حسن فضل المولى يكتب .. من الكتياب إلى قناة النيل الأزرق
في العام ( ٢٠١٨ ) نشرتُ هذه
الخواطر ، و اليوم أعود إلى أهم محطاتها ، مُستذْكِراً و مُذكِّراً
و مُنَقِحَاً ، و مُضيفاً، فإليها
مع التحية ..
تفتحت عيناي على الدنيا في ( الكتياب ) ..
و ( الكتياب ) بلدة طيبة أصلها ثابت
وفرعها في السماء ..
رجالها أشداء كرماء أوفياء أنقياء ..
و نساؤها زاهدات عابدات قانتات ..
و ( الكتياب ) هي ( خلاوي القرآن ) ..
و ( مشروع الكتياب الزراعي العريق ) ،
حيث ( الجناين ) التي تسر الناظرين ،
و( الحواشات ) على مد البصر ..
و هي ( النِحاس ) الذي عندما يقْرع ، ترى الناس سُكارى و ماهم بسُكارى ،
و لكنه طغيان الاحساس و عَصْفِه
و اشتعاله ..
و هي ( العُمدة ) و ( شيوخ البلد ) ..
و ( الكتياب )هي التلاحم و التراحم ،
فأنت بين أهلها في حِرزٍ أمين ، لا
تجوع و لاتَعْرى ..
كل شيء من أشيائها له طعم ، و شذا ،
و بريق ..
الصلاة
و الأفراح
و المديح
و مواسم الحصاد
و الأعياد ..
و منذ طفولتنا كان ( العيد ) يتوهَّجُ
بين جوانحنا و يتبارك ، بين يدي
شيخنا الفكي ( عبدالغفور عبدالوهاب
القاضي ) ، رضي الله عنه و أرضاه ..
و شيخنا ( فكي عبدو ) كان من عِباد
الرحمن ، مُتَخَلِقاً بصفات عباد
الرحمن ، قائماً بالليل و النهار في
تحفيظ و تعليم القرآن ، و لقد كان
يغمرنا بمحبة لا أزال أتَقَلَّبُ في
بركاتها و فيوضاتها الروحانية ..
و فطور العيد في رحاب ديوان
( الحاج بخيت محمد بشير ) ،
سليل الدوحة ، التي نهل منها
شاعرنا ( التيجاني يوسف بشر ) ..
( أنا وحدي دنيا هوى لك فيها
كل كنزٍ من المشاعر قربى ) ..
و ( عبدالقادر الكتيابي ) و أمُّه
( أم الحسن يوسف بشير ) ..
( على كيفي
أنا في هذه الدنيا على كيفي
إلى أن تكمل الأشراط دورتها ) ..
و ( صديق مجتبى ) و أمُّه
( عائشة يوسف بشير )
( يغني المغني
و كل يهيم بليلى هواهُ
و ليلى توزع بين اللحون
و ترقص في مقلتيها القلوب ) ..
و هي أسرة ينشأ صغارها و قد
رَضِعوا الشعر و الأدب مع حليب
الأم ، و قد نشأتُ بينهم في ( حي
العمدة ) ، جوار ( خلوة الشيخ
محمد القاضي الكتيابي ) ، و أنا
أُنفق إجازاتي من ( المدرسة ) مع
عمي العالِم ( جادالله دفع الله ) ،
و أحظى برعاية الرجل الأُمَّة
( مساعد محمد الأمين ) ، عليهما
رحمة الله ..
و إن كنت لم أُدرك ( التيجاني ) ،
فقد أدركتُ والده الشيخ ( يوسف بشير ) ، رحمه الله ، و ترددتُ عليه
كثيراً ..
و الحياة في ( الكتياب )من حولنا تمضي هادئة و هادرة أحياناً ،
و نحن نُسْلِمُ أنفسنا لتيارها دون
ممانعة أو ضجر ..
نُقبِلُ بنفوس راضية و لاهية على كل
ما يصادفنا ..
نرعى الغنم
و نَحِشُّ القش
و نَحِتُّ البلح
و نعوم في الجدول
و نلعب في السِهيلَة
و نمتطي الحمير ..
و كل واحد بحماره معجب و مفتون ،
و يُسهب في التغني به و سرد محاسنه ،
و أنا وأخي ( الطاهر ) كانت تحملنا
يوماً ( حمارة ) والده المُبجل ( محمد علي الطيب ) ، و كانت بيضاء ، شديدة البياض و سريعة و وهيطة ، و نحن
راجعين من ( اللشَو ) بدأ يعدد لي
مناقبها : ( عارف آآآحسن حمارتنا دي
عندها ميزة ، لو رمَتَك بتقيف تنتظرك
لا حدي ما تقوم و تنفُض هِدومك
و تركب ) ، و ماهي دقائق حتى ألقت
بنا في غَيَابة حُفْرة ، و انطلقت غير
آبهة بنا ..
كنا لا نتَّشَهَّى ..
نأكل مما نزرع و نَعْلِف ،
و لاحقاً مما نستورد و هو قليل ..
لا نعَاف و لانسْتَنكِف و لا نَتَمَنَّع ، إذ
نلتهم ماتمتد إليه أيدينا مما هو
متاح ، ذلك أن طعامنا طعام ذلك
الزمان و تلك الأنحاء ، ولا يزال ، قبل
أن تَجِدَ مستحدثات الأصناف طريقها
إلى موائدنا ..
نأكل طبيخ القرع
و البامية و الخُدرة مطبوخة و مفروكة
و أم رِقيقة
و الشرموط أبيضه و أحمره
و الفول حافي و مصلح
و اللُقمة بما تيسر من مُلاح
و البَربور
و انتهاء بأم شِعَيفَة و أم تَكَشُو ..
و الكِسرة بي الدُقَّة ..
و تَتَسيَّد الكِسرة الساحة ، و مؤخراً
بدأ يزاحمها الرغيف ..
و ( يوماً كربتيت و يوماً عشانا ربيت
و يوماً نسف التابا و عليها نبيت ) ..
و التحلية شاي مُسَكَّر ، أي سُكَّر
بالشاي ..
و تهيمن ( الفتة ) في الحوليات
و حلقات الذكر و المديح فنَكْبِسُ
عليها بعد أن ننتشي بمدح الرسول ،
صلى الله عليه و سلم ..
( الحجاز فيهو البريدو
الله يَدْنِي لي بعيدو
بادي بي الله القصيدو
بي الكريم ربي المجيدو
حُكمو جاري علي عبيدو
جلَّ يفعل ما يريدو ) ..
و ( القُبة البِلوح قِنديلا
شوقي و حِساري الليلة ) ..
و لا يزال فؤادي يخفق بمديح
( القادرية ) و ( الختمية )
و أذكارهم الندِيَّة ..
و رفيق دربي و صديقي البروفيسور
( إسماعيل خضر ) خير من يُحدِّث
عن ( الطريقة القادرية الجعلية) ،
فهو غارق و مُتبَحِّر في عُبَابِها ..
نعم ..
و أنا أتقلب بين خلوة ( النايلاب ) ،
و ( خلوة الدُلُولاب ) ، كنت أجدني
في براحات يتفشى فيها التصوف ،
و التِمَاس النفع و الخير و البركة
عند أهل الله ، ممن يعمرون تلك
الديار و ما حولها بالذكر و ألوان القُرُبات ، و الذين كنا نرى فيهم
مصابيح الهداية و زاد الطريق ..
أذكر عندما اقترب موعد ذهابنا
إلى ( الزيداب ) للجلوس لامتحان
الانتقال إلى ( الثانوي العالي ) ،
شددنا الرحال إلى ( كدباس ) ،
حيث الرجل الصالح ( الشيخ الجعلي ) ، فنفَحَنا بالفاتحة ،
و عَزَم لكل منا على ( القلم ) الذي سيؤدي به الامتحان ، فعُدنا منه
و اليقين يملأ جوانحنا ، و لسان
حالنا ..
( يا الإمتحان قرِّب تعال
أمانة ما جاك راجل ) ..
كنا يومها في ( مدرسة الكتياب
الثانوية العامة بالحُرَّة ) ..
( الحُرة ) الحرَّة أم خيراً مِدَفِق جوَّه
و برَّة ، و قد نهض أهلها باستضافة
( الطلاب ) الذين وفدوا من الفِجاج المجاورة ، و قاسموهم ( اللُقمَة )
و الهَم ، و زاملني فيها صديقي الفنان ( حسين شندي ) ، الذي كان مُولعاً باصطياد ( القُمْرِي ) ، و يغني لنا في المناسبات ..
( عازة الفراق بي طال
و سال سيل الدمع هطال ) ..
و كنت أحد الشيالين ( الكورس ) ،
و قال لي مرة بأنني ( أطْرَق )
و لا أصلح لهذه المهمة ..
كنا ..
( لاهموم تسكن دروبنا ولا يلاقينا الخطر ) ..
نركض ورا ( اللواري ) مُسابِقين ..
و ( اللواري ) مثار اهتمامنا و سؤالنا !!
أيهما أسرع ( السفنجة ) أم ( الهوستن) ، و نِتْغاااالط ..
و ( السواقين ) كانوا في نظرنا هم
النجوم ، و منهم ( الحاج شِنقليت ) ،
و ( النور ود التوم ) و ( ود فزاري ) ،
و ( بنجوس ) ..
و عندما نقصد ( الخرتوم ) ، تحملنا
المراكب مُشَرِّقِين ، من ( الجابراب )
إلى ( المحمية ) ..
و ( الجابراب ) أهل شهامة و نجدة ..
و ( الكتياب ) و ( الجابراب ) توأمان
إذا اشتكى عضو من أحدهما تداعى
له الآخر بالسهر و الحمى ..
قد نمْكُثُ يوماً كاملاً في ( المحطة ) ،
نأكل فول ( ودرُجبة ) ، في انتظار ( القطر ) ، إما ( إكسبريس حلفا السريع ) ، أو ( بورتسودان ) ،
أو قطر ( كريمة ) الممهول ..
و ( قالوا كريمي فيها قطر
وفي ام درمان أدونا خبر
شربنا القهوة بالسكر
دي قهوة عاجْبَة تَكِف الشر ) ..
و عندما يأتي ( القطر ) مكبوساً
( نُسَطِّح ) ، رغم مافي ذلك من
مخاطِر ، و كنا نتمنى ذلك ، خاصة
لما نكون ما قاطعين ( تذاكر ) ،
و أذكر مرة و معي اثنين من الأنداد
أن ( البوليس ) قام بمحاصرتنا
و انزالنا ، و أوْدَعنا مكاناً يستخدم ( كسجن ) للحجز ، داخل ( القطر ) فجاءنا بعد كبوشية ( ج ) ، و كان
من قرية مجاورة يقوم ببيع
( البرتقال ) في ( القطر ) مابين ( المحمية ) و ( شندي ) ..
قال : ( ياود فلان و و دفلان و و دفلان مالكن الجابكن هنا شنو ؟ )
قلنا : ( كنا مسطحين علىي راس
القطر و ما قاطعين تذاكر و البوليس قبضنا ) ..
قال : ( أنا بعرف الكُمساري ده
أجمعوا لي ريال ريال ، أديها ليهو يطلعكن ) ..
و جمعنا الثلاثة ريالات ، فأخذها
و ذهب ، و ظللنا ننتظر و ننتظر
الإفراج حتى صَفّر القطر إيذاناً
بمغادرة ( شندي ) ، و بعدها جاء الكمساري فقلنا له نحن تبع
( ج ) ، فقال : ( أنا لابعرف ( ج ) ولا
عبدالظمبار خليكن قاعدين ) ،
و بعدها أدركنا أن ( ج ) قد خدعنا ،
و غادر القطر في ( شندي ) ، و تركنا
نواجه مصيرنا حتى أُطْلِق سراحنا
في ( الجيلي ) ..
و كنا عندما نُدرك ( الجيلي ) ، حيث
منها يبدأ ( الظلط ) ، و تكتحل عيوننا
برؤية ( الكهارب ) ، إذا لفنا الليل ،
ترتفع حينئذٍ أعناقُنا و تهفو قلوبُنا
لرؤية العالم الآخر ( الخرتوم عموم ) ،
أو ( البَندر ) و هو إسم ( فارسي ) ،
يُطلق على البلد الكبير أو المدينة ..
نشأتُ بين قومٍ يتمادون في الحزن
إذا حزِنوا
و يُسرِفون في الفرح إذا فرِحوا ..
مناسبات ( الأعراس ) تستغرق أياماً
و ليالي ..
و لك أن تتصور أن ( الطهور ) ، أي
( الختان ) ، يكون أشبه ( بالعرس ) ،
و لا تتوارى من ذاكرتي تلك المشاهد
و ( ود الطهور ) الذي قد يكون تجاوز
الخامسة من عمره ، تُفرد له الليلة
السابقة ( للحنة ) و قبلها زيارة
( قُبَة الشيخ نعيم ) ..
و عند الصباح يتجمهر الأهل
و الجيران في ( الحوش ) أو أقرب ( ساحة ) ، و في وسط الدائرة يؤتى
به مصحوباً بالنوبة و الطار ، و يتقدم ( الطهَّار ) في تُؤَّدَة و خُيلاء نحو ( الولد ) المُراد خِتانه ، بينما يضع أحدهم يديه تحت فكيه ، و يناديه : ( شوف الطيارة ديك ) ، أوشيئاً من
هذا القبيل ، و تتعالى الأصوات ،
( أبْشِر أبشر أبشر ) ،
و تنفجر الزغاريد في تسابقٍ بهيجٍ
محمومٍ ، و في هذه اللحظة
التاريخية و المفصلية ، و في سرعة البرق ، ينتزِع الطهَّار ( الغَلَفَة )
عن ذلك ( العضو ) ، الذي سيكون
له في المستقبل شأنٌ عظيم ، فإما
أن يرفعك و يعِزُك ، أو يُذِلُك
و يُورِدك المهالك ..
و يطربنا و يُسكرنا و يخلب ألبابنا
( غناء الحماسة ) ، على إيقاع
( الدلوكة ) ، و عينك تشوف
العجب لما ( الدلاكي )يخَنِّق
( الدلوكة ) و ( الشتامي ) يخلِف
الشَّتَم فتضج ( الدارَة ) ( بالعَرْضَة )
و ( الصَّقْرِيَّة ) و تُلهب ( السياط ) الظهور حتى تسيل منها الدماء
غزيرة ، و لا تخلو مناسبة من
( شَكْلَة ) سرعان ما تنْفَض ..
و أول من رأيت من ( الغنايين ) ،
عياناً بياناً ، و استمعت إليهم
و طربت لهم ..
( بابكر ود السافل ) ..
( يا خِلاني آمنة الفي الضمير
مازياني ما شفتوها ياخلاني ) ..
و ( سيد الجعلي ) ..
( الجمال بلاكِ انعدم اللللله ياقدم
الخِشيم بي بطال ما نضم
و المريض أبكم شافِك نَضَم ) ..
و بعد ذلك ( النعام آدم ) ..
( يا عيوني أبكي دمع الدم
الزمان بي عذابي حكم ) ..
كان يستهوينا ذلك اللون من الغناءٌ الذي جُلهُ نيران و وجع و عذاب
و لوعة ..
( آه من ناري أنا )
و ( يا النقلوك من جنبنا و اناري
السادة أوحشتنا )
و ( و اناري الما بقيت سواق
اطلع العالي وانزل الدقداق )
و ( بلالي بلالي
بلالي السادة و ناري )
و ( أزاي الليلة و براي الليلة
حرق بي نار الكماين ديلا ) ..
و سفر في بلاد الله ..
( نقفل الساحة و نشيل مفتاحة
و نمشي الباوقة اللذيذ تفاحة ) ..
و ( و قطر قام بيَّه علي الشايقيه
تمانية شهور لا خبر لا جية ) ..
و تمضي بي الأيام و الليالي ..
و يالها من أيام و ليالي سكنت
سويدَ القلب و برزخ الصدر ..
وبرغم ألوان الشقاء و العناء
و الفاقة ، التي كانت تلفني ، إلا
أني مضيت في طريقي غير آبهٍ ، تعصف بي الأعاصير و تتقاذفني
الأمواج من مرسى إلى مرسى ،
و من مثابَةٍ إلى مثابة ..
( متأجِّجُ الاحساس أحْفَل بالعظيم
و بالحقير
تمشي على قلبي الحياةُ و يزحف ُ
الكون الكبير ) ..
و البيتان ( لأبي القاسم الشابي ) ..
و إلى لقاء ..
و السلام ..