Categories: الأعمدة

حل مشكلة السلطة في السودان: (من وجهة نظري )

بقلم : د. كمال محمد الامين عبد السلام
في عالم السياسة، كما في عالم الطب، التشخيص الخاطئ يؤدي إلى علاج خاطئ. وربما كانت مشكلة السودان الأساسية تكمن في خطأ في التشخيص استمر لعقود طويلة. ظل هنالك خلط كبير بين مفهوم “الإدارة المحلية” الذي ساد فترات طويلة في ظل الاستعمار البريطاني وبين مفهوم “الحكم المحلي” وظل هنالك خلط حتى بين المثقفين بين المفهومين ، ذلك أن الفرق كبير بينهما ..وحينما نصف الإدارة المحلية بأنها الحكم المحلي وكأننا نصف الماء بأنه نار، أو نصف النهار بأنه ليل.
الفرق بينهما ليس مجرد لعبة كلمات أو ترف أكاديمي، بل هو الفرق بين الحياة والموت السياسي، بين الاستقرار والفوضى، بين دولة تخدم شعبها ودولة تستنزف طاقاته.
الإدارة المحلية: أذرع المركز الطويلة
الإدارة المحلية، كما عرفها الاستعمار البريطاني وورثناها عنه، هي مجرد امتداد لسلطة المركز. إنها الذراع الطويلة التي تمتد من الخرطوم لتصل إلى أقاصي البلاد، تحمل أوامر المركز وتنفذها دون نقاش أو تفاوض.
في هذا النظام، المسؤول المحلي ليس إلا موظفاً كبيراً يتلقى التعليمات من فوق وينفذها تحت. لا يملك ميزانية حقيقية، ولا سلطة في اتخاذ القرارات المهمة، ولا حتى القدرة على تعديل برنامج عمل ليناسب ظروف منطقته الخاصة. إنه مثل قائد أوركسترا لا يملك النوتة الموسيقية، أو طبيب لا يملك أدوات التشخيص.
هذا النظام أنتج لنا عقوداً من الفشل الإداري، حيث تتراكم المشاكل في المناطق النائية بينما الحلول محبوسة في مكاتب الخرطوم، وحيث يموت المرضى في أقاليم الشرق بينما قرار شراء الدواء ينتظر موافقة وزير في العاصمة.
أما الحكم المحلي: السلطة الحقيقية في خدمة الشعب
أما الحكم المحلي، فهو نظام مختلف جذرياً. إنه يعطي السلطة الحقيقية للمستوى المحلي، يجعل المجالس البلدية قادرة على اتخاذ قرارات مباشرة وسريعة لخدمة مواطنيها. في هذا النظام، عمدة المدينة أو رئيس المجلس البلدي يملك صلاحيات حقيقية في إدارة التعليم والصحة والمياه ومكافحة الحرائق وجمع القمامة وتنظيم الأسواق.
تخيل أن مدير المستشفى في كسلا يستطيع أن يقرر شراء الأدوية اللازمة فوراً دون انتظار موافقة من الخرطوم تأتي بعد أسابيع. تخيل أن مدير التعليم في نيالا يستطيع أن يعدل المناهج لتناسب البيئة المحلية، أو أن يوظف المعلمين الذين يحتاجهم دون انتظار قرار وزاري.
هذا ما فعله قانون الحكم الشعبي المحلي لسنة 1951، وهذا ما يجب أن نعود إليه، لكن بتحديث يواكب عصرنا.
قانون 1951: الجوهرة المنسية
قانون الحكم الشعبي المحلي لسنة 1951 كان آخر ما أنتجته الإدارة البريطانية قبل رحيلها، وربما كان أفضل ما أنتجته. لأول مرة في تاريخ السودان الحديث، طُبق الحكم المحلي بمعناه الحقيقي، حيث حصلت المجالس المحلية على سلطات حقيقية وميزانيات مستقلة وقدرة على اتخاذ قرارات مباشرة.
لكن هذا القانون دُفن مع الاستقلال، وحل محله نظام الولايات الذي أعادنا إلى نقطة الصفر، بل إلى ما هو أسوأ من ذلك. فبدلاً من أن نبني على هذا الأساس الصلب، هدمناه وأقمنا على أنقاضه نظاماً معقداً ومكلفاً وغير فعال.
النظام الولائي: المشكلة المركبة
النظام الولائي الحالي يعاني من مشكلة مركبة: فهو من جهة يحتفظ بمركزية القرار (فالوالي يحكم بأوامر من المركز)، ومن جهة أخرى يضيف طبقة إدارية إضافية تعقد الأمور وتزيد التكاليف دون أن تحسن الخدمات.
النتيجة؟ مواطن في الفاشر يحتاج إلى موافقة من والي الولاية، الذي يحتاج بدوره إلى موافقة من وزير في الخرطوم، الذي ربما يحتاج إلى موافقة من رئيس الوزراء. وفي هذه الدوامة البيروقراطية، تضيع الحلول وتتفاقم المشاكل.
الحل: النظام الفيدرالي المحدود
الحل الذي نقترحه بسيط في مفهومه، عملي في تطبيقه: تقسيم السودان إلى ست مديريات على النسق الفيدرالي، مع توزيع السلطات بين مستويين فقط:
المستوى الاتحادي (المركزي):يختص بالشؤون الخارجية والدفاع والأمن القومي والسياسة النقدية والقضايا الدستورية الكبرى.
المستوى المحلي (البلديات):يختص بكل ما يتعلق بالخدمات المباشرة للمواطنين: التعليم، الصحة، المياه، الطرق المحلية، جمع القمامة، تنظيم الأسواق، مكافحة الحرائق، والخدمات الاجتماعية.
هذا التبسيط يلغي الطبقات الإدارية الوسطى المعقدة ويضع المسؤولية مباشرة أمام المواطن. عمدة مدينتك هو المسؤول عن نظافة الشوارع وجودة التعليم وتوفر الدواء في المستشفى. إذا فشل، فأنت تعرف من تحاسب في الانتخابات القادمة.
التحديث العصري للقانون التاريخي
قانون 1951 كان رائعاً في زمنه، لكن الزمن تغير. اليوم نحتاج إلى تحديثه ليواكب التطورات التكنولوجية والإدارية الحديثة. نحتاج إلى:
-الحكومة الإلكترونية:حيث يستطيع المواطن أن يحصل على الخدمات إلكترونياً دون طوابير أو رشاوى.
– الشفافية المالية:حيث تُنشر ميزانيات البلديات وتُراقب من قبل المواطنين.
– المشاركة الشعبية:حيث يشارك المواطنون في وضع أولويات الإنفاق من خلال آليات حديثة.
– الرقابة والمحاسبة: حيث توجد آليات واضحة لمحاسبة المسؤولين المحليين.
لماذا هذا هو الحل الوحيد؟
قد يسأل سائل: لماذا الجزم بأن هذا هو الحل الوحيد؟ الجواب بسيط: لأن كل الحلول الأخرى جُربت وفشلت.
جربنا الحكم العسكري المباشر، فأنتج لنا انقلابات متتالية. جربنا النظام الولائي، فأنتج لنا فساداً وبيروقراطية. جربنا الحكم الديمقراطي المركزي، فأنتج لنا عدم استقرار وصراعات حزبية تشل العمل العام.
الحل الوحيد الذي لم نجربه حقاً هو الحكم المحلي الفعال، الذي يضع السلطة قريباً من المواطن، ويجعل المسؤولية واضحة ومحددة، ويخلق حوافز حقيقية للإنجاز والتطوير.
عندما تصبح السلطة موزعة بين آلاف المجالس المحلية، يصبح الانقلاب العسكري مستحيلاً عملياً. لا يستطيع أي جنرال أن يسيطر على آلاف المجالس البلدية المنتشرة في أنحاء البلاد، كل منها يدير شؤونه بطريقة مستقلة.
وعندما يصبح النجاح في الخدمة العامة مرتبطاً بالإنجاز المحلي الملموس، وليس بالولاء للمركز، تختفي الحوافز للانقلابات. لأن من يريد أن يخدم الشعب سيجد طريقه مفتوحاً أمامه في المجالس المحلية، ومن يريد السلطة للسلطة سيجد أن السلطة الحقيقية أصبحت موزعة ولا يمكن الاستيلاء عليها بانقلاب.
## ختاما : الطريق إلى المستقبل
المستقبل لا يُبنى بالأحلام، بل بالقرارات الصائبة والعمل الدؤوب. والقرار الصائب الآن هو العودة إلى الحكم المحلي الحقيقي، لكن بثوب عصري وأدوات حديثة.
هذا ليس حلماً أو طموحاً، بل ضرورة حتمية. فالسودان لن يستقر إلا عندما يحصل كل مواطن على الخدمات التي يستحقها، وهذا لن يحدث إلا عندما تصبح السلطة قريبة منه، مسؤولة أمامه، وقادرة على خدمته.
الحل موجود، والطريق واضح، والإرادة وحدها هي المطلوبة. فهل نملك الشجاعة لاتخاذ القرار الصعب الذي سيوقف دوامة الفشل التي تدور منذ عقود؟
الجواب في أيدينا، والمستقبل ينتظر قرارنا. والمستوي المحلي حق حصري للشباب والنساء فهم الأقدر علي تقديم الخدمات وبنزاهة علينا .. وبذلك لن يصبح المستوي الاتحادي جازيا لأنه مجرد من السلطات سوي ماذكرناه بالمقدمة
تحياتي

ahmed

Recent Posts

ريتاج الصالح تخوض أولى تجاربها في الدراما المصرية وتواصل تألقها بعد نجاحها في الخليج

كتبت: مروة حسن تخوض الفنانة الخليجية ريتاج الصالح أولى تجاربها في الدراما المصرية خلال الفترة…

14 دقيقة ago

*منصة “سايبر إكس” (CyberX) تقود معركة الوعي بالأمن السيبراني في العالم العربي*

سايبر إكس: هدفنا ترسيخ ثقافة الأمان الرقمي لدى الأجيال العربية وأن نصبح درعًا في مواجهة…

33 دقيقة ago

دانا حمدان تشارك في حفل انطلاق مبادرة “مانحي الأمل”

 ⁠متابعة : المغيره بكري  - " أمدر تايمز "  انطلقت فعاليات النسخة الخامسة من حملة…

37 دقيقة ago

«بي بي سي» تعتذر عن عدم وقف بث حفل «بوب فيلان بعد هتافات «الموت للجيش الإسرائيلي»

قالت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) إنها تأسف لعدم وقف البث الحي لفرقة موسيقى…

47 دقيقة ago

إختتام منافسات الجولة الأولى من بطولة السعودية تويوتا صعود الهضبة 2925 بفيصل القباني القباني يتصدر الترتيب العام

كتبت: مروة حسن اختتمت مساء الأمس السبت منافسات الجولة الأولى من بطولة السعودية تويوتا صعود…

55 دقيقة ago

رئيس مجلس السيادة الانتقالي يشارك في المؤتمر الرابع لتمويل التنمية

إشبيلية شارك السيد رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول الركن *عبدالفتاح البرهان* اليوم في أعمال…

ساعتين ago