Categories: الأعمدة

هذه تمغربيت.. وطوبى للغرباء!- الكاتبة والإعلامية نادية الصبار

هل جربت أن تكتب عن الوطن دون أن تُفرط؟ وأن تُمسك بروحه دون أن تحبسه في سطر أو عنوان؟ لقد جربتُ ذلك مرارًا وتكرارًا، وفي كل مرة كانت «تمغربيت» تنفلت من بين يدي، لتعود إليّ بلون جديد وملامح لا تُشبه أخرى.
فـ«المغرب شجرة جذورها في إفريقيا وأغصانها في أوروبا»، صدق حين قالها الملك الراحل الحسن الثاني، لا كتوصيف جغرافي، بل كإعلان لهوية متماسكة حد الهجانة، مرنة إلى صلبة، لذلك تجدها عصية على الفهم، لأنها بكل بساطة تحس ولا تدرك.

هكذا هي «تمغربيت».. جذورها في الأرض وعروشها في السماء، هوية مركّبة، تتغذى من التاريخ، وتتشكل على إيقاع العيش المشترك. فنحن كلٌّ لا يتجزأ وأجساد مختلفة في روح واحدة، إنها الثابتة المتقلّبة، الموحِّدة المتعددة، المنفرجة المتجاورة، المنفصلة المتصلة، الراسخة المتجددة في «تمغربيت».

إنها هي ذاتها حين ترتّل أفواه الصبية ترانيم الحسانية، وهي ذاتها حين تتعاقب في سوس “العالِمة” حكايات الجد والشيخ والفقيه كإرث لا يشيخ.
وتطوان وشفشاون ومن على شاكلتهما، فلا زالت تحتفظ بعبق الأندلس المنصهر في انسيابية.
وأما الجوهرة فاس، “فاللهم أذهب البأس واحفظها منارة لكل حرفة ثمينة وصنعة جميلة”.
وفي الصويرة موكادور؛ يهمس القداس والناسكون عند الغروب، ويتعالى الآذان ويرتفع بجوار نداء السبت كما كان منذ قرون.
وعن المنارة مراكش، موطن القصور والمساجد والمدارس والمآثر والقبور، كل ما فيها شاهد أن حضارة هناك، حيث الكتبية، الباهية والبديع..

فالتعدد في المغرب ليس استثناءً عارضًا، بل قاعدة ثابتة، هو الأصل الراسخ وسرّ الغنى ونبض الروح والجود والوجود. ففي تعدد اللهجات إيقاع ونغمة وفي اختلاف العقيدة فسحة، وفي الزي والعادات ألوان تتماوج، وفي فنون الطبخ أنفاس وأطياب وألف طريقة وطريقة فوق العادة.

يقول المثل الشعبي: “إذا شبعت الكرش تقول للراس غني”، وإذا غنت وتغنت فالحساني، والغرناطي، والأندلسي، والملحون، والكناوي، والشكوري، وفن العيطة… بل عيوط تنادي!

هذا ما يجعل الحديث عن التراث المغربي مغامرة حقيقية، ليس لأنه متنوع فحسب، بل لأنه حيّ يرزق، يمشي على الأرض ويجاور السماء، ينفلت من القوالب ويعيد تشكيل نفسه ويحافظ عليها، يتجلى ويظهر في كل التفاصيل،
تجده في النقوش والثقوب، في النسيج، في المحيك والمخيط، في الحلي، في الأفرشة والأقمشة والألبسة، في الأطباق والأطعمة، في البيوت، في الشوارع والأزقة، في سمفونية “الماء والخضرة والوجه الحسن”، وفي معزوفة بلادي يا زين البلدان يا جنات على حد الشوف”، في حياة حبلى ب”تمغربيت” التي تتغنج في كل التفاصيل.

هذه هي «تمغربيت» الشامخة الصامدة التابثة، العصية المطواعة التي نتوارثها بلا عقود مكتوبة، ولا تحتاج لتوثيق، لأنها بكل بساطة تسكن فينا.
لتظل ساكنة فينا وشاهدة على ما فينا، بل درعا حاميا ومقاومة ناعمة بلا هوادة بوجه أي تهديد خارجي.

«تمغربيت» إذا هي الحصن الذي لا يقهر والقلعة التي لن تحيد، وطوبى للغرباء.

osama

Recent Posts

الميرغني: دفعنا بمقترحات جديدة لاطراف اجتماع بروكسل بشأن حل الأزمة السودانية

لندن / الخميس 26 / 06 / 2025 رحَّب رئيس الكتلة الديمقراطية نائب رئيس الحزب…

48 دقيقة ago

مقتل عثمان عجيل جودة الله مسؤول الاستخبارات في الدعم السريع في اشتباكات الفولة

كشفت مصادر محلية عن وقوع اشتباكات قبلية بين المسيرية الفلايتة ومنتمين لأولاد سرور، بمدينة الفولة…

3 ساعات ago

لجان مقاومة الفاشر تبعث برساله للثنائي ” جبريل ومناوي ” المعركة الحقيقة فك الحصار وليس المناصب !

قالت لجان مقاومة الفاشر إن المعركة الحقيقية تتمثل في فك الحصار عن مدينة الفاشر وفتح…

4 ساعات ago

رونالدو يجدد عقده مع النصر السعودي حتى 2027

أعلن نادي النصر السعودي لكرة القدم، الخميس، تجديد عقد قائده الأسطورة البرتغالي كريستيانو رونالدو ليستمر…

4 ساعات ago

سيدي الحسن في كسلا .. زيارتو بي الاتنين ..ع. هلاوي ..

الخلوه .. علاقتي كانت بها يوما كانت ضعيفه .. اذكر ان امي الحقتني بها وانا…

4 ساعات ago