Categories: الأعمدة

” عندما يتحدث المال: درس من قصة تشرشل وسائق التاكسي”

بقلم : المستشار معاوية أبوالريش
” القصة التي تحكي حقيقة النفس البشرية”
يحكي لنا التاريخ قصة طريفة وعميقة في آن واحد، بطلها رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل. في يوم من الأيام، ركب تشرشل سيارة أجرة متوجهاً إلى مكتب هيئة الإذاعة البريطانية BBC لإجراء مقابلة إذاعية. وعندما وصل إلى وجهته، طلب من السائق أن ينتظره أربعين دقيقة حتى يعود.
اعتذر السائق بأدب قائلاً: “لا أستطيع سيدي، فعليّ العودة إلى البيت لأستمع إلى خطاب ونستون تشرشل على الراديو.” لم يكن السائق يعلم أن الرجل الجالس خلفه هو تشرشل نفسه.
فرح تشرشل كثيراً بهذا الإعجاب والولاء، وأخرج من جيبه عشرة جنيهات وأعطاها للسائق. وهنا حدثت المفارقة المؤلمة: عندما رأى السائق المبلغ الكبير، قال دون تردد: “ليذهب تشرشل وأقواله إلى الجحيم! أنا بانتظارك ساعات حتى تعود يا سيدي!”
” المال: محك الأخلاق الحقيقي”
هذه القصة البسيطة تكشف لنا حقيقة عميقة عن النفس البشرية وتأثير المال على سلوكنا ومبادئنا. في لحظات قليلة، تحول السائق من شخص مبدئي يضع قناعاته فوق المكسب المادي، إلى شخص يتنازل عن كل ما كان يؤمن به مقابل حفنة من المال.
إن المال ليس شراً بحد ذاته، فهو وسيلة ضرورية للحياة، لكن المشكلة تكمن في كيفية تعاملنا معه وما نكون مستعدين للتضحية به من أجله. المال يكشف معادننا الحقيقية، فالنبيل يبقى نبيلاً غنياً كان أم فقيراً، والوضيع يظهر وضاعته عندما يُغريه المال.
: دروس وعبر من القصة”
الدرس الأول: اختبار الثبات على المبدأ: المبادئ الحقيقية تُختبر عندما تواجه إغراءات قوية. السائق في البداية أظهر ولاءً حقيقياً لمن يحترمه، لكن عندما جاء الاختبار الحقيقي بظهور المال، فشل في الصمود.
الدرس الثاني: سرعة التحول عند الإغراء: الأمر المؤسف في القصة هو سرعة التحول. لم يتردد السائق ولم يتصارع مع ضميره، بل غيّر موقفه فوراً. هذا يدل على أن احترامه المزعوم لتشرشل لم يكن عميقاً بما فيه الكفاية.
الدرس الثالث: المال كاشف الحقائق:
المال كشف الوجه الحقيقي للسائق. في الواقع، لم يغيّر المال طبيعته، بل كشف عما كان مخفياً في داخله. فالشخص ذو المبادئ الراسخة لا يتزعزع بسهولة.
” التطبيق في حياتنا اليومية”
هذه القصة تدعونا للتأمل في سلوكنا اليومي. كم مرة غيّرنا آراءنا أو مواقفنا لمصلحة مادية؟ كم مرة تنازلنا عن قناعاتنا مقابل فائدة شخصية؟ إن أمثلة هذا السلوك تحيط بنا في كل مجالات الحياة.
” في العمل والمهنة” هل نحن مستعدون للتضحية بأخلاقيات العمل مقابل ترقية أو علاوة؟ هل نصمت عن الحق خوفاً على وظائفنا؟ كم من موظف يعلم بمخالفات في مكان عمله لكنه يختار الصمت حفاظاً على راتبه؟ وكم من مهني يقدم خدمات رديئة أو غير مكتملة مقابل تحقيق أرباح أكبر، متناسياً واجبه المهني تجاه عملائه؟
” في الخدمة المدنية والحكومية”
لعل أخطر مظاهر بيع الضمير يظهر في قطاع الخدمة المدنية، حيث يفترض أن يكون الموظف خادماً للشعب ومؤتمناً على مصالحه. لكن الواقع يشهد أمثلة مؤسفة كثيرة: موظف في دائرة التراخيص يؤخر معاملة المواطن لأسابيع، لكنه ينجزها في يوم واحد مقابل “إكرامية” (الرشوة)
طبيب في مستشفى حكومي يهمل مرضى العيادة العامة ويوجههم للعيادة الخاصة مقابل أجر إضافي
مدرس في مدرسة حكومية لا يؤدي واجبه كاملاً في الفصل ويدفع الطلاب للدروس الخصوصية مقابل المال
موظف في دائرة الجمارك يغض الطرف عن مخالفات التهريب مقابل مبالغ مالية ، مفتش في دائرة الصحة يعطي تقارير مخالفة للواقع مقابل رشوة من أصحاب المطاعم أو المصانع
هؤلاء الموظفون يشبهون سائق التاكسي تماماً: في البداية أقسموا على خدمة الوطن والمواطن، لكن عندما لمع المال أمام أعينهم، تنكروا لكل ما أقسموا عليه.
” في القضاء والعدالة” أخطر من ذلك كله عندما يصل الفساد إلى دور العدالة. القاضي الذي يحكم لصالح من يدفع أكثر، والمحامي الذي يبيع قضية موكله لصالح الخصم، والشاهد الذي يغيّر شهادته مقابل المال ، كل هؤلاء يهدمون أركان العدالة في المجتمع.
” في الإعلام والصحافة” الصحفي الذي يكتب ما يريده الممول وليس الحقيقة، والإعلامي الذي يروج لسلعة رديئة مقابل إعلان مدفوع، والناقد الذي يمدح عملاً فنياً سيئاً مقابل مبلغ مالي، كل هؤلاء يخونون رسالتهم المقدسة في نقل الحقيقة للجمهور.
” في التعليم والتربية” المعلم الذي لا يؤدي واجبه في الفصل ويجبر الطلاب على الدروس الخصوصية، والأستاذ الجامعي الذي يبيع الدرجات مقابل المال، ومدير المدرسة الذي يقبل طلاباً غير مؤهلين مقابل رشوة ،كل هؤلاء يدمرون مستقبل الأجيال مقابل مكاسب آنية.
” في الطب والصحة” الطبيب الذي يطلب فحوصات غير ضرورية لزيادة أرباحه، والصيدلي الذي يبيع أدوية منتهية الصلاحية، والممرض الذي يهمل المريض إلا إذا دفع له “إكرامية” ، كل هؤلاء يتاجرون بصحة الناس وحياتهم.
” في العلاقات الاجتماعية” هل نجامل الأغنياء والمتنفذين على حساب الحق والعدل؟ كم من صديق تغيّر عندما تحسن وضعه المالي أو ساء؟ وكم من قريب قطع صلة الرحم بسبب الميراث أو المال؟ نرى أيضاً من يغيّر آراءه ومواقفه تبعاً لمن يدفع أكثر في المجالس والتجمعات.
” في السياسة والمجتمع” السياسي الذي يغيّر حزبه مقابل منصب أعلى، والناشط الذي يسكت عن قضية عادلة مقابل وظيفة في الحكومة، والمثقف الذي يمدح النظام الذي كان ينتقده بمجرد حصوله على منحة أو امتياز ، كل هؤلاء يكررون فعلة سائق التاكسي على نطاق أوسع وأخطر.
” الحكمة من الابتلاء بالمال” يقول الله تعالى: “إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ”. المال فتنة واختبار، يُظهر معدن الإنسان الحقيقي. والحكمة أن نتعامل مع المال كوسيلة لا كغاية، وأن نجعل مبادئنا وأخلاقنا فوق كل اعتبار مادي.
الإنسان الحكيم هو من يستطيع أن يحافظ على مبادئه وقناعاته مهما كانت الإغراءات. أما من يبيع ضميره بحفنة من المال، فهو كالسائق في قصتنا، يفقد احترام الآخرين واحترام نفسه في لحظة ضعف.
“عواقب بيع الضمير” إن من يبيع ضميره مقابل المال ، سواء كان موظفاً حكومياً يتقاضى الرشوة، أو طبيباً يهمل مرضاه، أو معلماً يخون رسالته يدفع أثماناً باهظة: فقدان الثقة، عندما ينكشف أمره، يفقد ثقة الناس إلى الأبد تدمير السمعة: الرشوة والفساد وصمة عار تلاحق صاحبها ، القلق والخوف: يعيش في قلق دائم من انكشاف أمره
تدهور المجتمع : فساد الأفراد يؤدي إلى فساد المجتمع كله
العقاب الإلهي : “وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ” لنتذكر أن المال الحرام لا يبارك فيه أبداً، وأن ما يأتي بسهولة عبر الفساد يذهب بسهولة أكبر.
” الثبات على المبدأ” في نهاية المطاف، المال يذهب ويأتي، لكن السمعة والكرامة والمبادئ هي ما تبقى مع الإنسان. القصة تعلمنا أن نكون حذرين من سلطة المال على نفوسنا، وأن نتمسك بمبادئنا مهما كانت الإغراءات.
الدرس العظيم من هذه القصة هو أن الثبات على المبدأ أغلى من كل كنوز الدنيا، وأن الإنسان الذي يبيع قناعاته بالمال قد باع أثمن ما يملك بأبخس الأثمان.
لنتذكر دائماً أن المال خادم جيد لكنه سيد سيء، ولنحرص على أن نكون نحن من نتحكم فيه، وليس هو من يتحكم فينا.

ahmed

Recent Posts

بورتسودان … تأجيل مؤتمر سفارة إيران عن تداعيات الحرب

في تطور مفاجىء اعتذرت الخارجية السودانية لسفارة إيران بالسودان عن قيام مؤتمر صحفي حول تداعيات…

10 دقائق ago

تدخلات عاجلة لمعالجة الأضرار في مشروع الجزيرة

أجرى المهندس ضو البيت عبد الرحمن، وكيل وزارة الري والموارد المائية، جولة ميدانية  اليوم الثلاثاء…

14 دقيقة ago

نفذتها “قوات مشتركة” بتنسيق محكم،، تأمين العاصمة،، “حملات تفتيش”..

  استمرار الحملات لتجفيف منابع الجريمة واسترداد المنهوبات.. الجنرال معاوية: نجاح الحملات رهين بتعاون المواطنين..…

58 دقيقة ago

قدم للمحلية من الحاج يوسف:”جنايات الدبة” تحاكم متعاون مع المليشيا بالاعدام

  الدبة : خالد عبد الله أصدرت محكمة جنايات الدبة اليوم ٢٥/٦/٢٠٢٥م ، برئاسة مولانا…

ساعتين ago

” القشة التي قصمت ظهر النظام: عندما فاض الكيل بالشعب السوداني”

"حكمة المثل العربي" في التراث العربي مثل شهير يقول: "القشة التي قصمت ظهر البعير"، وهو…

ساعتين ago

خميس الفكرة والنغم وتقرير المصير!

حين يعلو صوت البندقية على كل الأصوات، وتُمحى الملامح الثقافية أمام زحف الحرب فإن التاريخ…

ساعتين ago