Categories: الأعمدة

“فرانكشتاين السودان”… موجز سيرة الوحش الذي أكل الدولة

بقلم : نزار عثمان
في الأزمات الكبرى، لا تلد الأنظمة المرتبكة رجال دولة، بل تصنع وحوشاً.
وحوشٌ لا تأتي من النخبة، ولا تدخل من بوابة برلمان، بل تنفُذ من الشقوق: من الصحراء أو الغابة، ومن القبيلة، ومن هشاشة الخوف المزمن.
من دارفور إلى القيادة العامة، ومن قاع الجنجويد إلى قمة السلطة، صعد محمد حمدان دقلو (حميدتي) كمثال ساطع على ما تفعله الأنظمة حين تختار أن تَحكم بالخوف لا بالقانون، وبالميليشيا لا بالمؤسسة.
وفي السياسة كما في الأدب، لا يُخلق الوحش من فراغ، بل من الحاجة. فرانكشتاين لم يكن شريراً حين صنع مخلوقه. كان يائساً. أراد إنقاذاً، فابتكر كابوساً. جمعَ الأشلاء، نفخ فيها الحياة، ثم عجز عن السيطرة على ما أبدع.
هكذا فعل المخلوع البشير. كان بحاجة إلى القوة حين ترنّح جيشه، إلى القمع حين عجزت أدوات نظامه عن لجم هدير الشارع، إلى ذراع باطش لا يسأل ولا يتردّد؛ حين سَعَت أياديه الباطشة، إلى الانقلاب عليه.
استلّ من الهوامش رجلاً بلا نسب سياسي، ولا جذور عقائدية، ولا ولاء مؤسسي. نفخَ فيه الرُتبَ والسلاح (وجبل عامر)، وأطلقه في قلب الدولة جنرالاً بملامح راعٍ، تقطُر من يديه دماء المعارك والولاءات المتحوّلة.
لم يكن مشروع دولة، بل مشروع نجاة: بندقية مستعجلة لحماية النظام. صنعه البشير على عجل لإرهاب الخصوم، ثم أطلق عليه اسماً ساخراً: «حمايتي». لكن لم يدر بخَلَد البشير يوماً؛ هذا السؤال: ماذا لو أصبح الوحش أقوى من خالقه؟
وبالفعل، كبر الوحش وقويَ وتنامى، بفائض القسوة التي ورثها عن النظام الذي خلقه وربّاه واعتنى به.
كبر لأن الدولة كانت تضمحل وتصغر.
قويَ لأن الجيش كان مُتعباً.
تقدّم لأن الساسة تراجعوا،
وتكلّم لأن المدنيين صمتوا.
ومثل فرانكشتاين الذي خرج من المختبر إلى الشوارع الباردة باحثاً عن اعتراف، خرج حميدتي إلى المشهد السياسي باحثاً عن شرعية. لكنّ مَن خلقوه واستخدموه؛ أنكروه. لم تقبله صالونات الضباط، ولا اطمأنت له منتديات النخب.
لم ير فيه المدنيون رمزاً للتغيير، وما رأته المؤسسة العسكرية إلا خصماً بلكنة بدوية…. فأشهر مخالبه.
وحين تفجّرت الحرب بين قواته والجيش، لم يكن ذلك انقلاباً فقط على المؤسسة، بل على الفكرة نفسها: فكرة أن القوة يمكن احتواؤها. أن الوحش يمكن حبسه في القفص. لكن حميدتي تماهى، بغروره البدوي، مع ما ردّده وحش فرانكشتاين حين قال: “العالم لا يمنحك الاعتراف إذا طلبته… بل إذا أرغمته عليه”.
انفجرت الحرب، إذن، من الخرطوم إلى دارفور، ومن مدني إلى نيالا، وتكررت الفظائع القديمة ذاتها: قصفٌ جوي، قتال شوارع، عمليات ذبح علنية تنقلها شاشات الهواتف، واغتصابات جماعية.
هل كان حميدتي انحرافاً في التجربة السودانية؟ لا، بل كان ذروتها المأساوية، والتعبير الصادم عن الفجوة بين السلطة والدولة، وبين الجغرافيا والتاريخ، وبين السودان المُمكن والسودان الذي يصعب صنعه.
إنه نتاج نظام فقدَ أدواته، فأنتج وحشه. صنعته الخرطوم نفسها، وغذّاه المركز ليتحكم في الهامش، فإذا به ينقلب على المركز ويجتاح العاصمة.
النهاية؟ لا، ليست هنا.
لأن في مدينةٍ أخرى، في خرائط أخرى، تظهر وحوشٌ جديدة تطلقها “الدولة العميقة” من مختبر الاحتياج ذاته الذي لم يُغلق: كيكل والمصباح والجاكومي وتِرِك وشيبة. وحوشُ مليشياتٍ بلهجاتٍ مختلفة، ورُتب قشيبة… لكنهم بالعين ذاتها التي لا ترى في عموم السودانيين شعباً، بل غنيمة.
في نهاية رواية فرانكشتاين، يهرب الوحش إلى الجليد، وتبقى صرخته تلاحق خالقه حتى الموت. أما في السودان، فالوحش لم يهرب. ما زال يتقدّم: يعيد رسم الجغرافيا، يمحو الدولة، ويقاتل لخلق جمهورية جديدة على صورته… جمهورية لا تشبه أحداً سواه.

ahmed

Recent Posts

الصحة العالمية: الوحدة تقتل كل ساعة 100 شخص حول العالم

يشير تقرير لجنة العلاقات الاجتماعية التابعة لمنظمة الصحة العالمية، إلى أن الوحدة تؤدي إلى موت…

38 دقيقة ago

الشرطة المصرية تتحرك بعد فيديو مثير للجدل

تقوم أجهزة الأمن المصرية حاليا بالتحقيق في مقطع فيديو انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، ويظهر…

59 دقيقة ago

رسميا الحكومة الإيرانية تقول مواقعنا النووية تضررت بشدة

أكدت المتحدثة باسم الحكومة الإيرانية فاطمة مهاجراني أن "مواقعنا النووية تضررت بشدة"، في أعقاب الضربات…

ساعة واحدة ago

الكونغرس الأمريكي يتلقى تقريرا عن تعاظم قوة مصر العسكرية وتقاربها مع بكين

كشفت مجلة "يسرائيل ديفينس" العسكرية الإسرائيلية عن تقرير تم تقديمه مؤخرا للكونغرس الأمريكي، يحذر من…

ساعة واحدة ago

المواصفات السودانية داخل أسواق (مايرنو)

سنار : ليلي علي استمرت الجهود المبذولة من الهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس فرع ولاية سنار…

ساعة واحدة ago