الأخبار

ثورة أكتوبر 60 عاماً من السيـــــــر في طـــــريق معـــــــوج (1 – 2)

محمد الشيخ حسين

60 عاماً تفصلنا عن ثورة أكتوبر العظيمة، لكن تبدو العودة إلى الوراء للولوج إلى عالم ثورة أكتوبر 1964 أشبه بتسلق قمم الجبال.. جهد وعرق ومشقة من أجل نتيجة مجزية.

الناظر من أعلى إلى خلفية الأحداث عند السفح يجد أن هذا الشعب العظيم الذي انتفض في أكتوبر كمن تجرع حصاد ثورته بالسير في طريق معوج.

ثلاث روايات
وجه المشقة والصعوبة أول ما يقابلك عند تحديد هوية الثورة وصناعها، فقد أورد الراحل الأستاذ خضر حمد في مذكراته أن السبب لاندلاع ثورة أكتوبر هو حديث أستاذ القانون الدستوري في جامعة الخرطوم آنذاك الدكتور حسن الترابي في ندوة الجنوب بقوله (المحنة ليست محنة الجنوب وحده، ولكنها محنة الشمال والجنوب من حيث فقدان الحرية والحياة الديمقراطية).

وقبل أن نقف كثيراً مع إشارة خضر حمد العابرة ينقلنا الصحفي المصري أحمد حمروش إلى زاوية مختلفة في محاولة للإقناع على طريقة نفي النفي إثبات حين أورد في كتابه (السودان ومصر كفاح مشترك) على لسان مراسل وكالة الاسوشيتدبرس من سرده ليوميات الثورة عبارة (إن الذي يملك زمام الموقف. . رجل غامض يسمى عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي السوداني).

وقبل أن نتأكد من هذه الرواية ينقلنا الصحفي المصري موسى صبري في كتابه مخبر صحفي وراء أحداث عشر ثورات إلى رواية جديدة تماماً إذ يقرر دون تقديم أي تفاصيل أو حيثيات أن ثورة أكتوبر (ثورة القوميين العرب بقيادة بابكر عوض الله).

التوثيق والتقييم
الروايات الثلاث مقروءة مع إفادات شهود عيان بين ثنايا هذا الملف بجزئيه تلفت نظرنا إلى أزمة تكاد تكون حادة في طرق توثيق وتقييم الأحداث الهامة في حياتنا المعاصرة.
وفي الرواية الأولى، لم يكتفِ الراحل خضر حمد بإسناد شرارة الثورة إلى الدكتور حسن الترابي، لرسوخ عبارة الدكتور الترابي في ذهنه، بل دعمها باعتراف صريح فحواه (أنها المرة الأولى التي يسمع فيها عبارة بهذه الحدة والدقة ضد الحكم العسكري). وعند تأمل الرواية الثانية نلاحظ أن الأستاذ أحمد حمروش أورد المعلومة بذكاء على لسان مراسل وكالة الاسوشيتدبرس، ثم نفاها بشدة في مجال من قصد الإثبات والنفي، لكي يعرف الناس المعلومة ويتداولونها.
ومع ذلك ينبغي التوقف عند عبارة (رجل غامض)، لعدم انطباق وصف غامض على الراحل الأستاذ عبد الخالق محجوب.

والشاهد أن الرواية الثانية ستجد لها سوقاً رائجة تختلف تماما عن السوق التي انتشرت فيها الرواية الأولى.
غير أن الإشارة هنا تستوجب إيراد أن الراحل البروفسور محمد عمر بشير في تاريخه للحركة الوطنية يسير في نفس الاتجاه، أي أن (ثورة أكتوبر خطط لها ودبرها الحزب الشيوعي السوداني).

ولعل مبعث الرواية الثالثة أن القومية العربية كانت في قمة عنفوانها، ولذا أرجعت شرارة ثورة أكتوبر إلى القوميين العرب بقيادة الأستاذ بابكر عوض الله، ولم يكن للأستاذ بابكر عوض الله رئيس القضاء آنذاك أي دور سياسي. والقارئ لتقرير الراحل الأستاذ موسى صبري يلحظ دون عناء شديد أن التقرير في مجمله محاولة للقول إن المد الثوري الناصري الذي يكتسح الوطن العربي آنذاك هو الذي قاد لانطلاقة ثورة أكتوبر في السودان.

مبررات الطرفين
ولا نحتاج للتعليق على الرواية الثالثة، على أن القول لا ينتهي حول الروايتين الأولى والثانية ولكل مبرراته.
وأهم مبررات الرأي الأول أن اتحاد طلاب جامعة الخرطوم بقيادة الأستاذ حافظ الشيخ الزاكي لعب دوراً أساسياً في تصعيد الأحداث من خلال ندوة الجنوب لينفجر الوضع ثورة عارمة تزيل الحكم العسكري.

أما أهل الرأي الثاني فمبررهم الأساسي أن 55 نقابة من أصل 62 نقابة قررت انتخاب الراحل الأستاذ الشفيع أحمد الشيخ الذي أودعته الحكومة السجن لمدة خمسة أعوام، قررت انتخابه سكرتيراً عاماً لاتحاد نقابات السودان، ومنعت الحكومة العسكرية عقد مؤتمر العمال الذي كان مقررا انعقاده في 15 أغسطس 1964. ولم تكتف الحكومة بذلك بل شنت حملة اعتقالات واسعة ضمت المئات من النقابيين والديمقراطيين الاشتراكيين.

الحلقة الأخيرة
وسواء صح الرأي الأول أو الثاني فإن روائح العصر كانت تعلن قرب نهاية الحكم العسكري الأول، وأن حبل الصبر الممتد من الشعب قد تفتت أوصاله ولم يبقَ سوى الثورة والعصيان. وحتى لا نتهم بالتوفيقية في عدم تحديد هوية ثورة أكتوبر بصورة قاطعة نقول إن الناس في مثل هذه اللحظات الخالدة من الوعي القومي لا يتحدثون من منطلق الآراء السياسية ولا يناقشون الخلافات الحزبية.

وعلى هذا المنوال فإن أكتوبر كانت ثورة الشعب بكافة فصائله وتوحدت كلمته تحت القيادة الفعلية والعفوبة لجبهة الهيئات.

الحلقة الأخيرة في انتصار الثورة الشعبية كان دور القوات المسلحة السودانية الذي سار في طليعة الثورة بقيادة أكثر من ضابط كان أبرزهم الراحل محمد الباقر أحمد ومزمل سليمان غندور.
والحلقة الأخيرة تنفي عمليا أن ثورة أكتوبر قد هبت في مواجهة الجيش السوداني، ولعل الخطأ الأكبر في سياق تدوين التاريخ السياسي المعاصر محاسبة القوات المسلحة بأي تجاوزات سابقة تنسب لطيب الذكر الراحل الفريق إبراهيم عبود أو أي هفوات لاحقة تنسب لرجل نسأل الله أن يرحمه ويغفر له هو، المشير جعفر محمد نميري.

ونحن نستعرض كل هذه الأدوار، يتملكنا يقين راسخ بأن الجنود المجهولين أكثر من الجنود المعلومين، وأن رجل الشارع تعرض لتضحيات وتشريد لم يتعرض لها البارزون.

وعود على بدء يبدو الصعود إلى عالم ثورة أكتوبر مسألة مقحمة ومثيرة للتأمل، لأننا نجتر سيرة ثورة أكتوبر كلما هل علينا شهر أكتوبر في أجواء من الأحداث تعيدنا إلى أيام أكتوبر 1964، على أن التاريخ لا يعيد نفسه.

السؤال الحائر
تمثل ثورة أكتوبر لحظة وعي قومي شارك فيها الشعب السوداني بكل فصائله، ولكن هذه الثورة أجهضت بعد أربع سنوات من اندلاعها ليفاجأ أهل السودان بحكم من طراز فريد.
على أن السؤال الذي يبحث حائرا عن إجابة، هل أجهضت ثورة أكتوبر لأنها (كثورة) أكلت نفسها حين جاء ميثاقها فضفاضاً يثير الاختلاف أكثر من الاتفاق؟ أم أن أكتوبر (كثورة) أكلت بنيها حين خرج ممثلو جبهة الهيئات من حكومة سر الختم الخليفة الثانية؟ هل هي ثورة أكلها أبناؤها حينما دبت الخلافات بينهم واستعر أوار المطامع الحزبية وسطهم؟

في سياق البحث عن إجابة لهذا السؤال الحائر يستعرض هذا الملف في جزئيه أربع شهادات من شهود عيان شاركوا في ثورة أكتوبر بصورة أو أخرى. وتمثل هذه الشهادات التي سجلت في أوقات مختلفة جزءا من مخطوطة تحت الإعداد لكتاب عن ثورة أكتوبر وصناعها ربما يرى النور يوما ما.

ما بعد أكتوبر
لا نزعم أن هذا الملف بجزئيه وشهادته الأربع يجيب عن الأسئلة التي تثار كلما أطل علينا فجر أكتوبر، لكن المهم تأكيد أن الثورة الشعبية نجحت في عهد الدبابات والمدافع المنصوبة على أبراجها، لأن القوات المسلحة قد انحازت إلى جانب الشعب وسار في طليعة الثورة. ومن المهم هنا التأكيد أن الشعب قد أنجز ثورته الشعبية السليمة قبل 50 عاما من ظهور ما عرف يـ (ثورة الربيع العربي).

ويبقى السؤال ثم ماذا بعد أكتوبر، خاصة إن ثوار أكتوبر قد أقسموا بأكتوبر لما يطل في فجرنا ظالم؟. لكن شهد ما بعد أكتوبر بمقاييس تلك الأيام تأرجح الوسط بين الانقسام والاتحاد، وشهد أيضا تأزيم اليسار للوسط وإجهاضه مجددا للجبهة الديمقراطية، ثم إجهاض الوسط واليمين لشرعية اليسار. وكانت النتيجة أن (دقت المزيكة) في 25/5/1969، وأصبحت من حكاياتنا مايو.

الأصدقاء والمعارف
كان الأصدقاء والمعارف وراء اختيار رئيس وزراء أكتوبر، وكان الشاهد الأول هو رجل التربية الذي ترك مجال تربية النشء ومقاعد الدراسة الهادئة ليدخل معترك العمل السياسي من القمة رئيسا لمجلس وزراء حكومة ثورة أكتوبر الشعبية.

والانطباع المباشر الذي يرسخ في الذهن عندما ينعم المرء بضيافة الراحل الأستاذ سر الختم الخليفة أنك قد جلست مع واحد من جيل العمالقة من رجال التربية الذين يتركون أثرا في نفوس تلاميذهم مهما تفرقت بهم السبل.

ما هي الظروف التي قادت سر الختم الخليفة إلى رئاسة وزارة أكتوبر؟
يقدم الراحل سر الختم روايته من وجهة نظر شخصية بحتة، ويقول: فيما يتعلق بي فقد أرسل لي أحد الضباط لكي أحضر للقيادة العامة، وعند وصولي القيادة العامة طلب مني أن أتولى أعباء الوزارة على أساس أن هناك ميثاقا متفقا عليه من الجميع وهو برنامج العمل. وتفسيري الشخصي لعملية الاختيار أن الكثيرين من الذين شاركوا في مداولات اختيار الوزارة إما أصدقاء أو معارف لي. إضافة إلى هذا فإنهم كانوا يبحثون عن شخص محايد، بمعنى أن لا يكون منتميا لأي حزب من الأحزاب وليس له لون سياسي. وسبب آخر يتمثل في إقامتي الطويلة لأكثر من 11 عاما في جنوب السودان قد دعمت اختياري لمعايشتي لما يحدث في الجنوب الذي كان موضوعا ساخنا في ذلك الوقت.

بعد وصول الراحل سر الختم إلى رئاسة الوزارة هل وجد صعوبة في أن يكون رئيسا لمجلس يتكون من وزراء مختلفي المشارب والاتجاهات؟

يقسم الراحل سرالختم إفاداته إلى مراحل ويسرد: في البداية كان الأمر ميسورا إذ تم عرض الميثاق وقمنا جميعا بالاطلاع عليه وتفهمنا بنوده، وأهمها أن هذه الحكومة انتقالية مهمتها أن تهيئ البلد لانتخابات. كانت المهمة عبارة عن (مقطوعية محددة تنتهي في فبراير 1965). وكانت المهمة في هذه المرحلة ميسرة جدا وروح العمل في مجلس الوزراء أكثر من ودية، والقرارات تتخذ دون صعوبة في النقاش.

ولكن جاءت مرحلة تالية والاستدراك من الراحل سر الختم ضاعت فيها نشوة الانتصار وعاد كل فريق إلى حزبه يتساءلون عن ماذا يحدث بعد الفترة الانتقالية، رغم أن هدفنا الواضح إجراء الانتخابات وإعلان الجمعية التأسيسية لكي (تشيل شيلتها).

نقاش هذه المرحلة اقترن بكثرة عودة الوزراء إلى أحزابهم وتباينت وجهات النظر في الانتخابات التي كانت موضوع الاحتكاك الرئيسي داخل مجلس الوزراء.

ثم دخلنا في مرحلة ثالثة والاستطراد من الراحل سر الختم انداح فيها الصراع عن فريقين فريق ينادي بإجرائها في موعدها وآخر يرفض ذلك. وصلت درجة الخلافات وحدتها إلى المرحلة التي افتقد فيها مجلس الوزراء الانسجام اللازم لأداء مهامه. وأصبح واضحا أن الأمر لن يستمر على هذا المنوال ووصلنا إلى طريق مسدود، وكان واضحا استحالة استمرار مجلس الوزراء بهذا الوضع، لأنه كان من الممكن أن تنتهي الفترة الانتقالية دون إجراء الانتخابات وساعتها نجد أنفسنا في فراغ ووضع غير مفهوم.

ويصل الراحل سر الختم بعد عناء وسهر في التفكير إلى الوسيلة الوحيدة المتاحة أمامه أن يهز هؤلاء القوم بتقديم استقالته من رئاسة مجلس الوزراء.

بعض ثوار أكتوبر يرجع استقالة الراحل سر الختم إلى اتفاق بين رئيس الوزراء والأحزاب على إقصاء جبهة الهيئات والقوى الديمقراطية الأخرى من مجلس الوزراء؟

ينفي الراحل سر الختم هذا الزعم ويؤكد بابتسامة ساخرة: رئيس الوزراء الذي هو أنا والذي أعرفه جيدا أن من أهم الأشياء التي دفعتني لقبول منصب رئيس الوزراء بحثهم عن شخص محايد لا دخل له بالألوان الحزبية، ولذلك كنت حريصا على هذه الصفة حتى النهاية. وأدلل على ذلك أن اجتماعاتي مع ممثلي الأحزاب كانت تتم بصفة جماعية. ولم يحدث قط أن اجتمعت مع أحدهم منفردا. ويجوز أن كل حزب كان يعتقد أنني معه.

بعد الاستقالة قسمت الحقائب الوزارية بين الأحزاب وأبعدت جبهة الهيئات، هل يعني هذا أن الاستقالة أسهمت في إقصاء جبهة الهيئات؟

يعرف الراحل سر الختم جبهة الهيئات بأنها الكيان الذي مثل القوى غير الحزبية وعلى رأسها المثقفون من أساتذة الجامعة، المحامون، الأطباء، وهي التي قادت التظاهرات والإضراب السياسي ضد الحكم العسكري. ولذا فإن نذر الصراع بين جبهة الهيئات والأحزاب ظهرت منذ البداية في شكل نوع من (عدم الاستلطاف) بين الطرفين. وقطعا كان سبب الاختلاف هو طريقة التفكير في المستقبل. فحزبا الأمة والوطني الاتحادي استعجلا الانتخابات ورغبا في أن تتلاشى جبهة الهيئات، منطلقين من قناعة فحواها أن حق تمثيل الشعب يجب أن يكون فيصله صندوق الانتخابات. إضافة إلى أن جبهة الهيئات نفسها برزت كمقدمة للعمل الثوري الذي أقصى الحكم العسكري أي أن مبرر وجودهم كان الشرعية الثورية وحدها.

ينتمي رئيس وزراء ثورة أكتوبر إلى بيت ختمي كبير، ولكنه تزوج بعد ثورة من بيت أنصاري عريق، هل يعد هذا الارتباط جزءا من التحالفات غير المعلنة الأنصار والختمية في حياتنا السياسية؟

يطلق الراحل سر الختم ضحكة طويلة ويقول: هذه نظرية جذابة ومن الممكن أن تخطر بذهن الإنسان، ولكن واقع الأمر غير ذلك تماما، إذ أنني من المفروض أن أتزوج قبل أكتوبر. ولظروف الأحداث تأجل موعد الزواج الذي كان مضروبا له تقريبا يوم 20 أكتوبر، وعندما أدركت الثورة تأجل حتى نوفمبر.
على أن المهم أن هذه الصلة لم تجعلني اقترب من العمل الحزبي، لأنني لو رغبت في ذلك لكان أقرب حزب إلي هو الوطني الاتحادي، إضافة إلى أن طبيعة عملي كانت تأخذ الجزء الأكبر من وقتي.

ترى ما هي الأسباب التي أدت لإجهاض ثورة أكتوبر من وجهة نظر رئيس مجلس وزرائها؟

يرى الراحل سر الختم أن إجهاض ثورة أكتوبر هذا تعبير سرى على ألسنة الناس وفيه الكثير من عدم الدقة، وثورة أكتوبر فيما يتعلق بي كرئيس مجلس وزراء أكتوبر فقد كانت في الميثاق الذي قادنا إلى الجمعية التأسيسية، وبعده أما يكون الناس أكفاء يديرون أمورهم بالطريقة المثلى أو تسيطر عليهم الفوضى والهرجلة.
وحصاد القول عند الراحل سر الختم أن ثورة أكتوبر لم تحتوِ على أسس ومثل عليا أجمع الناس على تحقيقها ثم انحرفوا، وهنا تصبح شهادتي للتاريخ أن الشعب السوداني ممثلا في أحزابه لم يستفد من التجربة.

المراجع
خضر حمد (مذكرات خضر حمد) مطبعة الشارقة 1981

أحمد حمروش (السودان ومصر كفاح مشترك).

موسى صبري (مخبر صحفي وراء أحداث عشر ثورات).

حوار صحفي مع الأستاذ سر الختم الخليفة (الصحافة) 21 أكتوبر 1985.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى