رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير.. أسامة صالح

الأعمدة

الحركة الإسلامية السودانية – لا دين صانت ولا دنيا أقامت..

إسماعيل عبدالله
واحدة من مهازل التاريخ السوداني الحديث ، أن أطلت جماعة دينية – سياسية ، اربعينيات القرن العشرين على مسرح الحياة العامة ، وتغلغلت في الوسط السياسي ، فتحوّرت وتبدلت اسماً وشكلاً ، وبقيت مضموناً ، وفي كل مراحلها طفقت تطرح تطبيق الشريعة الإسلامية برنامجاً للحكم ، كانت أول تجربة لها في ممارسة السلطة مع نظام جعفر نميري ، بعد المصالحة الوطنية ، فاستطاعت إقناع رأس النظام بأن يكون (إماماً للمسلمين) ، فانحرف مائة وثمانين درجة ، وطبّقت ما عرف بقوانين سبتمبر زعماً منها أنها شرع الله ، فقطعت يد الفقير السارق وتركت أيدي كبار موظفي الدولة (بهاء الدين) المختلسين للمال العام ، ودلفت إلى تأسيس البنوك والشركات التجارية ، وبدأت مسيرة استغلال الدين في الدنيا ، فلو كانت هنالك جماعة حزبية في السودان أسست للفساد عبر جهاز الدولة ، تكون هي الحركة الإسلامية – النسخة الأخيرة لجماعة الإخوان المسلمين ، فقد خدعت الناس بتبنيها المشروع الديني النفاقي ، المتخذ من السلطة منبراً للتغيير وإقامة (دولة الإسلام) ، فحصد السودانيون أكبر حصاد لمخلفات الجريمة المنظمة ، بعد دخولها قبة برلمان الديمقراطية الثالثة، بارتكابها خطيئة الانقلاب على الشرعية فأحالت البلاد إلى هتافات دينية مستعرة ، قادها شيب وشباب التنظيم المحتكر لرسالة السماء ، ورأى الناس العذاب الذي تذهل عنه المرضعة ، وأحسوا القهر الذي يجعل الحامل تضع حملها في عير موعده، طيلة فترة حكم الحركة الإسلامية قبل وبعد المفاصلة الشهيرة بين العرّاب وحوارييه ، اجتاحت البلاد موجة من الفساد في كل الأصعدة ، السياسية والاجتماعية ، وسمع العالم الهتاف الديني ذا الصوت العالي القادم من أرض النيلين ، ولم يسمع صوت المحبة والسلام ، ودخلت البلاد لحى شعثاء وأقدام غبراء ووجوه مكفهرة تدعي حصرية ملكيتها للدين.
في حديثه للإعلامي أحمد منصور مقدم برنامج شاهد على العصر بقناة الجزيرة ، أقر الدكتور حسن الترابي عرّاب الحركة الإسلامية بمسؤوليته عن فشل مشروعه (الرسالي) ، بعد أن حاصرته الأسئلة ، ومن الإجابات الصادمة التي أدلى بها ، أنهم كقيادة للتنظيم الحاكم آنذاك لم يحاسبوا الدستوريين المفسدين ، لأن معيارهم في الاختيار كان الولاء والثقة المفرطة والسلطة المطلقة ، تصور معي عزيزي القارئ ، كيف لحاكم حاصل على درجة الدكتوراه في القانون (الدستوري) ، ومن أعرق جامعات العالم (السوربون)، أن لا يتخذ من معيار العلم (المحاسبة والمراجعة والقانون) مبدئاً ترتكز عليه ركائز الحكم ، لقد كانت حلقات ذلك البرنامج التوثيقي أدلة دامغة ، تستوجب محاكمة رموز الحركة الإسلامية الذين أكثروا في البلاد الفساد ، لقد بنى الشيوعيون الصينيون (الملاحدة) بلادهم في غضون سنوات قلائل ، أقل أمداً من السنين العجاف التي قضاها كادر الحركة الإسلامية السودانية في إدارة شئون الدولة ، إنّ هؤلاء الشيوعيين بنوا الدنيا ولم ينشغلوا بحث الناس على نعيم الآخرة، حاربوا الفساد فصنعوا المجد ، بعكس (أولياء الله الصالحين) الذين رزئت بهم أرضنا، ومما يدهشك في هذه الكائنات الفصامية الحركية الإسلامية ، أنها ختمت سنين حكمها بتفتيت البلاد وإشعال الحروب ، وهي بذلك لم تقم للدين مجداً ، وإنّما أراقت دماء المسلمين ، وما عملت للدنيا ولم تفدي (الدين) بروحها حينما أوقدت النار ، بل هربت صوب دنا الآخرين – تركيا ، إنّها الخطيئة الكبرى والعار الديني الكبير ، أن تبشر الناس بسعادة الآخرة ، وحين يحمى وطيس الرحلة المؤدية لمداخل أبواب الجنة ، تختار الهروب إلى (جحيم الدنيا) التي كرّهت الناس في عيشها ، وكما يقول ستيف جوبز ، الجميع يحلم بدخول الجنة لكن لا أحد يرغب في ولوجها عبر بوابة الموت.
من الطبيعي أن يقود الحركة الإسلامية في نسختها الأخيرة مؤسس كتائب الإرهاب ، الذي ولغ في دم شعب جنوب السودان ، زاعماً جهاداً مقدساً في سبيل إيصال رسالة الرب إلى (الكفّار) ، نازعاً الأرض التي جاهد من أجل أسلمة (كفّارها) من جسد الوطن نزعاً ، والآن يقود ذات الإرهابي حرباً شعارها طرد (العرب الشتات) ، فاشلاً في صبغها بلون الدين ، لأن من يرمي على رؤوسهم حمم الموت هم الذين كسوا الكعبة ، فتاه الإرهابي المتطرف مصاص الدماء في متاهته الأخيرة ، دون أن يتمكن من فصل جزء آخر من أجزاء الوطن ، لأنه في هذه الجولة الأخيرة واجه (مجاهدين) صادقين يحبون الموت كحبه للحياة ، وبنهاية الجولة سيسدل الستار على آخر مشهد لدولة دينية بأرض السودان وسينخرط الناس في مسيرة وطن لا مساحة فيه للمتشنجين ، ولا قداسة فيه للتدين الزائف ، تكون المواطنة فيه أساس الحقوق والواجبات ، لا أفضلية لأحد على آخر إلّا بقدر ما أفاد ، بصرف النظر عن كونه مسيحياً أو مسلماً. إنّ الحركة الإسلامية السودانية فقدت كل مبررات الاستمرار ، لأن حججها واهية وممارستها طرحت طرحاً قبيحاً لتصورها للدين ، وتمسكت بمقاليد الحكم ظلماً وبطشاً وتجبراً ، إلى أن أتاها أمر ربها والطوفان ، مخلفة وطن ركام ، لم تترك طائراتها الحربية الأجيرة موطئ قدم للمصلين ، إلّا وأحالته إلى بقايا عظام وجماجم وأشلاء ، لأناس كانوا يصلون الفجر حضوراً وتسابقاً لنيل أجر البكور ، هكذا يجري طي الصفحة المتسخة بحبر أقلام الضلال ، ليستشرف المسلمون والمسيحيون والزرق والبيض والغربيون والشرقيون والشماليون والجنوبيون ، حقبة جديدة لدولة لا يظلم فيها أحد ، إنّها حقبة زوال الحركة الإسلامية السودانية.
ismeel1@hotmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى