلى المنبر. “بينوح” تعني “ينوح” أو “يبكي بصوت عالٍ”، وهذا التعبير يضفي حيوية على الجماد ويجعله يشارك في المشاعر الإنسانية.
” الثناء على العزيمة والقوة النبوية”
“أبو مدحاً حكاهو الباري في تنزيلو، عزمو يزعزع الجبل العظيم ويزيلو”
يشير الشاعر إلى أن الله تعالى مدح الرسول في القرآن الكريم، وهذا أعظم مدح يمكن أن يناله أي مخلوق. “الباري” من أسماء الله الحسنى، و”تنزيلو” تعني “تنزيله” أي القرآن الكريم. “عزمو يزعزع الجبل العظيم ويزيلو” تصوير مجازي لقوة عزيمة الرسول وإرادته، فهي قوية لدرجة أنها تستطيع زعزعة الجبال وإزالتها. هذا التصوير مستوحى من الآية الكريمة “لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله”.
“فارساً ما بتطيق أعداهو هجمة خيلو ، كفّو بيخجل الغيث البيهدر سيلو”
يصف الشاعر الرسول الكريم بأنه فارس لا يقهر، وأن أعداءه لا يستطيعون مواجهة هجمات خيله وجيوشه. هذا وصف لانتصارات الرسول في غزواته وحروبه ضد أعداء الإسلام. “كفّو بيخجل الغيث البيهدر سيلو” صورة شعرية رائعة لجود الرسول وكرمه، فيده الكريمة تخجل المطر الغزير من كثرة عطائها وجودها. “البيهدر سيلو” تعني “الذي يهدر كالسيل”، والمعنى أن عطاء الرسول أكثر غزارة من المطر المتدفق.
” المكارم والفضائل النبوية”
“ود عزة قريش كل المكارم هيلو، ثابت شرعو والقرآن تملّي دليلو” “ود عزة قريش” تعبير سوداني يعني “رجل عزة قريش” أو “فخر قريش”، وهو وصف للرسول بأنه مصدر عزة وفخر لقبيلة قريش بل للعرب جميعاً. “كل المكارم هيلو” تعني أن جميع الفضائل والمكارم تجتمع في شخصيته الكريمة.
“ثابت شرعو والقرآن تملّي دليلو” تأكيد على أن الشريعة الإسلامية ثابتة لا تتغير، والقرآن الكريم هو دليل وبرهان على ذلك. “تملّي” تعني “يملأ” أو “يتلو”، والمعنى أن القرآن مليء بالأدلة على صحة الرسالة المحمدية.
“توّرم قدمو.. من طول القيام في ليلو ، راسيات الجبال تهتزّ من ترتيلو”
يشير الشاعر إلى عبادة الرسول وقيامه الطويل في الليل، حتى أن قدميه الشريفتين كانتا تتورمان من طول الوقوف في الصلاة. هذا التصوير يعكس عمق عبادة الرسول وخشوعه.
“راسيات الجبال تهتزّ من ترتيلو” صورة شعرية مهيبة، حيث يصور الشاعر كيف أن ترتيل الرسول للقرآن كان قوياً ومؤثراً لدرجة أن الجبال الثابتة تهتز من جماله وعذوبته. هذا التصوير يعكس قوة التأثير الروحي لصوت الرسول الكريم.
” الجمال المحمدي الذي لا يضاهى”
“ذو الحسن البديع المافي ليهو مثيلو، أوصاف المحاسن قاصرة عن تمثيلو”
يصف الشاعر جمال الرسول الذي لا مثيل له في الخلق، وهو “الحسن البديع” أي الجمال المتفرد الذي أبدعه الله تعالى. “المافي ليهو مثيلو” تعبير عامي سوداني يعني “الذي لا يوجد له مثيل”، وهو تأكيد على تفرد الجمال المحمدي وعدم وجود نظير له في الخلق. “أوصاف المحاسن قاصرة عن تمثيلو” اعتراف صريح من الشاعر بعجز اللغة والكلمات عن وصف جمال الرسول حق وصفه. كلمة “قاصرة” تعني عاجزة وغير قادرة، و”تمثيلو” تعني تصويره أو وصفه. هذا الاعتراف بالعجز هو في حد ذاته نوع من المدح البليغ، إذ يشير إلى أن جمال الرسول يفوق قدرة البشر على الوصف والتعبير.
“يوسف حسنو.. من حسنو إشتعل قنديلو، والبدر إستعار تكميلو من تكميلو” يقارن الشاعر بين جمال الرسول الكريم،وجمال يوسف عليه السلام، الذي اشتهر في التراث الإسلامي بأنه أجمل الخلق. “يوسف حسنو.. من حسنو إشتعل قنديلو” تعني أن يوسف استمد جماله من جمال الرسول، كما يشتعل القنديل بالزيت. هذا تصوير مجازي بديع يجعل جمال الرسول هو المصدر الأصلي للجمال في الخلق. “والبدر إستعار تكميلو من تكميلو” صورة شعرية خيالية رائعة، حيث يصور الشاعر البدر (القمر المكتمل) وهو يستعير كماله ونوره من كمال الرسول ونوره. هذا التصوير يرفع من شأن الرسول ويجعله مصدر الكمال والجمال في الكون كله.
“الأمنية العظيمة والتوق للمجاورة”
“نيتي أروح أجاورو وكل حين أمشيلو ، وألزم بابو بالحال العلي أشكيلو” يعبر الشاعر عن أعظم أمنياته وهي الذهاب لمجاورة الرسول في المدينة المنورة. “أجاورو” تعني أسكن بجواره، وهذا تعبير عن الرغبة في القرب الدائم من الرسول الكريم. “كل حين أمشيلو” تعني في كل وقت أذهب إليه، وهو تعبير عن التعلق الدائم والحب المستمر. “وألزم بابو بالحال العلي أشكيلو” صورة مؤثرة للشاعر وهو يلزم باب الرسول الشريف ليشكو إليه أحواله. “ألزم” تعني أبقى ملتصقاً، و”بالحال العلي” تعني “بالحالة التي عليها” أو “بأحوالي”. هذا التعبير يعكس الحاجة الروحية للاستغاثة بالرسول والشكوى إليه، كما يفعل المحب مع حبيبه.
“وين المتلو رحّام الضعيف يرتيلو؟ ، والمسكين بيلزم حملو منه يشيلو”
يطرح الشاعر سؤالاً استنكارياً عن وجود مثيل للرسول في الرحمة والعطف. “وين المتلو” تعني “أين مثيله”، وهو استفهام إنكاري يؤكد عدم وجود مثيل للرسول. “رحّام الضعيف يرتيلو” تعني أنه كثير الرحمة بالضعفاء يرعاهم ويعتني بهم.
“والمسكين بيلزم حملو منه يشيلو” تصوير جميل لرحمة الرسول بالمساكين، حيث يحمل همومهم ويخفف عنهم أعباءهم. “بيلزم حملو” تعني “يلزم حمله” أو “يجب حمله”، والمعنى أن الرسول يتحمل أعباء المساكين والضعفاء كأنها واجب عليه.
” الاعتراف بالذنب والاستغاثة”
“أبكي.. وأقوللو جيت يا سيد مضر وكنانة ، خايف من لهيب ناراً يوج دخانها” ينتقل الشاعر إلى مشهد درامي مؤثر، حيث يصور نفسه واقفاً أمام الرسول باكياً معترفاً بذنوبه. “جيت يا سيد مضر وكنانة” إقرار بالمجيء والحضور أمام الرسول، و”سيد مضر وكنانة” نسبة للرسول إلى قبائل مضر وكنانة العربية العريقة.
“خايف من لهيب ناراً يوج دخانها” تصوير مرعب لنار جهنم، حيث “يوج دخانها” تعني “يتصاعد دخانها”. هذا التصوير يعكس الخوف الحقيقي من العذاب الأخروي، والحاجة للشفاعة النبوية للنجاة من هذا المصير المرعب.
“دايرك ساعة الأعمال يقيف ميزانها، تلزم لي صحايفاً بالذنوب ملآنة”
يطلب الشاعر من الرسول الشفاعة في اليوم الآخر عندما يقف الميزان لوزن الأعمال. “دايرك” تعني “محتاجك” أو “أريدك”، وهي تعبير عن الحاجة الماسة للشفاعة. “ساعة الأعمال يقيف ميزانها” إشارة إلى يوم القيامة عندما توزن أعمال العباد. “تلزم لي صحايفاً بالذنوب ملآنة” اعتراف صريح بكثرة الذنوب، حيث “تلزم” تعني “تتطلب” أو “تحتاج”، والمعنى أن صحائف أعماله مملوءة بالذنوب وتحتاج لشفاعة الرسول للمغفرة.
” التوسل والاستغاثة المؤثرة”
“عشمان فيك.. جيتك يا حبيب مولاكا ، لايذ.. مستجير.. بالزهراء بترجاكا” يعبر الشاعر عن أمله الكبير في رحمة الرسول وشفاعته. “عشمان فيك” تعني “أمل فيك” أو “واثق فيك”، وهي تعبير عن الثقة في رحمة الرسول. “جيتك يا حبيب مولاكا” إقرار بالمجيء والالتجاء إلى الرسول، و”حبيب مولانا” من أحب الألقاب للرسول في الوجدان الإسلامي.
“لايذ.. مستجير.. بالزهراء بترجاكا” تعبير عن الاستغاثة والالتجاء. “لايذ” تعني “لاجئ” أو “مستغيث”، و”مستجير” تعني “طالب الإجارة والحماية”. “الزهراء” إشارة إلى السيدة فاطمة الزهراء ابنة الرسول، و”بترجاكا” تعني “أتوسل بها إليك”. هذا التوسل بالزهراء يعكس مكانتها الخاصة في قلب أبيها وإيمان الشاعر بأن توسله بها سيجد قبولاً عند الرسول.
“قول لي يا جنا الفراش بنتولاكا، أنت معانا في الدارين .. ونحن معاكا”
يطلب الشاعر من الرسول أن يقول إن “الفراش” (اسم الشاعر إبراهيم ود الفراش) من أتباعه ومحبيه. “جنا” تعني “ولد ” أو “إبن الفراش”، وهي دعوة للقرب والقبول. “بنتولاكا” تعني “نتولاك” أو “نتبعك”، وهي إقرار بالولاء والاتباع.
“أنت معانا في الدارين .. ونحن معاكا” تعبير جميل عن المعية والصحبة، حيث يؤكد الشاعر أن الرسول معهم في الدنيا والآخرة، وأنهم معه في الدارين أيضاً. هذا التعبير يعكس إيمان الشاعر بأن العلاقة مع الرسول لا تنقطع بالموت، بل تستمر في الدار الآخرة.
” الخاتمة المباركة والدعاء الجامع”
“رضوان الإله يشمل جميع أصحابو، الصلاة والسلام دايماً يلازمن بابو”
يختتم الشاعر قصيدته بالدعاء للرسول وأصحابه الكرام. “رضوان الإله يشمل جميع أصحابو” دعاء بأن يشمل رضا الله تعالى جميع صحابة الرسول الكرام. هذا الدعاء يعكس حب الشاعر لآل البيت والصحابة، ويؤكد على الوحدة في المحبة النبوية.
“الصلاة والسلام دايماً يلازمن بابو” دعاء بأن تلازم الصلاة والسلام باب الرسول الشريف دائماً. “دايماً” تعني “أبداً”، و”يلازمن” تعني “تلازم” أو “تلتصق”. هذا الدعاء يعكس الأدب النبوي في ختام أي حديث عن الرسول بالصلاة والسلام عليه.
“بي عد الهموم عند المعاد جنابو، يوم الآخرة.. والفرح العلي أصحابو”
يطلب الشاعر الشفاعة عند البعث والمعاد بعدد همومه وأحزانه. “بي عد الهموم” تعني “بعدد الهموم”، وهذا تعبير بليغ عن كثرة الحاجة للشفاعة. “عند المعاد جنابو” تعني “عند البعث في جانبه” أو “في حضرته”.
“يوم الآخرة.. والفرح العلي أصحابو” دعاء بأن يكون مع الرسول وأصحابه في الفرح والسعادة يوم القيامة. “الفرح العلي” تعني “الفرح العظيم” أو “الفرح الكبير”، وهو إشارة إلى الفرح بالنجاة والفوز بالجنة والشفاعة النبوية.
” التحليل الجمالي والفني”
البنية اللغوية والمعجمية
تتميز القصيدة بثراء معجمي استثنائي، حيث نجح الشاعر في المزج العبقري بين ثلاثة مستويات لغوية متدرجة: الفصحى العالية في المديح النبوي المباشر، والفصحى المبسطة في الوصف والسرد، والعامية السودانية الأصيلة في التعبير عن المشاعر الحميمة. هذا المزج ليس عشوائياً، بل يخدم بناء المعنى ويعكس طبقات المشاعر المختلفة عند الشاعر.
الألفاظ العامية مثل “بريدا، شريدة، جايل، بلاهي، مفرهد، بيبسم” تحمل دلالات صوتية وإيحائية لا توجد في مقابلاتها الفصيحة، مما يضفي على النص عفوية وصدقاً في التعبير. كما أن استخدام التراكيب العامية مثل “المافي ليهو مثيلو” و”بي عد الهموم” يخلق إيقاعاً موسيقياً خاصاً يميز الشعر السوداني.
” البناء الإيقاعي والموسيقي”
تنتمي القصيدة إلى البحر الكامل المقبوض، لكن الشاعر تصرف في التفعيلات بحرية فنية عالية لتتناسب مع المضمون العاطفي والروحي. القافية الموحدة (لو/ليلو) تخلق نغماً موسيقياً متكرراً يشبه الأذكار والتسابيح، مما يتناسب مع الطابع الديني للنص. الجناس الداخلي بين الكلمات مثل “بريدا/جريدة”و”شريدة/بريدا” يخلق تلاعباً صوتياً جميلاً يطرب الأذن. كما أن التوازي الصوتي في أبيات مثل “يا نخلا مفرهد والنسيم يتكيلو / يا زهرا بيبسم والسحاب يبكيلو” يخلق إيقاعاً موسيقياً داخلياً يعزز المعنى.
” الصور الشعرية والمجازات”
تزخر القصيدة بصور شعرية مبتكرة تجمع بين التراث والحداثة. صورة النسيم كبريد يحمل الأخبار تعيد إحياء التراث العربي القديم في قالب معاصر. وصورة القبة النبوية التي “تتمنى الثريا مكانها” تقلب التشبيه التقليدي وتجعل النجوم تحسد القبة على علوها. المجازات الجريئة مثل “عزمو يزعزع الجبل العظيم ويزيلو” و”راسيات الجبال تهتزّ من ترتيلو” تستخدم عناصر الطبيعة القوية (الجبال، الغمام، الأشجار) لتعكس قوة الشخصية النبوية وتأثيرها الكوني.
” التناص والتداخل النصي”
يوظف الشاعر التناص مع النصوص المقدسة والتراث الإسلامي بمهارة عالية. إشارات مثل “ياسين ابن عبدالله” و”الباري في تنزيلو” و”سيد مضر وكنانة” تستدعي النصوص القرآنية والتراث النبوي دون نقل حرفي، بل بإعادة صياغة إبداعية.
التناص مع قصص الأنبياء (يوسف عليه السلام) والمعجزات النبوية (حنين الجذع، تظليل الغمام) يثري النص ويربطه بالثقافة الإسلامية العميقة للمتلقي السوداني.
” البنية الدرامية والتصاعد العاطفي”
تتبع القصيدة بناءً درامياً محكماً يبدأ بالحنين والشوق (الحدث المثير)، ويتصاعد عبر مراحل الوصف والمدح (الصراع العاطفي)، ويصل إلى ذروة الاعتراف بالذنب والاستغاثة (الأزمة الروحية)، وينتهي بالدعاء والأمل في الشفاعة (الحل والانفراج).
هذا البناء يخلق رحلة عاطفية كاملة تأخذ المتلقي من الشوق الأرضي إلى التطلع السماوي، ومن الألم الدنيوي إلى الأمل الأخروي.
“الخصائص الأسلوبية المميزة”
يتميز أسلوب الشاعر بالمباشرة العاطفية دون سذاجة، والعمق الروحي دون تعقيد فلسفي. استخدام ضمير المتكلم “أنا، نيتي، قلبي” يضفي صدقاً وحميمية على التعبير. كما أن التنويع بين الخطاب (مناجاة النسيم، مخاطبة المدينة) والسرد (وصف المعجزات) والاعتراف (الإقرار بالذنوب) يخلق ديناميكية أسلوبية جذابة.
” الدلالات الثقافية والحضارية”
تعكس القصيدة ملامح مهمة من الثقافة السودانية الإسلامية. ذكر “أيام قراية لوحي” يشير إلى نظام التعليم التقليدي في الخلاوي السودانية. التنقل من “القافلة” إلى “السيّارة” إلى “الطيّارة” يعكس التطور التاريخي في وسائل النقل وتأثر الشاعر بروح العصر.
كما تعكس القصيدة عمق الصلة الروحية بين السودان والحجاز، وتؤكد على مركزية الحج والعمرة في الوجدان السوداني الجمعي.
تُعد قصيدة “أرجوك يا نسيم يوماتي أبقى بريدا” للشاعر إبراهيم ود الفراش تحفة فنية حقيقية في تراث المديح النبوي السوداني والعربي. فقد نجح الشاعر في خلق عمل شعري يجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين العمق الروحي والجمال الفني، بين الخصوصية الثقافية السودانية والعالمية الإسلامية.
إن هذه القصيدة تشهد على حيوية التراث الشعري السوداني وقدرته على التجديد والإبداع، كما تؤكد على عمق الحب النبوي في الوجدان السوداني. وأداء المادح عبدالله الحبر لها قد أضفى عليها بُعداً صوتياً وموسيقياً جعلها تتردد في قلوب المحبين وتنتشر في أوساط عشاق المديح النبوي.
إن دراسة هذه القصيدة تكشف عن مدى ثراء الأدب السوداني وقدرته على التعبير عن أعمق المشاعر الإنسانية بلغة شاعرية رفيعة، وتؤكد على أن الشعر السوداني يحتل مكانة مرموقة في الأدب العربي المعاصر، ويستحق المزيد من الدراسة والاهتمام والتقدير.

ahmed

Recent Posts

صحيفة “إسرائيل هيوم” العبرية  تنشر تفاصيل خطيرة عن خطة وضعها ترامب ونتنياهو تخص غزة وسوريا ودولا عربية أخرى

نشرت صحيفة "إسرائيل هيوم" العبرية، يوم الخميس، تفاصيل محادثة بين ترامب ونتنياهو وديرمر وماركو روبيو،…

6 ساعات ago

وزير الخارجية الإيراني يعترف بتعرض المنشآت النووية لأضرار كبيرة

أول اعتراف رسمي.. وزير الخارجية الإيراني: أضرار كبيرة طاولت المواقع النووية بعد 12 يومًا من…

6 ساعات ago

قائد إستخبارات الفرقة (19) مشاة مروي يطمئن بهدؤ الأحوال الأمنية ويدعو لعدم الإنسياق وراء الشائعات المضللةَ

  مروي إعلام المحلية.رصد الحسن عبدالمهيمن طمأن قائد شعبة* إستخبارات الفرقة (19) مشاة مروي العقيد…

7 ساعات ago

الإعلامية *مروة عيد* تتقدم بالتهنئة إلى الأمة الإسلامية والعربية بمناسبة حلول العام الهجري الجديد

تقدمت الإعلامية *مروة عيد*، مقدمة البرامج المعروفة وصاحبة البصمة الإعلامية المتميزة، بأصدق التهاني والتبريكات إلى…

7 ساعات ago

يدفعها الخليجيون … سي إن إن”: ترامب يدرس تعويض إيران ببرنامج نووي سلمي في فوردو بـ30 مليار دولار

ذكرت شبكة "سي إن إن"، مساء اليوم الخميس، أن الولايات المتحدة تدرس استبدال موقع فوردو…

7 ساعات ago

الميرغني: دفعنا بمقترحات جديدة لاطراف اجتماع بروكسل بشأن حل الأزمة السودانية

لندن / الخميس 26 / 06 / 2025 رحَّب رئيس الكتلة الديمقراطية نائب رئيس الحزب…

9 ساعات ago