بعد عامين : الحرب الأوكرانية الروسية الدروس والعبر !
في ختام عامين على “العملية العسكرية الروسية الخاصة” – كما سمتها موسكو – في الأراضي الأوكرانية يبدو التساؤل الذي يشغل كثراً من المراقبين موصولاً بالدروس التي خلص إليها الجميع حتى الساعة مع الأخذ في عين الاعتبار الاحتمالات اللاحقة المفتوحة على كثر من السيناريوهات لجهة نهاية هذه الحرب والتبعات التي يمكن أن تترتب عليها.
عامان من المواجهات العسكرية الكبرى لم تشهد القارة الأوروبية مثلها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ومع ذلك لم تحقق روسيا النصر الساحق الماحق الذي كان الجميع يتوقعه، ولم تنهزم كييف دفعة واحدة فقد صمدت أمام الدب الروسي، أول الأمر في الأقل، فيما تبدو حظوظها الآن متأخرة، لا سيما بعد الانسحاب من مدينة “أفدييفكا” الاستراتيجية، ودعوات الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي لاستنقاذ بلاده، فيما يبدو الرئيس الأميركي جو بايدن منشغلاً في قضايا داخلية، وبقية زعماء أوروبا مختلفون حول مسألة استمرارية الحرب، وبخاصة في ظل أحاديث مخيفة حول مستقبل “الناتو”.
واضح جداً للعيان أن هناك حالة تداخل شديدة بين الأطراف الدولية، تحالفات وانقسامات، وفوضى بين هذه وتلك، بل أسئلة جوهرية تكاد لا تجد لها جواباً من نوعية: هل روسيا دولة أوروبية أم آسيوية؟ هذا السؤال يلقي بظلال على طروحات وشروحات النظرية الأوراسية التي تكلم عنها الجنرال الفرنسي شارل ديغول مؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة، والذي حلم طويلاً بوحدة جغرافية تجمع شعوب ما بين الأطلسي غرباً إلى جبال الأورال شرقاً، مما يعني أن روسيا وعلى حد تعبير رئيس وزراء الصين العتيد شو إن لاي، دولة أوروبية أكثر منها آسيوية قولاً وفعلاً.
في هذه القراءة نحاول التوقف أمام بعض الدروس التي رشحت من خلال هذه العملية العسكرية المثيرة في نوعيتها وغير المسبوقة في القارة الأوروبية منذ عقود طوال… ماذا عن تلك الدروس؟
ـ خير وسيلة للدفاع الهجوم
لعل الدرس الأول موصول في المقابلة بين الدفاع والهجوم، وأيهما يجب أن تكون له الأولوية.
ليس سراً أن القرار الروسي بعملية مسلحة في الأراضي الأوكرانية، لم ينشأ من فراغ، بل كانت هناك مقدمات رأى فيها سيد الكرملين أن هناك تهديدات شبه مؤكدة من الجانب الأوكراني قد تؤثر في أمن واستقرار روسيا.
لم يكن “الناتو” صادقاً في وعوده خلال تسعينيات القرن الماضي، حين قطع عهداً بألا يتقدم شرقاً لجهة الحدود الغربية لروسيا، فقد شاغبت أميركا رأس حربته كثراً من الدول المتاخمة لروسيا، والبعض منها كان واقعاً بحكم القوة في فلك الاتحاد السوفياتي سابقاً.
بدت أوكرانيا وكأنها تمثل مخلب قط لـ”الناتو”، قادر على أن يزعج روسيا، اليوم، ويشاغبها غداً، ثم يتطور المشهد إلى عداء صريح غير مريح لها بعد الغد، وذلك حال انضمام كييف إلى حلف “الناتو”، مما تفهمه جيداً القيصر بوتين، وعليه فقد كان خياره الاستراتيجي “الهجوم خير وسيلة للدفاع”.
يشير الجنرال جون راندال بالارد مدير كليات أبورتيونتي العسكرية في الولايات المتحدة الأميركية إلى أن أحد أهم وأخطر التحولات في الحرب، هي الانتقال من الدفاع إلى الهجوم، وقد بدأت روسيا الحرب بهجوم قوي، لكن القوات الأوكرانية صدتها داخل حدودها، بأسلحة غربية قادرة وبإرادة وطنية ظاهرة.
يتمثل أحد مبادئ الحرب الروسية تقليدياً في الهجوم الفوري والمتزامن في العمق، وكان هذا هو المفهوم الذي استخدمه الرئيس بوتين في العمليات الأولى في أوكرانيا.
حقق الروس نجاحات سريعة، لكنهم ما لبثوا أن تعثروا في طريقهم نحو كييف، لكنهم تمكنوا من استخلاص غالب مقاطعة الدونباس، وهو ما رتب على الأوكرانيين خوض معركة شرسة، دفاعية فاعلة حيناً، وهجومية واهنة غالباً، مع تحقيق نجاحات متفرقة في البحر والبر، وشن هجمات مباغتة بطائرات مسيرة في الداخل الروسي. ومع ذلك فإن طول أمد الحرب، وبدء تراخي المؤازرة الغربية، بالمال والسلاح، ومشكلات بنيوية تعانيها الإدارة المدنية والعسكرية في أوكرانيا… كل ذلك سحب من أيدي كييف عنصر المبادرة، وصعب أمامها إمكانية تحقيق نصر على الجيش الروسي، يفرض على موسكو القبول باتفاقية سلام دائمة.
فهل تقبل أوكرانيا بهزيمة سريعة مفضلة ذلك على حرب طويلة مهلكة؟
على العكس من كافة الأصوات التي قالت إن روسيا لن يقدر لها البقاء طويلاً في ساحات الحرب، لا سيما في ظل العقوبات الاقتصادية الموقعة عليها، فإننا نجد تحسناً نوعياً في أحوال الاقتصاد الروسي، في حين يتراجع التمويل الأميركي للحرب الأوكرانية، وقد ينقطع تماماً حال فوز دونالد ترمب برئاسة أميركا في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
هل كانت فكرة الهجوم في ذهن بوتين واضحة، قبل إقدامه على عملياته العسكرية، والتي يرفض أن يسميها حرباً حتى الساعة؟
غالب الظن أنه كان يريد تغيير الأوضاع في علاقة أوكرانيا مع “الناتو” بأكثر من احتلاله للبلد الجار، وهنا يبدو أن القيصر له بالفعل دالة على ما كتبه المنظر العسكري الألماني الشهير كارل فون كلاوزفيتز (1831-1810)، من أنه “لا أحد يبدأ حرباً من دون أن يدرك بوضوح في ذهنه ما ينوي أن يحققه من خلال تلك الحرب، وكيف ينوي إدارتها”.
السؤال من هذا الدرس: هل بوتين لديه رؤية ما لإنهاء الحرب أم أنه سيراهن على قناعة زيلينسكي بقبول هزيمة في الحال، كحل أفضل من نهاية دولته عبر الحرب الطويلة في الاستقبال؟
2 ـ إن أردت السلم فاستعد للحرب
من الدروس التي أفرزتها المعارك الروسية – الأوكرانية، وبعد عامين من الكر والفر، الانتصارات والانكسارات المتبادلة، القطع بصحة العبارة القائلة “إن أردت السلم فاستعد للحرب”.
منذ توليه الرئاسة الروسية عام 2000، لم ينفك الرئيس فلاديمير بوتين عن التحدث عن أكبر كارثة جرت بها المقادير في القرن الـ20، وكانت في ظنه ويقينه، تفخيخ الاتحاد السوفياتي أول الأمر، ثم تفكيكه تاليا، عبر سياسات “البريسترويكا” و”الغلاسنوست” لصاحبهما ميخائيل غورباتشوف.
وقر في ذهن بوتين أن الدولة الضعيفة ستكون بيدقاً على رقعة الشطرنج ليس أكثر، ومن هذا المنطلق كان اهتمامه المؤكد بإعادة روسيا القوية الفتية، القادرة على المواجهة والمجابهة، على مختلف الصعد، العسكرية والاقتصادية.
هل أدرك بوتين أن الصراع المسلح مع الدوائر الغربية، قادم لا محالة، بالوكالة أول الأمر، كما الحال مع أوكرانيا اليوم، وبالمباشرة تالياً، وهو ما تعبر عنه الآن الأصوات الأطلسية التي تنادي بضرورة الاستعداد لمواجهة مسلحة مع روسيا ستفرض نفسها عما قريب؟
من المؤكد أن ذلك ما حدث، وتمثل في إعادة الاهتمام بالترسانة العسكرية الروسية، التقليدية والنووية على السواء.
أدرك بوتين أن صراعه سيطول، وفي دولة مثل روسيا الواسعة والشاسعة، كان لا بد من صحوة في عالم الدبابات والمدرعات، المروحيات وناقلات الجنود، الصواريخ المحمولة كتفاً، والصواريخ القصيرة وطويلة المدى، ومختلف أنواع الأسلحة التقليدية.
على جانب آخر سجلت العسكرية الروسية حالة تفوق غير مسبوقة في عالم الصواريخ فائقة التطور، والفرط صوتية، وقد استخدم بعضها بالفعل في المعارك مع الأوكرانيين، وربما من دون امتلاك بوتين لمثل هذه النوعية من الأسلحة، لتمكنت الدوائر الغربية من تحقيق سبق كبير على الروس، لكن استراتيجية توازن الرعب الروسية، ردعت الحواضن الغربية وفي مقدمها واشنطن.
على جانب موازٍ، اهتم بوتين بأوضاع بلاده الاقتصادية، وبالشراكات مع القوى الدولية، وفي مقدمها الصين، تلك التي كانت يوماً مجالاً للنظر بفوقية قاتلة، فقد تحدث خروشوف يوماً بالقول “إن الصينيين سيعانون المجاعة لو تخلينا عنهم اقتصادياً”.
اليوم، تساعد الشراكة بين بكين وموسكو، اقتصادياً في الأقل إن لم يكن عسكرياً، على التخفيف من ضغوط وعقوبات أوروبا وأميركا التي تكاد تضحى غير فاعلة.
الاستعداد الروسي للحرب، شمل كذلك وخلال عقدين، توسيع مساحة التواصل والتفاعل مع بقية بقاع وأصقاع العالم، فقد تعلم الروس الدروس البراغماتية من الغرب، وتخلوا عن التنظيرات الأيديولوجية، مما فتح مساقات واسعة لموسكو في قارات بعينها، كما الحال مع أفريقيا، وأميركا اللاتينية، وكذا مع الجمهوريات السوفياتية السابقة التي تعد اليوم درعاً تصد وترد عن موسكو عداءات وتوجهات اليمين الغربي المتشدد.
ولعل نقطة مهمة من نقاط التحضير للحرب، التي أولاها بوتين حرصاً خاصاً، تماسك النسيج الوطني الداخلي، فعلى رغم الاتهامات الموجهة إليه بالشمولية والديكتاتورية، من جانب الأوروبيين والأميركيين، فإن هناك إجماعاً وطنياً من حوله، فقد بات الجميع يدرك أن السيناريو الذي استخدم لتفكيك الاتحاد السوفياتي، هو عينه الذي يتم التحضير له، وإعادة استنساخه في روسيا المعاصرة.
3 ـ الوقوع في سوء التقدير والخروج منه
أحد أفضل العقول الأميركية الرصينة، التي عرفت بكتاباتها الشجاعة، وعدم الخوف من جماعات الضغط في الداخل الأميركي، يأتي البروفيسور ستيفن والت، عالم السياسة، والمتخصص في العلاقات الدولية بجامعة هارفرد.
ضمن سياق تحليلاته للدروس المستفادة من الحرب الروسية – الأوكرانية، يتوقف عند فكرة الأخطاء التي يرتكبها القادة، وتقود من ورائهم شعوباً ودولاً عبر محرقات الحروب.
يقطع والت بأن بوتين أخطأ حين اعتبر أول الأمر أن أوكرانيا تعجز عن إطلاق مقاومة جدية، وأن محاولتها محكومة بالفشل… هل هذه كل أخطائه؟
حكماً لا، فهناك أخطاء استراتيجية أخرى، مثل الخطأ في تقييم القوة العسكرية الروسية، فربما فات القيصر أن الأوروبيين سيعتبرون أوكرانيا حائط الصد والردع الأخير لهم، الذي يمنع بوتين من المضي قدماً في مغامراته، ولهذا كان من المؤكد أن مصانع السلاح الأوروبية، ستنفتح على مصراعيها وتمضي مع الخبراء والمدربين العسكريين، أول الأمر في الأقل إلى ساحات كييف لملاقاة جحافل القيصر.
أما الدعم الأميركي، فقد كان ولا بد أن يضعه بوتين في حساباته، لا سيما أنه في البدايات كانت هناك وحدة توجه من الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء، تقضي بضرورة مواجهة بوتين، وحتى إن لم يهزم، فيستدرج في متاهات المستنقع الأوكراني، أي كأن التاريخ يعيد نفسه مرة جديدة، كما حدث في ثمانينيات القرن الماضي في المستنقع الأفغاني.
ضمن الحسابات الخاطئة التي ارتكبها بوتين، الاعتقاد أن أوروبا ستركع سريعاً حين يقوم بإغلاق أنابيب الغاز التي تورد الطاقة لهم، ونسي أو تناسى أن العالم تغير منذ نهايات الحرب العالمية الثانية، وما بعدها، وأن هناك رهانات على مصادر طاقة أخرى مساعدة، ومواقع ومواضع بديلة، وأن الأوروبيين بما لديهم من كفاءات ومرجعيات، لم يغفلوا في تقديراتهم الاستشرافية وضع احتمال قطع أنابيب الغاز عنهم.
الأخطاء التي ينظر إليها ستيفن والت، لا تشمل الروس وبوتين فقط، بل تصل إلى القادة الغربيين، وخصوصاً الأوروبيين أول الأمر، إذ خيل إليهم أن مغامرة بوتين قد لا تتجاوز الأيام أو الأسابيع، وفي أسوأ تقدير أشهر معدودات.
لم يكن في حسبانهم أن المعركة ستطول، وأنها قد تمتد لسنوات، لا سيما بعدما قضم بوتين أجزاء كبيرة من أوكرانيا عنوة، فيما تم استرداد بعض الأقاليم إلى السيادة الروسية طوعاً، مثل دونيتسك ولوغانسك وزابورجيا وخيرسون.
أخطأ الأوروبيون والأميركيون في تقدير الفاعلية التي يمكن للعقوبات الاقتصادية أن تمثلها على الروس، وفاتهم أن بوتين جعل من الجمهوريات المحيطة به جغرافياً، والمرتبطة أيديولوجياً بالاتحاد السوفياتي قديماً، ممراً لجميع السلع والبضائع التي تحتاج إليها السوق الروسية، ومع ارتفاع أسعار النفط في أوقات بعينها، وزيادة الإقبال على شراء الأسلحة الروسية من جانب بعض الدول، عطفاً على سلاح الحبوب الذي أجادت موسكو تفعيله، اشتد عود الاقتصاد الروسي من جديد.
أخطأ القادة الغربيون حين استهانوا بعمق المعارضة الروسية للجهود الغربية الداعية إلى استمالة أوكرانيا وجرها عنوةً أو طوعاً، ترهيباً وترغيباً إلى محور “الناتو”.
هل كانت أخطاء القادة الغربيين، عطفاً على أخطاء بوتين كقائد منفرد لروسيا، فرصة ليعم ضباب الحرب، ويشوش الرؤى قبل بدء القتال، وربما لم تستفق بقية الأطراف حتى الساعة؟
4 ـ النووي للتهديد وليس للاستخدام
بعد عامين من المعارك المتواصلة بين روسيا وأوكرانيا، بدا وكأن هناك علامة استفهام مثيرة وخطرة مطروحة على مائدة النقاش وتدور حول أسلحة الدمار الشامل، لا سيما النووية منها.
التساؤل يقول: هل كان لموسكو أن تفعل ما فعلته بكييف لو كانت الأخيرة لا تزال تمتلك سلاحاً نووياً؟
الجواب يقودنا إلى قصة أوكرانيا، ثاني أقوى جمهورية في الاتحاد السوفياتي السابق، والتي صوتت في الأول من ديسمبر (كانون الأول) 1991 على الخروج من الاتحاد والحصول على الاستقلال، لكن على رغم الانفصال، احتفظت كييف بنحو ثلث ترسانة الأسلحة النووية السوفياتية على أراضيها، وكانت ثالث أكبر ترسانة في العالم في ذلك الوقت، إضافة إلى معدات مهمة لتصميمها وإنتاجها.
بقي على الأراضي الأوكرانية نحو 130 صاروخ باليستي عابر للقارات من نوع “يو آر-100 أن”، بستة رؤوس حربية، و46 صاروخ باليستي عابر للقارات من نوع “آر تي-23” مع 10 رؤوس حربية، إضافة إلى 33 قاذفة ثقيلة، وبالمجموع بقي نحو 1700 رأس حربي على الأراضي الأوكرانية.
غير أنه وفي عام 1994، وبإغراء أميركي زهيد، لا يتجاوز قرضاً قيمته 400 مليون دولار، وافقت أوكرانيا على تدمير ترسانتها والانضمام إلى معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية.
قلة قليلة تعد على أصابع العالم الواحد حول العالم، هي التي تنبهت لتبعات هذا الفعل، وفي مقدمها البروفيسور الأميركي جون ميرشايمر المفكر الشهير والمتخصص في مجال العلوم السياسية في جامعة شيكاغو.
توقع ميرشايمر أن بقاء أوكرانيا دون أي سلاح رادع نووي يعني تعرضها للعدوان من الجانب الروسي. لم يحظ هذا الرأي بشعبية في ذلك الوقت، ولم يؤيده سوى الأقلية.
في 5 ديسمبر 1994، وقع زعماء كل من أوكرانيا، وروسيا الاتحادية، وبريطانيا، والولايات المتحدة مذكرة بودابست، لتزويد أوكرانيا بضمانات أمنية فيما يتعلق بانضمامها إلى معاهدة الحد من انتشار السلاح النووي كدولة غير حائزة الأسلحة النووية.
هل ضمن هؤلاء أمن أوكرانيا بالفعل؟
هنا تبين تجربة الـ24 من فبراير (شباط) 2022 (تاريخ الهجوم الروسي على أوكرانيا)، أن الاتفاقية لم تكن تساوي قيمة الحبر المكتوبة به، فروسيا مزقتها تمزيقاً بقواتها المسلحة التي عبرت الحدود، وحطمت الحواجز، من غير وازع ولا رادع، فيما بريطانيا والولايات المتحدة، وعلى رغم أنهما زودا ولا يزالان كييف بكثر من الأسلحة التقليدية، وبعضها متقدم وفاعل، ويمكن القطع بأن أنواع من أسلحة ترسانة “الناتو” المتقدمة قد وصلت للأوكرانيين، إلا أنه ما من أحد وفر لأوكرانيا غطاءً نووياً، على العكس مما لو كانت قد احتفظت بهذا النوع من السلاح الفتاك.
السؤال مرة جديدة: هل كان لبوتين أن يقدم على مغامرته هذه لو كان لدى الأوكرانيين درع نووية؟
يميل غالبية المحللين إلى أن بوتين لم يكن ليفعل ذلك، وهو يدرك أن هزيمة دولة نووية أمر محال.
على الجانب الروسي، لم ينفك بوتين يلمح إلى إمكانية استخدام بلاده لكل الطرق للدفاع عن أمنها القومي حال تهدده أو تعرضه لمخاوف السقوط، مما يعني اللجوء إلى استخدام الأسلحة النووية.
أما نائب رئيس مجلس الأمن القومي، الرئيس السابق ديمتري ميدفيديف، فلا ينفك يعطي بالتصريح لا بالتلميح انطباعاً بأن السلاح النووي الروسي على مقربة من يد القوات الروسية على الأرض واستخدامه أمر يسير.
لكن، ومع ذلك فإن القيادة الروسية تدرك تمام الإدراك أن السلاح النووي للتهديد أكثر منه للاستخدام، ذلك لأن تفعيله سيستدعي رداً من القوى الدولية المناهضة له بصورة أو بأخرى.
هنا تبدو خلاصة هذا الدرس أن السلاح النووي غالب الظن لا يزال أحد أسلحة الردع، بأكثر من كونه سلاحاً للاستخدام في أي معارك قائمة أو قادمة.
5 ـ الخروج المكلف عن النظام العالمي
أحد أهم الدروس التي يمكن استنتاجها اليوم وبعد عامين من الشد والجذب، ومن الأحاديث الدائرة والحائرة عن فكرة نهاية النظام العالمي الذي بدأ عقب سقوط الاتحاد السوفياتي، هو أن هناك بالفعل نظاماً بعينه لا يزال قائماً، ولو بصورة نسبية، وإن اختلف عن زمن القطبية الثنائية التي سادت طوال أربعة عقود تقريباً، أي زمن الحرب الباردة.
جاءت حرب أوكرانيا لتذكر العالم بأن هناك نظاماً عالمياً تتوحد فيه الصفوف، لمجابهة الأعمال العدوانية المباشرة.
هل أغفل بوتين هذه الجزئية وهو ما كلفه وما يمكن أن يكلفه كثراً من الأثمان الغالية بشراً وحجراً؟
المؤكد أن القيصر الروسي، ربما خيل إليه في لحظة من سخونة الرؤوس أن أحداً لن يسارع إلى إنقاذ ودعم الأوكرانيين، وأنها على هذا الأساس ستسقط سريعاً، وأن الأمر لن يعدو أن يكون نزهة عسكرية في بلاد جارة، ترتبط مع روسيا بروابط دم تاريخية ومصاهرات آنية، وعقيدة دينية واحدة.
غالب الظن أن بوتين امتلكته قناعة مفادها أن حلف “الناتو” لن يقوم بردود فعل قاسية وبقوة غير مسبوقة.
اكتشفت روسيا بعد عامين من الحرب الضروس أنها لا تخوض حرباً ومواجهة مع خصم أكثر ضعفاً، بل إنها في مواجهة بلد مدعوم من تحالف يفوق ناتجه المحلي الإجمالي الناتج الروسي بـ20 مرة تقريباً.
ولعله من نافلة القول إن الروس وإن امتلكوا سلاحاً نووياً، فإن “الناتو” يمتلك في المقابل قوة وازنة كفيلة بإحداث توازن ردع مخيف يردع من يفكر في اللجوء لهذه القوة.
أكثر من ذلك نسي بوتين وقادته معه البحث في البدائل الطاقوية التي يمكن لأوروبا أن تلجأ إليها وحتى لا تضحى رهينة للسيد بوتين مرة وإلى الأبد.
جاءت عملية روسيا في أوكرانيا لتعزز من ميل التيار الليبرالي الديمقراطي حول العالم، لإظهار حالة من الاتحاد والوحدة في أصعب الظروف، أي حين يطفو على السطح توجه شمولي ينزع إلى الغزو كأداة من أدوات السياسية المعاصرة في حال الأزمات.
أدت عملية أوكرانيا، في السياق ذاته إلى تغيير كثر من ثوابت الحياد السياسية التي دامت طويلاً، لا سيما في دول أوروبا، فعلى سبيل المثال قررت السويد وفنلندا التخلي عن حيادهما القائم منذ عقود، وفي حال السويد منذ قرون، وبدأتا مساعيهما للانتساب إلى حلف “الناتو”.
بدت الرسالة الموجهة إلى الدول التي تفكر في استخدام القوة المجردة، تتمحور حول القول إن الأعمال العدوانية المباشرة تدفع الدول القوية الأخرى على الأرجح إلى توحيد صفوفها ضدهم، في هذه الحالة، قد يصبح المعتدي أقل أماناً مما كان عليه حتى لو أطلق عملية عسكرية ناجحة.
وفي الخلاصة أنه من المؤكد للباحث في أزمة الحرب الروسية – الأوكرانية أن يجد مساحات واسعة يستمد منها أفكاراً مضافة لما تقدم، فيها كثر من الدروس، فعلى سبيل المثال تحتاج قصة المقاربة بين الأسلحة التقليدية التي استخدمت في هذه المعركة، في مواجهة الأسلحة العصرانية، لا سيما أسلحة الذكاء الاصطناعي إلى تعميق البحث واستجلاء الدروس.
هناك كذلك الحديث عن هلامية المؤسسات الدولية الأممية، وفي مقدمها الأمم المتحدة، التي بدت عاجزة عن إنهاء هذه الأزمة الإنسانية، وغالب الظن أن الزمن تجاوزها.
هناك من الدروس الواجب التوقف أمامها، ذاك الموصول بالأزمة الأخلاقية بين القوة والحق، ومن لديه الغلبة، وهل النصر لقوة الحق، أم لحق القوة.
ومن الآن إلى أن يتم وقف إطلاق النار، والتوصل إلى تهدئة، ثم اتفاقية سلام أو عدم اعتداء في الأقل سيظل المجال السياسي والعسكري والاقتصادي مفتوحاً لاستنتاج دروس عديدة جديدة، مؤلمة حقاً، لكنها ربما تكون مفيدة للأجيال القادمة حال نزعوا إلى استخدام الردع العسكري، عوضاً عن القوة الأدبية والأخلاقية.
اندبدندنت عربية