على هامش حديث حميدتي مساء الأربعاء التاسع من أكتوبر : بقلم : ماهر ابوالجوخ
استمعت لكلمة قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي” التي تم بثها بعد ترويج وترقب لها لعدة ساعات مساء يوم أمس الأربعاء 9 أكتوبر 2024م واستمر الخطاب الذي بثته منصات الدعم السريع في مختلف الوسائط لحوالي 39 دقيقة و49 ثانية بما يقل بـ11 ثانية عن إكمال الاربعين دقيقة.
بعد الاستماع لهذا الخطاب فمن الضروري التعليق على هامشه وما ورد فيه بشكل أولي إنطلاقاً من الأتي :-
* توقعت أن يتناول الخطاب بشكل أساسي الإجراءات الخاصة بجلسة مجلس حقوق الإنسان التي قررت بموافقة (23) دولة التمديد لبعثة تقصي الحقائق في الحرب مع إمكانية الإشارة لعدد أخر من القضايا لكن المفاجأة غياب هذه القضية والتركيز على قضايا أخرى.
* أثار الخطاب ردود فعل متباينة إذ أشار البعض إلى أنه يعتبر الأقل ترتيباً من بين الخطابات التي ألقاها حميدتي منذ بداية الحرب في أبريل 2023م، ومضى آخرين لاعتباره خطاب إعلان هزيمته العسكرية والسياسية و استندوا لاعترافه بالهزيمة في جبل موية الاستراتيجية التي كانت محل جدل خلال الأسبوع الماضي بين تأكيد ونفي للطرفين.
* يعتبر خطاب الأمس الأربعاء 9 أكتوبر مشابهاً في اللغة وجوانب من المحتوى بالخطاب المبثوث لحميدتي في خطاب تخريج دفعة جديدة من قواته في الثاني من نوفمبر 2023م، وتلاحظ بعدها أن الخطابات التي درج على تقديمها بداية من الأول من يناير 2024م كانت خطابات مكتوبة وكان آخرها خطاب الموجه للجمعية العامة للأمم المتحدة في 26 سبتمبر الماضي، وفي هذا الخطاب الأخير عاد لتوجيه خطابه بشكل تلقائي غير مكتوب بلغة شعبية أسوة بخطاب 2 نوفمبر 2023م.
* جنحت تحليلات عديدة لهذا الخطاب منذ مساء أمس وركزت على افتراض واحد من خلال التعاطي مع المعطي الخاص بأنه إقرار واعتراف بالهزيمة و التراجع والانحسار وهو في تقديري قد يكون معطي وارد من وقائع على الأرض ومضمون ورد في ثنايا “بعض” جزئيات الخطاب الإعتراف بالهزيمة في جبل موية، لكن أعتقد أن الركون لهذا التحليل فقط مع إغفال تحليل آخر وضح أيضاً في ثنايا ومضمون الخطاب بإمكانية خوض جولة ثانية في الحرب هو إغفال في أحيان كان متعمداً بـ(الجنوح للتحليل حسب الرغبة والاهواء) وفي أحيان أخرى نتيجة محتوى الخطاب نفسه، ولكل ذلك أعتقد أن التركيز على التحليل الأول وإغفال وإسقاط فرضيات أخرى سيكون لديه ما بعده من ردود فعل خاصة في محيط مناصري الجيش والرأي العام المساند له في حال التصعيد الحربي بوتيرة أعنف بغض النظر عن حجم النطاق ومساحته.
* تضمن الخطاب رسائل متعددة متشابكة لقطاعات في الرأي العام بالداخل والمناصرين وأخر مصمم للخارج كان أبرزها الموجه لكل من مصر والولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص وهو ما سنقوم بمحاولة استعراضه في ثنايا هذه القراءة السريعة لهذا الخطاب.
* اختلف خطاب 9 أكتوبر عن ما سبقه من خطابات لحميدتي في الإقرار بخسارة المعارك العسكرية في جبل موية وهذا اعتراف نادر وتأكيده على قدرتهم على إستعادة السيطرة عليه مجدداً، لكن من المهم ربط الحديث في سياقه المترابط في الخطاب فنجده في جزئيات يشير لتعرض قواتهم لهجوم جوي من الطائرات الحربية المصرية الاشارة لوجود مجموعات أجنبية تقاتل بجوار الجيش السوداني بتسمية عدد من الدول والجهات وعند تجميع هذه الجزئيات المتناثرة يبدو وكأنه يشير إلي أن هذه الهزيمة هي نتاج وجود ومشاركة أطراف أجنبية ضد قواتهم، ولذلك أعتقد أن الإشارة الواردة في حديثه بالاشادة بصمود قواته وثقته فيهم وقوله أنهم هزموا بسبب وجود جهات خارجية في الحرب ضدهم قد يدعم هذا التفسير.
* على عكس الخطابات السابقة لم يعطى هذا الخطاب أي مؤشرات للسلام وعوضاً عن ذلك قدم خطاباً حربياً كامل الدسم والتصعيد والإعلان عن الانتقال للخطة (ب) ومن المؤكد أن هذه الخطة تعني بشكل مباشر مزيد من التصعيد والمواجهات الحربية، ولذلك لا أجد نفسي متفقاً مع التحليل الذي اعتبر أن الخطاب يمثل إقرار بالهزيمة الميدانية، وهو أمر صحيح في ما يتصل بجبل موية ولكن مضمون الخطاب يشير إلى أن الافتراض والتحليل الأساسي يشير لتخطيط الدعم السريع لعمل ما –بغض النظر عن مقدار الاتفاق والاختلاف حول قدرته أو شمول أو محدودية هذه الخطوة التصعيدية لمن يعتقدون أن مقدرات الدعم السريع تراجعت- يمكن التكهن بأنه سيكون مختلفاً عما سبقه وحتى بافتراض سيناريو “التأكل” فيمكن جعلها عملية انتحارية تحقق أهداف معنوية وسياسية وربما عسكرية.
لذلك فإن افتراض إنتهاء المعركة بشكل كامل وجسمها هو توقع مرتفع للغاية وقد تكون نتيجته في حال حدوث أمر غير متوقع على المستوى العسكري في جبهة عسكرية ممتدة فعلياً في ما يقارب 16 ولاية أمر تعرض الرأي العام المساند للجيش لنكسة أشبه بصدمة إستيلاء الدعم السريع على مدني.
* جنح الخطاب لاستخدام خطاب جهوي مباشر تجاه نهر النيل والشمالية وقبلي تجاه “الشوايقة” وتلاحظ أنه يستخدم هذه اللغة للمرة الأولى بهذا الوضوح بالتوازي للإشارات الأخرى التي أشارت لحدوث الاستقرار في دارفور وأبيي مناطق صراع أخرى بعد سيطرة الدعم السريع على هذه المناطق وخروج المؤتمر الوطني والجيش منها وعند ربط نقده الشديد لحركتي مني أركو مناوي جبريل أبراهيم والمجموعات المتحالفة معهما فالرسالة واضحة ومباشرة “انهم يستمرون في السلطة بسبب الخلافات التي يشعلونها ضد بعضاً البعض وعندما اختفوا اختفت المشاكل والأزمات ولكن للأسف فإن بعض ابناء الاقليم يخدمون هذا المخطط”، وهذه اشارة يود أن يخلق قطيعة بين مناوي/جبريل/طمبور .. الخ من المجموعات المناهضة للدعم السريع الذي يقدم نفسه كجزء حريص على استقرار دارفور وحملهم مسؤولية اندلاع المواجهات في الفاشر مفارقتهم الحياد واختيار مناوي وبقية قادة المجموعات الانحياز.
يجب عدم تغييب الشق الخاص الناتج عن القصف الجوي لمناطق الواقعة تحت سيطرة الدعم السريع عموماً ومناطق الحواضن الاجتماعية للدعم السريع فهذه قضية محورية ومؤثرة عند المجموعات المساندة الدعم السريع ولذلك فإنها باتت قضية مركزية في التعبئة وضرورته أنه يضمن إستمرار حالة الالتفاف والمساندة والتعاطي مع الحرب بوصفها “البقاء أو الفناء”.
* اختلف مع التحليل الذي يشير إلي أن إستخدمه التصنيف القبلي لعلي كرتي ومجموعته بإعتبارهم “شوايقة” هو لخلق مزيد من الخلخلة وسط المجموعات المتناحرة داخل المؤتمر الوطني المحلول الذي يبدو حتى اللحظة متفق بكل أجنحته المتصارعة على أهمية حسم الصراع عسكرياً لصالح الجيش وسياسياً لصالح المؤتمر الوطني المحلول ومن ثم يمكن التفرغ للنزاع الداخلي حول السلطة والحزب والقيادة. هذا الأمر يجعل التصنيف المستخدم نفسه جزء من عملية التعبئة والتحشيد للحرب أكثر من كونه تكتيك إضعاف وإنهاك وتفتيت الطرف الأخر.
طرح حميدتي لخطاب ب يحمل مضامين جهوية ومناطقية وقبلية مع وضد بعكس خطاباته السابقة التي ظل يحرص فيها على تقديم نفسه بالمظهر القومي يثير مخاوف مستقبلية حول مدى إمكانية تمدد هذا الخطاب وانتقاله ليصبح هو السائد على المستوى الإستراتيجي وصولاً لمرحلة تبني رؤى التقسيم والانفصال جراء الانغماس في تكتيكات “الحفاظ على التماسك الداخلى” والابتعاد رويداً رويداً عن المعطى الاستراتيجي القائم على وحدة السودان، مع وجود تخوف ثان يرتبط بمدى تأثر قواعد وقوات الدعم السريع بمضمون لغة خطاب قائدهم بحيث يترتب عليها ترسيخ للاستهداف على أساس جهوي وقبلي بشكل مباشر بما يشبه إعادة إنتاج حالة القطيعة التي خلقت بين المجموعات العربية وغير العربية إبان صراع دارفور وهو أمر في حال حدوثه ومع وجود الجذور التاريخية للصراع “البحر” و”الغرب” فهو فعلياً وصفة كفيلة بتحويل الحرب الراهنة لأهلية تكون في موجتها الثانية أكثر عنفاً وفظاعة من موجتها الأولى.
على المستوى السياسي فإن هذه الجزئية تعد توجهاً مخيفاً للقوى السياسية المدنية والديمقراطية ومناهضي الحرب لعدة عوامل أبرزها معرفتها المسبقة أن المستفيد من المشروع التقسيمي هو الحزب المحلول وحركتها الإسلامية الداعمة لتصور دولة بحر ونهر قابلة للنقصان والاكتفاء بدولة نهر فقط إذا ما اقتضت الضرورة ذلك !! وهذا السيناريو والتحول قد يعيد ذكرى وقائع انتقال الحركة الشعبية لتحرير السودان المتدرج من وحدة السودان الجديد إنتهاء بمحطة الانفصال وتأسيس سودانيين اثنين.
لكل ذلك فإن مشروع التقسيم وفق هذه المعطيات وقبول الطرفين المتحاربين بفكرته يعني تمهيد الطريق صوب “نيفاشا جديدة تتولى مراسم تنزيل هذا التقسيم في الواقع” ولذلك فإن القوى المؤمنة بوحدة ما تبقي من السودان والمناهضة لمخططات التقسيم تظل قلقة من إنتاج نيفاشا جديدة يفضي لمشروع تقسيم مستحدث وكما قيل “من جرب لدغة الثعبان يخاف جر الحبل”!!!
* لم تكن جزئية اللغة الجهوية والقبلية المباشرة المستخدمة في الخطاب ومخاطر تمثيلها الانعطافة يمكن أن تؤسس لفكرة “التقسيم للسودان” للقوى المدنية الديمقراطية المناهضة للحرب، وإنما وجود عوامل أخرى إغفال الاشارة المباشرة للحكم المدني الديمقراطي ونقد الإتفاق الإطاري واعتباره سبباً للحرب وهو ما جعل هذه الجزئيات الواردة في الخطاب وكأنها متطابقة حذو النعل بالنعل مع ما ظل الحزب المحلول وعناصره تردده على الدوام وتسوق له حتى قبل إشتعال الحرب، لكن من الضروري النظر للمحتوى الكلي للخطاب والذي يحمل كرتي وحزبه مسؤولية إشعال الحرب كاملة بالعديد من الإشارات أبرزها القول أنهم دربوا عناصرهم منذ العام 2019م خارج السودان على حرب المدن، وبالتالي فإن الاكتفاء بنقد الإطاري وفصلها من بقة سياق الخطاب ومحتوياته لتأكيد فرضية إندلاع الحرب بسبب الإطاري هو اغفال حقيقي لجوانب أشارت بجلاء للاتهام الموجه لكرتي ومجموعته بالتخطيط لإشعال الحرب.
الشق المرتبط بتنامي الخطاب الجهوي وتداعياته المستقبلية التي تمهد الطريق للتقسيم مقابل تراجع شعارات مدنية الدولة والحكم الديمقراطي وبناء الجيش القومي الواحد يعد عامل ضغط كبير على القوى السياسية والمدنية و المناهضة للحرب بغرض إدراك ما يمكن إدراكه بالتقارب أكثر مع الدعم السريع وفي الحد الأدنى تقليل الانتقادات المتزايدة تجاه بالاستناد لما يمكن أن يحدث مستقبلاً من تطورات، مع تعزيز المشتركات بخوض المعركة المصيرية ضد النظام السابق الذي يجاهر بالعداء الصريح العلني ضد هذه القوى المدنية الديمقراطية.
هذه المعطيات ستمثل في الفترة القادمة عناصر ضغط مؤثرة على مواقف القوى المدنية الديمقراطية، مع استمرار مخاوف تيارات من مغبة الاندماج والانغماس الكامل مع مشروع الدعم السريع باعتباره يحمل تبعات اخلاقية ذات تبعات قانونية وسياسية وتاريخية يسعي حميدتي نفسه للتخلص منها –البراءة في ذات الخطاب من الشفافية ومرتكبي التجاوزات والتي تعتبر محسوبة على الدعم السريع- ولذلك فإن دفع القوى المدنية الديمقراطية تجاه الدعم السريع بالانتقال للدعم والمساند بشكل أعلى أو في الحد الأدني تقليل حدة الانتقادات الموجهة قد تبدو أحد الرسائل والأهداف المراد تحقيقها من رسائل هذا الخطاب.
* إشارة الخطاب لدور الدعم السريع في إسقاط حكم المؤتمر الوطني المحلول ومنع فض الاعتصام بالقوة والإفصاح عن كيفية إفشال خطة تقديم الصف الثاني ثم الإقرار بأن الموقف الصحيح كان دعوة المدنيين لتكوين حكومة عوضاً عن تشكيل مجلس عسكري ثم الافصاح عن بعض تفاصيل فض الاعتصام إظهار البراءة من جريمة فض الاعتصام هي رسالة مباشرة لمجموعات الثورة التي اختارت الانحياز والاصطفاف مع الجيش باعتبار أن الدعم السريع هو المسؤول عن فض الاعتصام، ولذلك هو يخاطبهم بشكل مباشر “البرهان هو الذي قتلكم وقام بإخفاء الادلة في الفرقة السابعة”، والرسالة المراد إيصالها أن الدعم السريع مع الثورة وساهم فيها وحمى الثوار وقطع الطريق امام صعود ووصول الإسلاميين للسلطة مجدداً من خلال المؤسسة العسكرية.
أعتقد هذه الرسالة الأضعف في مضمون الخطاب لأن الذين اختاروا أن يصطفون ضده يساندون الجيش أغلقوا صفحة فض الاعتصام واختاروا الانحياز على أسس ما عاد من بينها الوقائع المرتبطة بذكرى فض الإعتصام فالأمر تجاوز هذه الوقائع لما هو أبعد وأكثر تعقيداً من ذلك ويشمل هذا التعقيد من يرفضون الحرب أو يناهضون الجيش ويدعمون الدعم السريع فالإصطفاف والخيارات في هذه الحرب تجاوزت معيار (مع/ ضد) الثورة لواقع مختلف تماماً.
* تلاحظ أن الخطاب حمل نبرة حادة تجاه قادة الجيش بالتركيز على رباعي مجلس السيادي وتعمده إظهار وجود تباينات عميقة بين هذه المجموعة وتأمر على بعضهم البعض، لكن السمة الأبرز أن شخصية الفريق بحري إبراهيم جابر حظيت بنصيب وافر من النقد وفي بعض الأحيان الاستهزاء عند تناول حديثه في اجتماع بيت السفير السعودي بالسودان بحضور مسؤولة الشؤون الأفريقية بالخارجية الأمريكية مولي في ووفد الحرية والتغير بالخرطوم في يو10 يونيو 2022م، من الواضح أن تسليط الضوء على دور جابر قبل الحرب بإقرار حميدتي بكتابة اسمه ضمن قائمة المجلس العسكري ثم حديثه عنه باعتباره أشرف على نشر قناصين تصفية قائد ثاني الدعم السريع عبدالرحيم دقلو متناسياً العشرة والأهل حسب قول حميدتي.
لا يمكن فصل هذا السياق بأي حال من الأحوال من خطاب التحشيد الجهوي وأحكام العزلة الاجتماعية على جابر مع عدم إغفال تزامن هذا الأمر مع أحداث قصف سوق الكومة بشمال دارفور التي قتل فيها زوجة وابنة شقيق جابر ولذلك فإن نتيجة رسالة هذا الجزئية تهدف لزيادة الضغط على جابر من خلال إظهاره بمظهر الحريص على مصالحه بغض النظر عما يتعرض له أهله وهو موقف يسعى لتحقيق أحد أمرين إما دفعه لمغادرة المشهد طوعاً وإختياراً أو الاستمرار فيه بكلفة عالية إضعاف مركز نفوذه وتأثيره وسطهم.
* صعد حميدتي اتهاماته الموجهة لمصر بالمشاركة في تقديم وتوفير الدعم للجيش بالاتهام تارة بالمشاركة المباشرة عبر الطيران الحربي المصري أو توفير الطائرات المقاتلة والقنابل الامريكية الصنع عند بداية الحرب وحتى في معارك جبل موية الاخيرة التي أقر بفقدانها. هذه الاتهامات ليست جديدة إذ ظلت حبيسة الاضابير حسب ما أورده حميدتي نفسه في ذات الخطاب لكنها المرة الأولى التي يثار هذا الأمر بشكل علني ومباشر ولعل اختيار التوقيت ليس مرتبط فقط بما حدث في جبل موية ولكنه ذو صلة مباشرة لما سيحدث مستقبلاً سياسياً وعسكرياً.
على المستوى السياسي فإن هذا الاتهام بهذا التوقيت مقصده وضع عراقيل أمام فترة رئاسة مصر لمجلس السلم والأمن الإفريقي للدورة الحالية ومن الواضح أن الدعم السريع يشتط غضباً من زيارة وفد المجلس لبورتسودان لكونها تسجل نقطة إيجابية في معركة الشرعية التي يسعى البرهان للظفر بها، ومن جانب آخر إضعاف الدور المصري في أي جولة تفاوض مستقبلية بإظهار القاهرة كطرف أصيل في الصراع وليس محايد. أما على المستوى العسكري فإن المؤشرات والقرائن تمضي صوب ترجيح نقل الحرب لمناطق غير مشمولة كنهر النيل أو الشمالية، ولذلك فإن توقيت هذا الاتهام هو فعلياً هدفه الحد من حجم أي تدخل مصري متوقع في حال حدوث هذا السيناريو أو في الحد الأدني إضعاف هذا التدخل المتوقع لأدنى درجة ممكنة، مع وضع القاهرة تحت الضغط الأمريكي نتيجة هذه الاتهامات وعملياً يترتب عليها إضعاف الدور المصري على كافة الأصعدة.
* بالنسبة للاتهامات الموجه للولايات المتحدة الأمريكية ففي تقديري أنها إنفجار عنيف لتراكم مواقف ظل الدعم السريع يعتبرها تمثل تميزياً لصالح الجيش وكان أخرها العقوبات الأمريكية ضد القوني حمدان دقلو وسبق هذا الأمر إنتقاد الدعم السريع لمنهجية العقوبات التي تركز على الدعم السريع في مقابل التراخي تجاه الجيش وقياداته الذين رفضوا حضور مفاوضات جنيف للشؤون الإنسانية والعسكرية وعلى عكس توقعات الدعم السريع فإن العقوبات طالته عوضاً عن الجيش ولذلك فإن الرسالة المراد إرسالها في هذا السياق “أن مساعى كسب ود الجيش بهذه المنهجية نتيجتها خسارة وفقدان ثقة الدعم السريع مع عدم إحراز أي تقدم مع الجيش”، بالتالي فإن ما يريده الدعم السريع فعلياً هو جنوح واشنطن “لاستخدام العصا في وجه الجيش” بما في ذلك تضييق الخناق السياسي والاقتصادي في وجهه، ولذلك فإن حديثه عن عدم اهتمام الجانب الأمريكي بتحويل جزء من التسليح المقدم لمصر لصالح الجيش السوداني يتجاوز التجاهل الأمريكي لمرحلة الاتهام العلني بالتواطؤ وتعمد هذا الأمر ومن الواضح أنه عبر هذه الرسالة يفتح شهية الإعلام الأمريكي للتقصي حول هذا الأمر وهذا يمثل ضغط كبير على الإدارة التنفيذية الأمريكية والمؤسسات التشريعية مع امكانية جعله ضمن الأولويات اللاحقة بعد الانتخابات.
* إندلاع المواجهات المسلحة بين الطرفين بوتيرة أعنف سيكون لديها أثر مباشر على الاطراف الإقليمية والدولية خاصة المنخرطة والمنهكمة في مسار التفاوض لوقف الحرب وهي ستجد نفسها لا محالة في حاجة لتطوير وتحديث أدواتها ومنهجيتها وتعاطيها مع المشكلة ورؤى حلولها ومن المؤكد أن التطورات ذات الصلة باي تصعيد عسكري مستقبلي ستكون مراجعة إستراتيجية العمل الخاصة بالمفاوضات الخاصة بوقف الحرب في السودان، وما سيترتب عليه تعزيز لهذا الأجراء هو التطورات في الساحة الامريكية بعد الانتخابات الرئاسية المقرر لها الخامس من نوفمبر القادم وانتخابات رئاسة الاتحاد الإفريقي المزمع عقدها في فبراير 2025م لاختيار خلف للمفوض الحالى موسي فكى، وهو ما يجعل السيناريو الأرجح إحداث متغيرات على ملف إنهاء الحرب في السودان المؤكد عدم بلوغه المحطة الأخيرة نتيجة للمتغيرات المتوقعة والمرتقبة على صعيد الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الإفريقي على حد السواء.
* أعتقد أن الرسالة الأخطر في ثنايا الخطاب هو الإعلان المباشر عن انخراط دول وجهات إقليمية في مستنقع الصراع السوداني وتسمية بعض الأطراف، وتنبع خطورة هذا الأمر لوجود أطراف إقليمية متصارعة في مواضع ومواقع أخرى تريد وضع موطئ قدم لها وبهذا الإعلان يكون الرجل قد فتح المجال واسعاً أمام مزيد من التداخل والصراع وتحويل السودان لساحة حرب أو نزاع إقليمي بين الأطراف المتصارعة يترتب على هذا الأمر تأجيج وتصعيد وزيادة وتيرة الحرب والعنف الناتج عنها، لكنه يقود على المدى المتوسط للوصول لصيغ تفاهمات تتأسس على تحقيق المصالح للأطراف الأساسية المتصارعة وهذا ما قد يرجح فرضيات تأسيس نماذج التقسيم السياسي لدولتين أو أكثر أو الإداري باعتماد حدود ومناطق نفوذ يتم بمقتضاها تحقيق مصالح الأطراف الأساسية ويترتب على هذا الأمر تراجع الجزيئات المرتبطة بمصالح وتطلعات الشعب السوداني بداية في الحفاظ على وحدة ما تبقي من السودان مروراً في اختيار نظام الحكم وبناء مؤسسات الدولة.
سيناريو التقسيم السياسي أو الإداري لا يمكن مجابهته بفرض وتعزيز وحدة الأراضي السودانية إلا بخيارات نفسها تبدو مستعصية وصعبة تبدأ من الأبعد والأقرب بتمثل أكثرها بعداً قيام أي أطراف الحرب من حسمها عسكرياً بالضربة القاضية في كل أنحاء السودان ويليها إنخراط الطرفين في عملية تنهي الحرب تؤسس لحكم مدني ديمقراطي مستدام، يليها إنهاء الحرب بتأسيس شراكة بين الطرفين ستكون أشبه بشراكة التشاكس الناتجة عن نيفاشا ستقود إما لحرب جديدة أو تقرير مصير وتقسيم، أو القبول بصيغة التعايش بحيث يضمن كل طرف وجوده وسيطرته على مناطق تمركزه مع تعزيز هذا التعايش بوجود مؤسسات مشتركة تضمن استدامة المصالح. لكن هذا النموذج لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية فيجب أن يفضي إما لتقسيم سياسي أو وحدة لا ينتج عنها اندلاع حرب جديدة بالواقع الراهن فإن السيناريو الأرجح هو التقسيم بفضل تكامل العوامل التاريخية والموضوعية المرتبطة بالماضي “صراع البحر والغرب” مع الحاضر “تداعيات ونتائج الحرب” مع إمكانية قبول القسمة على أكثر من دولتين.
يمثل التدخل الخارجي الانساني عبر قوات اجنبية –سواء كانت إفريقية أو مختلطة متعددة الجنسيات أو أممية- حائط صد فاعل لمنع سيناريو التقسيم والتجزئة لكن من الضروري التنبه إلى أن التجاذبات الإقليمية والدولية نفسها ستكون عامل إعاقة أمام الإسراع بهذه الخطوة وهو ما سيجعل النتائج على الأرض وفي النفوس نتيجة الموجة الثانية المتوقعة للحرب أكثر تصالحاً مع فكرة “التقسيم” والترحيب بها مع الإقرار بعدم جدواها ونتائجها المتوقعة في إنتاج وتقديم نماذج إضافية للدول الفاشلة المتصدعة الضعيفة وهو أمر يمضي عكس عقارب التطور القائم على تجميع المكونات الصغيرة في اتحادات أكبر وفتح الحدود وحرية التجارة والحركة وليس صناعة حدود وقيود جديدة.
*الخلاصة*
أخلص من هذا التقييم والتحليل الأولي لهذا الخطاب للنقاط التالية :-
*أولاً:-*
الخطاب ومحتواه معد ومصمم برسائل محددة لجهات داخلية وخارجية ويهدف لتحقيق جوانب متعددة (معنوية للقوات المقاتلة على الأرض) و(دبلوماسية وسياسية تجاه اطراف اقليمية ودولية) و(سياسية من خلال تأكيد استمرار المعركة والمواجهة مع الإسلاميين ومجموعة كرتي) وعسكرية بزيادة وتيرة الحشد والمناصرة).
*ثانياً:-*
المؤشرات العامة تشير إلي أن هذا الخطاب يدشن الطريق لموجة جديدة من الحرب ستكون أعنف مما سبقتها بما في ذلك إمكانية شمولها لمناطق جديدة، وتبقي الخطورة الأكبر إمكانية تحولها لحرب أهلية عنيفة بمشاركة وتأثير وإنخراط إقليمي ودولي في ساحتها أكثر وضوحاً من الحقبة الأولى للحرب. عليه فإن افتراض وترويج هذا الخطاب باعتباره بداية لنهاية الحرب وجسمها وفق وجهة نظري تقييم عاطفي وتقدير غير دقيق، وحتى محاولة توظيف الاشارة للاتفاق الإطاري واغفال الوقائع الاخرى المرتبطة بالاتهامات المباشرة لعلى كرتى ومجموعته في التجهيز للحرب والاستعداد لها ثم اشعالها وحرق البلاد بسببها وتدميرها هو إستخلاص غير دقيق لمجمل ما قيل وذكر عبر اغفال وقائع مذكورة في ذلك الخطاب.
*ثالثاً:-*
الهدف الأساسي للنقد العنيف الموجه لأطراف إقليمية ودولية هو للحد من تأثيرها المباشر على الدعم السريع إقتصادياً وعسكرياً وسياسياً ودبلوماسياً من ناحية والتأثير السلبي على الجيش في ذات الوقت جراء أي تحولات تطرأ على الأطراف الإقليمية والدولية بسبب هذه الانتقادات والاتهامات بغرض إبداء قدر أكبر التوازن أو الحياد تجاه طرفي الحرب في السودان.
من المهم الإقرار بالتأثير الناتج المترتبة على انتخابات الرئاسة بالولايات المتحدة الأمريكية (نوفمبر 2024م) ورئاسة الاتحاد الإفريقي (فبراير 2025م) على الاسراع بوتيرة المفاوضات بين طرفي الحرب في السودان وهو يجعل سيناريو مراجعة منهجية عمل المفاوضات المرتبطة بالسودان في حال تصاعد المواجهات العسكرية بين الجيش والدعم السريع أو توقفها أمر مرجح خاصة بعد انتهاء انتخابات الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد الإفريقي وطبقاً لذلك تغيير المنهجية والأدوات والحوافز والوعود والعقوبات تجاه الأطراف.
*رابعاً:-*
تنامي المؤشرات العامة التي تشير إلى أن الجوانب المرتبطة بمستقبل السودان وتشكيله السياسي والجغرافي والإداري تخرج فعلياً وتتسرب من ايدي السودانيين -العسكريين والمدنيين منهم على حد السواء- وستكون الكلمة الأخيرة في حال استمرار وتصاعد الحرب مرتبط بتقاطعات وتفاهمات الأطراف الإقليمية والدولية وتصوراتها لخطوط المصالح وشكلها. وكأن التاريخ يعيد نفسه في حقبة ما بعد إنهاء حكم الدولة المهدية حينما وضع الاستعمار /الحكم الثنائي الانجليزي المصري وبناء على التفاهمات الدولية حدود دولة السودان بداية من تفاهمات حادثة فاشودة التي كادت أن تحدث صداماً بين بريطانيا وفرنسا (1898م) ثم لاحقاً بضم دارفور إلي بقية أجزاء السودان (1916م) ثم مؤتمر جوبا (1947م) الذي ضمن الوحدة بين شمال وجنوب السودان بعد انتهاء حقبة المناطق المقفولة قبل أن تقرر ذات الأطراف الدولية والإقليمية تعديل ذلك الموقف بصيغة تقرير المصير لجنوب السودان لوقف الحرب الأهلية المستمرة والمتجددة لمرتين ونتيجته المتمثلة في لأعلان إستقلال جنوب السودان كدولة مستقلة (يوليو 2011م).
*خامساً:-*
الخطاب ومعطياته الحالية قد يمثل نقطة فارقة بين مرحلتين ربما تفضي تطورت أحداثها للتهيئة النفسية والذهنية والاجتماعية للقبول بمبدأ وفكرة التقسيم للسودان إدارياً في الحد الأدنى يتولى كل طرف إدارة المناطق الواقعة تحت سيطرته، أو سياسياً بتقسيم وتفتيت السودان لدولتين أو أكثر. ستكون السمة المشتركة لجميع تلك الدول المولودة من رحم الدولة الأم المقسمة إصابتها بمتلازمة التفكك الداخلي وانعدام البنية التحتية واستشراء الفساد بما يفضي لإنتاج دول ضعيفة فاشلة باهتة مصنوعة ومسيطر عليها.
*سادساً:-*
فرص الحفاظ على وحدة ماتبقي من السودان رهينة بانتصار أي من الطرفين عسكرياً مع إنتصار مزدوج على التيار الانفصالي داخله، أو تدخل دولي بقوات على الأرض يحقق هذا الأمر، إلا أن الخبار الأكثر واقعية وقابل للتحقيق مرتبط بنجاح القوى المدنية الديمقراطية والقوي المناهضة للحرب في إقناع المجتمعين الإقليمي والدولي بمخاطر التقسيم إدارياً أو سياسياً بالاستناد إلي أن تأسيس وحدة على أساس مدني ديمقراطي مستدام هو النموذج الأكثر قابلية الازدهار والاستقرار على عكس نتائج التقسيم الإداري أو السياسي.
من المؤكد أن هذا الأمر يتطلب جهداً خارقاً من القوى المدنية والديمقراطية والقوي المناهضة للحرب يستند على قدرتها على تحقيق إجماع وسط مكوناتها وأطرافها المختلفة والمقدرة تعميق عزلة مجموعة على كرتى بما يجعلها راضخة لتأسيس واقع جديد يفضي لتفكيك التمكين لصالح بناء وطن الجميع على أساس عملية سياسية مدنية تقوم على المؤسسية والعدالة الانتقالية.
بإمكان القوى المدنية الديمقراطية والقوي المناهضة للحرب إحداث اختراقات ايجابية في هذا المضمار لكن يعوزها كثير من الجهد والترتيب والعمل والتنسيق مع قدرتها على موائمة المخاوف والمصالح الإقليمية والدولية ومزجها في قالب يحققها وفق المصلحة الوطنية على أساس سودان غير مقسم سياسياً أو إدارياً وتقديم تصور بديل لرؤية التقسيم المطروحة من مجموعة علي كرتى والحركة الإسلامية بالاستناد لنقطة محورية أن المصالح للأطراف تتعاظم وتنامي عند الوحدة وتتناقص جراء أي تقسيم سواء كان سياسي أو إداري.
من بين التحديات التي تجابه القوى المدنية والديمقراطية والمجموعات المناهضة للحرب هو ضمان عدم انزلاق الدعم السريع صوب خيار التقسيم لأن تبنيه لهذا الخيار يجعل الطرفين المتقاتلين متفقين على هذا التوجه وهو ما سيجعله الخيار المطروح لحل أزمة الحرب في السودان، وبدرجة ما فإن التواصل مع قيادات مؤثرة في الجيش بما في ذلك قائده العام لضمان حرصه وإلتزامه بعدم تقسيم السودان سيكون في حال حدوثه قطع للطريق أمام خطط التقسيم والتفيتت.
*سابعاً:-*
يجب عدم إغفال التأثيرات الدولية والإقليمية التي قد تدفع ملف الحرب في السودان لصدارة المشهد أو تجعله يتراجع كما حدث بعد حرب الشرق الأوسط في أكتوبر 2023م (المعروفة باسم طوفان الأقصى) ولذلك فإن أي متغيرات ذات طابع إقليمي أو دولي سلباً أو ايجاباً ستكون ذات تأثير مباشر على مستقبل الحرب في السودان سواء كان بالاستمرار أو ممارسة الضغوط الحقيقية لوقفها ووضع حد لها.
10 أكتوبر 2024م